في ظل التنافس العالمي المتزايد على ريادة تقنيات الذكاء الاصطناعي، تبرز منطقة جنوب شرق آسيا كلاعب واعد يسعى إلى تعزيز مكانته في هذا المجال المتسارع.
وبينما تستفيد بعض دول المنطقة من بنى تحتية رقمية متطورة نسبياً واستثمارات استراتيجية، تواجه أخرى تحديات بنيوية ومؤسسية تعيق تقدمها.
في هذا السياق، يشير تقرير لشبكة "سي إن بي سي" الأميركية، اطلع موقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" عليه، إلى أن "الاقتصادات الناشئة في جنوب شرق آسيا تتسابق لتصبح مركزاً رئيسياً للذكاء الاصطناعي، في منافسة تجمع بين التعاون الإقليمي والصراع الهادئ فيما بينها".
ونقل عن جون لي كوي، من شركة الاستشارات Access Partnership إشارته إلى أن:
- الطفرة في الذكاء الاصطناعي تمثل فرصة أمام دول جنوب شرق آسيا للاستفادة من بنيتها التحتية الحالية.
- دول آسيان "حققت تقدماً كبيراً" في زيادة الوصول إلى الإنترنت خلال العقد الماضي، مما أوجد جيلًا رقمياً جاهزاً لتبني الذكاء الاصطناعي والابتكار من خلاله.
- مع تبني الهواتف الذكية بنسبة تتراوح بين 65 و90 بالمئة في دول المنطقة، من المتوقع أن تتشكل أنماط استخدام الذكاء الاصطناعي بسرعة.
لكن على الجانب الآخر، ترى الرئيسة التنفيذية لشركة Network Media Consulting وباحثة في كلية لندن للاقتصاد، غريس يوهان وانغ، أن أياً من دول آسيان ليس قريباً من تصدر سباق الذكاء الاصطناعي في المستقبل القريب. وتقول:
- آسيان كمنطقة أظهرت معدل نمو قوي في الناتج المحلي الإجمالي في السنوات الأخيرة، وتعد واحدة من الكتل الاقتصادية الأكثر ازدهارًا على مستوى العالم في المستقبل المنظور.
- لكن البنية التحتية الرقمية المتطورة، وتعليم المواهب التقنية العالية في مجال التكنولوجيا بما في ذلك الذكاء الاصطناعي، بالإضافة إلى الجامعات ذات المستوى العالمي (في مجالات العلوم والتكنولوجيا والاقتصاد والرياضيات)، والتعاون الصناعي والبحثي الناجح، هي عناصر لا تزال غير مكتملة في منظومة الذكاء الاصطناعي في آسيان.
- المنافسة بين دول المنطقة تتركز بشكل كبير على جذب الاستثمارات الأجنبية والتعاون مع الجامعات العالمية الرائدة.
سنغافورة في الصدارة
كانت سنغافورة من أوائل الدول التي كشفت عن رؤيتها في العام 2019، وقامت بتحديث خططها في ديسمبر 2023، متضمنة توسيع القوى العاملة في مجال الذكاء الاصطناعي إلى 15 ألف شخص (ثلاثة أضعاف الرقم الحالي) بالإضافة إلى إنشاء مراكز للبحث والتطوير. وفي سبتمبر الماضي، افتتحت البلاد مركزًا للتميز في الذكاء الاصطناعي بقطاع التصنيع بهدف دمج التكنولوجيا في سلاسل التوريد.
بدعم حكومي، تعهدت سنغافورة باستثمار مليار دولار سنغافوري (741 مليون دولار أميركي) على مدى السنوات الخمس المقبلة. وقد احتلت سنغافورة المركز الأول في مؤشر جاهزية الذكاء الاصطناعي لآسيا والمحيط الهادئ لعام 2023، الذي أعدته شركة Salesforce، متفوقة على دول أخرى مثل ماليزيا وإندونيسيا وفيتنام.
كما تواصل دول الجوار تحقيق تطلعاتها في مجال الذكاء الاصطناعي:
- تعتمد فيتنام، على سبيل المثال، على قدراتها في التجميع والاختبار والتعبئة لتلبية الطلب العالمي على الرقائق. وتشمل استراتيجيتها الوطنية طموحات لتصبح مركزًا للأبحاث وتطوير حلول الذكاء الاصطناعي في آسيان بحلول عام 2030، وفق تقرير الشبكة الأميركية.
