في مشهد سياسي يزداد تعقيداً قبيل الانتخابات الألمانية المرتقبة في فبراير المقبل، أثار الملياردير الأميركي، إيلون ماسك، موجة من الجدل بعد إعلانه عن دعم صريح لحزب "البديل من أجل ألمانيا" اليميني الشعبوي.
هذا التدخل اللافت من شخصية عالمية مشهورة بتأثيرها في مجالات التكنولوجيا والاقتصاد يسلط الضوء على أبعاد جديدة للعلاقة بين الاقتصاد والسياسة، خاصة عندما يمتد نفوذ قادة الأعمال إلى المشهد السياسي الدولي.
لم يقتصر دعم ماسك على تغريدة عابرة عبر منصته "X"، بل تجاوزه إلى مقال رأي نشره في إحدى الصحف الألمانية، يؤكد فيه موقفه الذي فتح الباب أمام تساؤلات حول دوافعه الحقيقية.
وما بين الانتقادات الحادة من الأحزاب الألمانية التقليدية وبعض المواقف الداعمة التي تبرر تدخله باعتباره رأي مشروع من مستثمر مهم في البلاد، تكشف هذه الخطوة عن انقسامات داخل ألمانيا حول تأثير الأفراد ذوي النفوذ العالمي في السياسة المحلية.
ومع اقتراب موعد الانتخابات، يبقى التساؤل قائماً حول مدى تأثير هذا الدعم على المشهد السياسي الألماني. هل يمكن أن يعزز من فرص حزب "البديل" أم أنه سيؤدي إلى نتائج عكسية تسلط الضوء على الانقسام السياسي في البلاد؟
دعم الحزب
من برلين، يؤكد الخبير الاقتصادي، الدكتور ناجح العبيدي، في حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" أن:
- التحرك السياسي الأخير الذي قام به الملياردير الأميركي إيلون ماسك أثار جدلاً واسعاً في الأوساط الألمانية والدولية، بعد إعلان دعمه الصريح لحزب "البديل من أجل ألمانيا" اليميني الشعبوي، قبيل الانتخابات الألمانية المقررة في 23 فبراير 2025.
- ماسك، الذي كان له دور فاعل في الساحة السياسية الأميركية من خلال دعمه للرئيس دونالد ترامب، قرر الآن التدخل في السياسة الألمانية بطريقة أثارت انقسامات واسعة.
- بدأ ماسك بإعلان دعمه للحزب اليميني عبر تغريدة على منصة "X"، التي يمتلكها، قال فيها إن حزب البديل وحده "قادر على إنقاذ ألمانيا".
- بعد ذلك نشر مقال رأي في صحيفة "فيلت"، أبرز فيه مبرراته لدعم الحزب، مسلطاً الضوء على ما يراه إخفاقات الحكومة الألمانية الحالية.
انتقد ماسك بشكل خاص السياسة الاقتصادية والبيئية للائتلاف الحاكم، لا سيما قرار إغلاق المفاعلات النووية، مشيداً ببرنامج الحزب الداعي إلى العودة للطاقة النووية كحل لتحفيز الاقتصاد. كما أيد في الوقت نفسه مواقف الحزب المناهضة للهجرة غير الشرعية، مشدداً على أهمية الحفاظ على الهوية الثقافية والأمن في ألمانيا.
ويوضح العبيدي أن ردود الفعل على هذا التدخل تراوحت بين الانتقادات الحادة من قبل الأحزاب الألمانية والصحف ذات التوجه اليساري، وبين الدفاع عنه باعتباره رأي مشروع؛ خصوصاً أن ماسك يعتبر مستثمراً كبيراً في ألمانيا من خلال استثماراته في قطاع السيارات الكهربائية عبر شركة "تسلا".
ويختتم الخبير الاقتصادي تصريحاته بالقول إن الدعم الذي يقدمه ماسك لحزب البديل قد يعزز فرص الحزب في تحقيق مكاسب كبيرة في الانتخابات المقبلة، مشيراً إلى أن تأثير ماسك يتجاوز الاقتصاد والتكنولوجيا ليطال السياسة أيضاً، مما يجعله لاعباً مثيراً للجدل على الساحة الدولية.
