لا تزال واشنطن تنتهج سياسة المراقبة عن قرب لتطورات المرحلة الانتقالية في سوريا، في ظل تحديات متعددة تواجهها الحكومة السورية الانتقالية، بدءًا من إعادة بناء شرعية وطنية، مرورًا بمواجهة التدهور الاقتصادي، وصولًا إلى محاولة رأب الصدع الطائفي الذي يهدد بتقويض أي استقرار مستقبلي.

وفي الوقت نفسه، يبدو أن الإدارة الأميركية تحاول موازنة دعمها الإنساني مع الإبقاء على أدوات الضغط السياسي، عبر إبقاء العقوبات الاقتصادية التي كانت قد فرضتها منذ عقود على النظام السوري.

التخفيف الأميركي للعقوبات.. خطوة تكتيكية وليست تحولا جذريا

في خطوة تعكس حذرًا دبلوماسيا، تخطط إدارة الرئيس جو بايدن لتخفيف القيود على المساعدات الإنسانية لسوريا، وفقًا لما كشفته صحيفة وول ستريت جورنال.

هذه التخفيفات تشمل تسهيل تسليم الإمدادات الإنسانية، لكنها لا تمتد لتشمل القطاعات الرئيسية الأخرى كالبناء والطاقة.

وأشار الباحث بمعهد الشرق الأوسط في واشنطن، سمير التقي، أثناء حديثه للتاسعة على سكاي نيوز عربية إلى أن هذه الخطوة تعكس "الرغبة الأميركية في تخفيف حدة الأزمة الإنسانية دون منح دعم مباشر للحكومة الانتقالية".

وذكر أيضًا: "كانت العقوبات الأميركية وسيلة فعّالة سياسيا، لكنها أدت إلى تدمير الجيش السوري وتراجع الاقتصاد بشكل يصعب إصلاحه سريعاً".

وأشار التقي إلى أن "تخفيف القيود على المساعدات يشير إلى استعداد أميركي لتغيير محدود في سياستها تجاه سوريا، لكنه لا يعني بأي حال من الأحوال تخفيف العقوبات الواسعة التي تفرضها على دمشق".

تحديات داخلية تواجه الحكومة الجديدة

تواجه الحكومة الانتقالية السورية، تركة ثقيلة من الفساد والانقسام الطائفي. ويرى وزير الخارجية في الحكومة أسعد الشيباني أن العقوبات الاقتصادية تمثل عقبة رئيسية أمام إنعاش الاقتصاد السوري.

وفي هذا السياق، تسعى الحكومة الانتقالية لتعزيز العلاقات مع دول الجوار كالإمارات وقطر والأردن بهدف استقطاب الدعم الاقتصادي والدبلوماسي.

من جهة أخرى، أكد سمير التقي أن "تعزيز شرعية الحكومة الانتقالية يعتمد بالدرجة الأولى على قدرتها على تحقيق مصالحة وطنية شاملة تمنع الانتقام وتحفّز الوحدة الوطنية".

أخبار ذات صلة

وزيرا خارجية السعودية وأميركا يبحثان المستجدات الإقليمية
ما هي الإعفاءات التي أقرّتها أميركا للعقوبات على سوريا؟

وأضاف: "الوضع في سوريا هش للغاية، والانتقال السياسي يواجه تحديات لا تقتصر على الداخل، بل تشمل أيضًا الموقف الدولي المتردد".

الدور الأميركي.. بين دعم محدود ومراقبة حذرة

تبدو واشنطن غير مستعدة لتقديم دعم سياسي كامل للحكومة الانتقالية. فبينما تؤكد التزامها بتقديم المساعدات الإنسانية، تواصل الإبقاء على عقوبات اقتصادية مشددة. ويرى التقي أن "الولايات المتحدة تستخدم العقوبات كأداة ضغط سياسي، لكنها تدرك أن نجاح المرحلة الانتقالية يتطلب أكثر من مجرد تخفيف القيود الإنسانية".