- أما كمبوديا، فتطمح إلى تسخير الذكاء الاصطناعي لتحقيق "المنفعة الاجتماعية" ودعم التكنولوجيا الزراعية، في قطاع يمثل 22 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد ويوفر فرص عمل لنحو 3 ملايين شخص.
- في المقابل، لا تزال الدول الأقل تقدماً رقمياً تواجه تحديات أكبر للوصول إلى جاهزية الذكاء الاصطناعي، ناهيك عن تطوير سياسات متكاملة.
عوامل داعمة
خبير تكنولوجيا المعلومات، محمد الحارثي، قال في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية": تسعى دول جنوب شرق آسيا بقوة لترسيخ مكانتها كمركز إقليمي رائد في الذكاء الاصطناعي، مستندة إلى مجموعة من العوامل الداعمة والفرص الواعدة.
- تمتع المنطقة بقاعدة سكانية ضخمة ومتنوعة تتيح إمكانية الوصول إلى كميات هائلة من البيانات التي تعدّ وقوداً أساسياً لتطوير نماذج الذكاء الاصطناعي.
- إلى جانب ذلك، تسارع التحول الرقمي في قطاعات رئيسية مثل الصحة والتعليم والتجارة الإلكترونية يعزز الطلب على حلول الذكاء الاصطناعي لتحسين الكفاءة وجودة الخدمات.
- تبرز دول مثل سنغافورة وماليزيا في تقديم استراتيجيات وطنية متقدمة تشمل دعم الابتكار وتمويل الأبحاث وتطوير البنية التحتية الرقمية.
- كما أن المنطقة تستفيد من وجود مواهب شابة وبرامج تدريبية تركز على المهارات المتخصصة في الذكاء الاصطناعي، إلى جانب شراكات دولية مع شركات تقنية رائدة ومؤسسات أكاديمية لتعزيز تبادل المعرفة والابتكار.
- لكن رغم هذه الفرص، تواجه دول جنوب شرق آسيا تحديات جوهرية قد تعيق تقدمها. من أبرز هذه التحديات نقص البنية التحتية التكنولوجية في بعض الدول مثل ميانمار ولاوس، والفجوة التنموية الواضحة بين دول متقدمة مثل سنغافورة وأخرى نامية.
- إضافة إلى ذلك، تبرز تحديات قانونية وأخلاقية تتعلق بتنظيم استخدام الذكاء الاصطناعي، وحماية الخصوصية، وضمان الأمن السيبراني.
وفي ظل المنافسة العالمية مع دول مثل الصين والولايات المتحدة، تواجه دول جنوب شرق آسيا ضغطًا كبيرًا للحفاظ على تنافسيتها. ومع ذلك، فإن التركيز على الاستثمار في البنية التحتية الرقمية، وتطوير سياسات تنظيمية شاملة، وتعزيز التعليم والبحث العلمي، يمكن أن يدفع المنطقة لتحقيق طموحها في أن تصبح مركزًا عالميًا للذكاء الاصطناعي، وفق الحارثي.
ويشار إلى أن دول آسيان أصدرت بشكل جماعي دليلاً إقليمياً لحوكمة وأخلاقيات الذكاء الاصطناعي في فبراير الماضي. وقبل ذلك بعام، حاول مسؤولون من الاتحاد الأوروبي خلال جولة لهم في جنوب شرق آسيا إقناع دول المنطقة باتباع لوائح الاتحاد الأوروبي المتعلقة بالذكاء الاصطناعي.
لكن دول آسيان رفضت التأثر بذلك، معتبرة أن الاتحاد الأوروبي تسرّع في تبني اللوائح التنظيمية دون فهم كامل لمخاطر الذكاء الاصطناعي.
وفي هذا السياق، وبحسب ما نقلته "سي إن بي سي" الأميركية، عن الباحثة غريس يوهان وانغ، فإن:
- اختلاف آسيان عن أوروبا في مجال أخلاقيات الذكاء الاصطناعي لا يعكس صراعاً بين نهج غربي أو صيني، وإنما يؤكد أن التعاون الدولي هو جوهر إطار العمل الأخلاقي للذكاء الاصطناعي في آسيان.