جدل
ومما يعبر عن حالة الجدل التي أوجدها المقال، فإنه رداً على نشر المقال، أعلنت رئيسة قسم مقالات الرأي في الصحيفة استقالتها في منشور على منصة إكس. كما هاجم سياسيون ألمان ماسك.
بينما على الجانب الآخر، دافع رئيس تحرير الصحيفة عن قرار نشر مقال الرأي، قائلاً إن الديمقراطية والصحافة تزدهران بفضل حرية الرأي.
وسلط تقرير لـ "رويترز" الضوء على انتقادات سياسيين ألمان – من الحكومة والمعارضة على حد سواء- بعد موقفه الذي عبر عنه في تغريدته السابقة ثم مقاله في الصحيفة الألمانية، والذين وصفوا هذا الموقف بأنه شكل من "التطفل".
ونقل التقرير تصريحات فريدريش ميرز، وهو زعيم حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي المعارض، والذي يعد المرشح الأوفر حظاً لخلافة شولتس في منصب المستشار، والتي قال فيها في مقابلة مع مجموعة فونكه ميديا غروب: "لا أستطيع أن أتذكر حالة مماثلة من التدخل في تاريخ الديمقراطيات الغربية خلال حملة انتخابية لدولة صديقة"، واصفاً في الوقت نفسه مقال ماسك بأنه "تطفلي ومتكلف".
دوافع ماسك
من برلين أيضاً، يقول الكاتب المتخصص في الشؤون الأوروبية، عبد الرحمن عمار، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن هناك تفسيرين رئيسيين لدوافع ماسك:
التفسير الأول: الجهل بالمشهد السياسي الألماني:
- ماسك قد يكون غير ملم بشكل كاف بتوجهات حزب "البديل من أجل ألمانيا"، الذي يُعرف بمواقفه الشعبوية المتطرفة.
- الحزب يعارض السيارات الكهربائية، وهو ما يتعارض مع مصالح ماسك وتوجهاته كرائد في صناعة السيارات الكهربائية.
- كما أن الحزب يدعو إلى تقوية العلاقات مع روسيا والصين ويعارض السياسات الأميركية، مما قد يُفسر تصريحات ماسك على أنها ناتجة عن سوء فهم لتوجهات الحزب.
التفسير الثاني: استراتيجية واعية لإحداث اضطراب سياسي:
- هناك قراءة أخرى تُرجح أن ماسك يدرك جيداً المشهد السياسي، وأن دعمه لحزب "البديل" قد يكون متعمداً بهدف زعزعة الاستقرار السياسي في ألمانيا، على غرار ما حدث خلال فترة رئاسة دونالد ترامب، الذي دعم الأحزاب اليمينية الشعبوية في أوروبا لتعزيز ضعف الاتحاد الأوروبي وتقوية النفوذ الأميركي.
ويتطرق عمار إلى التأثيرات المحتملة لموقف ماسك، موضحاً أن ذلك الموقف قد يفاقم التوتر بين واشنطن وبرلين، خاصة في ظل حساسية المرحلة الحالية مع اقتراب الانتخابات في ألمانيا. وقد شهدت ألمانيا سابقاً توترات مشابهة خلال فترة ترامب الأولى.
كما يشير إلى أن هناك أصوات في ألمانيا تدعو إلى استدعاء السفير الأميركي للاحتجاج على هذه التصريحات باعتبارها تدخل في الشؤون الداخلية. ومع ذلك، يرى البعض أنه من الأفضل الانتظار حتى تبدأ الإدارة الأميركية الجديدة عملها بشكل رسمي.
ويضح عمار أنه قد تدفع تصريحات ماسك البعض إلى دعم حزب "البديل"، في حين قد يتراجع آخرون عن دعمه بسبب التدخل الأميركي. وبالتالي، فإن هذه التصريحات قد تأتي بنتائج عكسية، مشدداً على أن موقف ماسك أثار جدلاً في الأوساط السياسية الألمانية ويعتبر عاملًا جديدًا يزيد من تعقيد العلاقات بين ألمانيا والولايات المتحدة. ومن الواضح أن التعامل بين الجانبين سيصبح أكثر حذراً في المستقبل، مما قد يُضعف أجواء الثقة والتعاون.