وفي سياق آخر، كشف التقي عن "تحفظات داخل الكونغرس الأميركي تجاه الاعتراف بالحكومة الجديدة دون تحقيق تقدم ملموس على صعيد المصالحة الوطنية".

وأضاف: "النقاشات في واشنطن تشير إلى وجود تيارات مختلفة حول كيفية التعامل مع الملف السوري، حيث يؤيد البعض تعزيز الدعم الإنساني بينما يفضل آخرون انتظار وضوح الرؤية السياسية".

العقوبات الدولية وتأثيرها المتراكم

منذ عام 1979، فرضت الولايات المتحدة عقوبات متتالية على سوريا، بداية بتصنيفها كدولة راعية للإرهاب، مرورًا بحظر قطاع النفط وتجميد الأصول المالية، وصولًا إلى عقوبات "قانون قيصر" في 2020. هذه العقوبات أثرت بشكل كبير على الاقتصاد السوري، لكنها لم تنجح في إضعاف النظام السابق بشكل كامل.

ويرى الباحث سمير التقي أن العقوبات ألحقت أضرارا بالغة بالمجتمع السوري أكثر مما أضرت بالنظام. وأوضح أن تدهور الاقتصاد أدى إلى انهيار الجيش السوري، مما جعل الجنود غير قادرين على الدفاع عن وطنهم.

وأضاف: "على الرغم من تأثير العقوبات، إلا أنها ليست كافية لتحقيق انتقال سياسي، بل تحتاج إلى دمجها ضمن استراتيجية شاملة تشمل المصالحة الوطنية وبناء الثقة".

الدور الإيراني في استغلال الانقسامات لتعزيز النفوذ

تسعى إيران إلى استغلال الفراغ السياسي والانقسام الطائفي في سوريا لتعزيز نفوذها. وحذر التقي من أن "طهران تستخدم الأحقاد الطائفية كأداة لتعزيز مصالحها القومية، مستفيدة من حالة الضعف والانقسام".

وأضاف: "إيران تراهن على فشل الحكومة الانتقالية في تحقيق المصالحة، مما يعزز تدخلها في الشؤون الداخلية السورية".

ويرى التقي أن "إطفاء الأحقاد الطائفية يجب أن يكون أولوية للحكومة الانتقالية، ليس فقط لتعزيز شرعيتها، بل أيضًا لمنع التدخلات الخارجية التي تزيد من تعقيد المشهد".

مخاطر الانزلاق نحو الفوضى

رغم الجهود المبذولة لتحقيق انتقال سياسي، فإن الوضع في سوريا يبقى هشًا للغاية. ويرى التقي أن "حادثة واحدة قد تؤدي إلى انهيار العملية الانتقالية بأكملها". وأكد أن "السيطرة على انتشار الأسلحة وضمان الأمن المحلي هما شرطان أساسيان لتحقيق الاستقرار".

وقال أيضا إن تحقيق المصالحة الوطنية يحتاج إلى تجاوز الضغائن والتركيز على إنشاء دولة تشمل جميع العناصر السورية. وأكد أن المواطنين لا يريدون إعادة إنتاج نظام بشار الأسد، بل يسعون لتحقيق دور مؤثر في مستقبل وطنهم.

إن التحديات التي تواجه سوريا في المرحلة الانتقالية تضع الحكومة الجديدة أمام اختبار صعب. فبين ضغوط العقوبات الدولية وتحديات المصالحة الوطنية، يبقى نجاح التجربة الانتقالية مرتبطًا بقدرتها على تعزيز الوحدة الوطنية وتحقيق السلم الأهلي.

وكما قال سمير التقي: "المجتمع الدولي يمنح فرصة محدودة للحكومة الحالية. نجاحها يعتمد على الحكمة في إدارة الوضع الداخلي وعلى دعم دولي لا يقتصر على المساعدات الإنسانية، بل يمتد إلى إعادة بناء شرعية وطنية تمثل تطلعات الشعب السوري".

هل تستطيع واشنطن والدول الداعمة تحقيق توازن بين دعم المرحلة الانتقالية ومصالحها السياسية؟ الإجابة قد تحدد مستقبل سوريا لعقود قادمة.