- التحدي الأساسي الذي تواجهه دول آسيان "ليس تقنياً بل سياسياً".
- ما سيضمن نجاح خطط الذكاء الاصطناعي هو الحفاظ على شريحة الشباب المتمرسة في التكنولوجيا.. استراتيجية وطنية للتعليم قد تكون الوسيلة الأكثر فاعلية لدعم خطط الذكاء الاصطناعي.
فرص وتحديات
من جانبه، أكد أستاذ الاقتصاد الدولي، الخبير الاقتصادي، الدكتور علي الإدريسي، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، أن:
- منطقة جنوب شرق آسيا تواجه مزيجاً من الفرص والتحديات فيما يتعلق بتطوير وتبني تقنيات الذكاء الاصطناعي.
- المنطقة تشهد بيئة ديناميكية للنمو والابتكار، مع العديد من العوامل الداعمة التي تتيح لها التقدم في هذا المجال.
أشار الإدريسي إلى أن اقتصادات جنوب شرق آسيا، مثل سنغافورة وماليزيا وإندونيسيا، تشهد معدلات نمو اقتصادي مرتفعة، مما يُترجم إلى توافر الموارد لتمويل مشاريع الذكاء الاصطناعي وتعزيز بنيتها التحتية.
وأوضح أن وجود عدد كبير من السكان الشباب، إضافة إلى التوسع في استخدام التكنولوجيا، يسهم في خلق طلب متزايد على التطبيقات والخدمات التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي، لا سيما في مجالات مثل التجارة الإلكترونية، والرعاية الصحية، والتعليم.
كما أشار في الوقت نفسه إلى تأثير الدور الذي وصفه بـ "المحوري" الذي تلعبه الحكومات في تعزيز الذكاء الاصطناعي من خلال استراتيجيات وطنية مدروسة، مثلما يحدث في سنغافورة، حيث تُقدم حوافز جاذبة للشركات الناشئة والمستثمرين في المجال.
يشار في هذا السياق إلى أن رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)، التي تضم عشر دول بإجمالي تعداد سكاني يبلغ 672 مليون نسمة، تتمتع بمزايا مقارنة بأوروبا والولايات المتحدة.
تتميز المنطقة بشبابها الذي يتراوح بين 15 و34 عامًا ويبلغ عدده أكثر من 200 مليون شخص، ما يجعل سكانها الشباب الملمين بالتكنولوجيا أكثر تقبلاً للتطورات التقنية المستقبلية. بالإضافة إلى ذلك، تحظى المنطقة بدعم حكومي لتسريع تطبيق الذكاء الاصطناعي، مما يمكن أن يعزز فرص العمال المحليين.
كذلك لفت الإدريسي إلى الجهود المبذولة في تدريب الكوادر البشرية، سواء عبر برامج تعليمية محلية أو من خلال شراكات دولية مع جامعات عالمية، مما يسهم في سد فجوة المهارات وتعزيز جاهزية القوى العاملة المستقبلية.
وأضاف: "المنطقة أصبحت وجهة جذابة للشركات العالمية بفضل النمو الاقتصادي والابتكار التكنولوجي، مما يعزز من تدفقات الاستثمارات الأجنبية ويوفر فرصًا جديدة للتعاون الدولي".
وفيما يتعلق بالتحديات، أشار خبير الاقتصاد الدولي، إلى أنه في بعض الدول يعد نقص الكفاءات التقنية المؤهلة تحدياً رئيسياً؛ فيما تواجه العديد من الدول صعوبة في توفير كوادر بشرية متخصصة قادرة على تطوير وتنفيذ تقنيات الذكاء الاصطناعي.
ورغم التقدم الملحوظ في بعض الدول، إلا أن التفاوت في مستوى جاهزية البنية التحتية التكنولوجية بين دول المنطقة يمثل عائقًا أمام التكامل والتعاون الإقليمي. كما لفت يف الوقت نفسه إلى عامل لمنافسة الإقليمية والعالمية.