موقف ماسك
الكاتب الصحافي المتخصص في العلاقات الدولية من برلين، محمد الخفاجي، يقول في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إن أسباب دعم إيلون ماسك لحزب البديل من أجل ألمانيا قد تكون نتيجة مزيج من العوامل الاقتصادية والثقافية، التي تعكس اهتماماته الشخصية وأيديولوجياته.
أسباب اقتصادية:
- ماسك انتقد علناً السياسات البيئية والاقتصادية لحكومة ألمانيا الحالية، خاصة تلك التي تقودها الأحزاب التقليدية مثل حزب الخضر.
- يرى ماسك أن السياسات البيئية، بما في ذلك التنظيمات المتعلقة بالطاقة الخضراء، تعرقل الابتكار الصناعي.
- بصفته مستثمراً رئيسياً في مصنع تسلا في براندنبورغ، يبدو أن ماسك يشعر بالإحباط من البيروقراطية الزائدة، ويرى في حزب البديل من أجل ألمانيا إمكانية دعم بيئة استثمارية أكثر مرونة.
أسباب ثقافية واجتماعية:
- يتبنى الحزب خطاباً محافظاً قد يتماشى مع بعض مواقف ماسك، خاصة فيما يتعلق بالقيم الأسرية والقضايا المتعلقة بتغيير الهوية الجنسية.
- تجربة ماسك الشخصية مع ابنه المتحول جنسياً وقطيعة العلاقة بينهما قد أثرت على آرائه بشأن قضايا مجتمع الميم.
- تصريحات ماسك الأخيرة عن "أيديولوجيات اليسار المتطرف" تعكس توافقاً مع الخطاب المحافظ الذي يتبناه الحزب.
الرغبة في التأثير السياسي:
- من المحتمل أن يسعى ماسك إلى توسيع نفوذه السياسي عبر دعم أحزاب معارضة في دول كبرى مثل ألمانيا، مما يمهد لدور أكبر له في السياسة الأميركية مستقبلاً.
ويُبرز خفاجي عوامل التأثير على الناخب الألماني في الانتخابات المقبلة من جانب موقف ماسك، مشيراً إلى أن الرئيس التنفيذي لشركة تسلا بشخصيته العالمية وتأثيره الواسع، قد يسهم في زيادة شعبية حزب البديل من أجل ألمانيا، خاصة بين الشباب والناخبين غير الحزبيين الذين يعتبرونه نموذجاً للابتكار والنجاح. كما أن موقفه قد يؤدي إلى تغطية إعلامية أوسع للحزب وبرامجه.
لكن على الجانب الآخر، يشير إلى أن:
- دعم ماسك لحزب قد يدفع الناخبين المعتدلين والوسطيين إلى تعزيز موقفهم ضد الحزب.
- كما أنه بالنسبة للبعض، يُنظر إلى ماسك كشخصية مثيرة للجدل تشبه في خطابها شخصيات مثل دونالد ترامب، مما قد يثير مخاوف من صعود تيارات يمينية شعبوية تهدد استقرار أوروبا.
- دعم ماسك قد يُفسر على أنه ترويج لسياسات متطرفة، مما يزيد المخاوف من تصاعد نفوذ اليمين الشعبوي في ألمانيا..
- الأحزاب التقليدية استغلت دعم ماسك للهجوم على حزب البديل من أجل ألمانيا، مدعية أن الحزب يخدم مصالح الرأسمالية الأجنبية وليس مصالح الشعب الألماني.
- رغم الضجة الإعلامية من المرجح أن يبقى تاثير دعم ماسك محدوداً على الناخبين المترددين الذين يركزون على القضايا المحلية والاقتصادية المباشرة بدلا من المواقف الشخصية لشخصيات عالمية مثل ماسك .
وفي الختام، يوضح الخفاجي أن دعم إيلون ماسك لحزب البديل من أجل ألمانيا يعكس مزيجاً معقداً من المصالح الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، وقد يكون له تأثير متباين على المشهد السياسي والانتخابي في ألمانيا، ومع ذلك فإن النتائج الفعلية لهذا ستعتمد بشكل كبير على كيفية استجابة الناخبين والأحزاب المنافسة لهذا الحزب.