يتابع الاقتصاد اللبناني بحذر شديد المسار الذي ستؤول إليه الأحداث السياسية والأمنية على أرض جارتها سوريا، فتَبدُّل المشهد السياسي جذرياً هناك، يضع اقتصاد لبنان أمام مفترق طرق حاسم، خصوصاً أن قدر الاقتصاد اللبناني، يرتبط بشكل وثيق مع ما يحدث خلف حدوده الشرقية والشمالية.
فبين سيناريو الاستقرار في سوريا بعد سقوط حكم بشار الأسد، وسيناريو دخول البلاد في دوامة جديدة من الانقسامات، يتأرجح المشهد الاقتصادي اللبناني بين الأمل بالنهوض والقلق من الانهيار، فسوريا ليست جارة لبنان فحسب، بل هي المنفذ البري الوحيد الذي يربطه بالعالم الخارجي، وشريك رئيسي في التجارة والاستيراد والتصدير، ومحطة وصل طاقوية مع البلدان المنتجة للكهرباء.
وإلى جانب ذلك، تشكّل سوريا مصدراً مهماً للرساميل المستثمرة في المشاريع اللبنانية، بشكل مباشر أو تلك المودعة في المصارف، فضلاً عن كونها مزوداً رئيسياً للعمالة الماهرة في القطاعين الزراعي والعمراني.
الاقتصاد اللبناني.. من دمشق إلى بيروت
ارتباط الاقتصاد اللبناني بما يجري في سوريا، برزت ملامحه بشكل واضح خلال العقد الماضي، فقد دفعت الأزمة التي بدأت في سوريا عام 2011 بلبنان، إلى مواجهة سلسلة من التداعيات الاقتصادية العميقة، إذ ارتفع العجز في ميزان المدفوعات، وتوقفت مشاريع الربط الكهربائي، وازداد الضغط على سعر الصرف، وتفاقمت مشكلة التهريب على الحدود وارتفعت تكلفة التصدير، حيث إن كل ذلك ألقى بثقل إضافي على اقتصاد لبنان، الذي أنهكته أيضاً أعباء اللاجئين السوريين، مما فاقم هشاشة الوضع المعيشي.
لذلك، فإن إتزان الأوضاع في سوريا وعودتها إلى خريطة التجارة الدولية، من شأنه أن يسهم في تخفيف الضغوط الاقتصادية على لبنان، فرفع العقوبات الاقتصادية عن سوريا يعني أن لبنان سيكون قادراً على استيراد الكهرباء الأردنية والغاز المصري بتكلفة منخفضة، مما يساعده على تأمين نحو 800 ميغاواط من الكهرباء، أي حوالي 25 في المئة من احتياجاته الطاقوية.
تضاؤل عبء 1.8 مليون نازح سوري
كما أن تحسن واستقرار الأوضاع في سوريا سيخفف بشكل كبير من العبء الذي يعانيه لبنان، من جراء استقبال أكثر من 1.8 مليون نازح سوري، الذين تقدّر الجهات المختصة كلفتهم على الاقتصاد اللبناني، بما بين 3 و6 مليارات دولار سنوياً، إضافة إلى ذلك، ستشهد كلفة عبور شاحنات التصدير اللبنانية عبر الأراضي السورية انخفاضاً ملحوظاً، فخلال الأعوام الستة الأخيرة، ارتفعت هذه التكلفة بشكل كبير من نحو 50 دولاراً إلى 5000 دولار، قبل أن تتراجع هذا العام إلى نحو 2500 دولار.
وقد تم فرض بعض من هذه الرسوم بشكل رسمي لتمويل نفقات الحرب، بينما كانت رسوم أخرى عبارة عن "إتاوات"، مما أدى إلى تراجع دراماتيكي بنسبة حوالي الثلث في صادرات لبنان إلى سوريا، ومنها إلى بقية الدول العربية.
أما في حالة السيناريو الثاني، فإن افتراض حدوث مشكلات في سوريا، سيحمل تداعيات سلبية كبيرة على الاقتصاد اللبناني، إذ قد يؤدي ذلك إلى انقطاع طرق التصدير البرية بشكل كامل، مما يعرقل حركة التجارة ويسبب خسائر اقتصادية فادحة.
بالإضافة إلى ذلك، سيزداد عدد النازحين الفارين من الأزمات في سوريا، مما سيفرض على لبنان عبئاً جديداً، سواء من حيث توفير المساعدات أو تأمين الخدمات الأساسية. علاوة على ذلك، فإن تدهور الوضع الاقتصادي في سوريا سيزيد من الضغط على سعر الصرف في لبنان، وهي ظاهرة بدأت في التفاقم بشكل ملحوظ خلال السنوات الخمس الأخيرة.
صدمة إيجابية للطرفين
يقول كبير الاقتصاديين في مجموعة بنك بيبلوس الدكتور نسيب غبريل، في حديث لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن التطورات التي حصلت في سوريا وسقوط نظام الأسد، شكلا صدمة إيجابية لدمشق وبيروت على معظم الأصعدة، فرغم الحذر مما قد يأتي في المستقبل، فإن خفض المخاطر الأمنية والسياسية ينعكس دائماً إيجاباً على الاقتصاد، لافتاً إلى أن الشعب السوري سيكون حالياً منهمكاً في معالجة التحديات الموجودة أمامه، والمتمثلة في إعادة تكوين سلطة جديدة، وتطوير القوانين وتفعيل الاقتصاد ومحاولة استقطاب رؤوس الأموال لتمويل إعادة الإعمار، وأيضاً إعادة الاقتصاد السوري إلى محطيه العربي، حيث إن جميع هذه التطورات تُعدّ إيجابية لكل من الاقتصاد السوري، والمنطقة العربية، ولبنان.
ويكشف غبريل أن الاقتصاد السوري يمتلك إمكانيات كبيرة وهذا مفيد تحديداً للبنان، فحجم الاقتصاد السوري بلغ 59 مليار دولار أميركي في 2010 قبل أن يتقلص إلى 17 مليار دولار في 2023، كما أن الخسائر المتراكمة التي تكبدتها سوريا خلال فترة الحرب، تقدرها الأمم المتحدة بـ 448 مليار دولار، منها 118 مليار دولار كخسائر مادية و325 مليار دولار كخسائر اقتصادية، وهذا كله يعني أن البلاد ستشهد ورشة إعادة إعمار ضخمة ستنعكس إيجاباً على الشركات، والمؤسسات اللبنانية التي ستوظف الخبرة الكافية التي تمتلكها في كافة المجالات، إضافة إلى موقعها الجغرافي القريب من سوريا.
على سوريا العمل على رفع العقوبات عنها
يؤكد الخبير الاقتصادي نسيب غبريل أن التغيير الحاصل في سوريا، سيكون مفيداً للاقتصاد اللبناني، رغم أن التجسيد الكامل لهذه الفوائد سيحتاج وقتاً ولن يحدث بين ليلة وضحاها، في حين يتعين على سوريا العمل على رفع العقوبات الدولية عنها مثل "قانون قيصر"، وضمان احترامها للمواثيق الدولية، مشيراً إلى أن لبنان ليس أمام سيناريوهات بل أمام خيارات مرتبطة به مباشرة، حيث عليه اختيار أي هوية يريد لاقتصاده، فهل يريد اقتصاداً حراً منفتحاً على العالم، وتحديداً على الأشقاء العرب ودول الخليج العربي، أم يريد الاستمرار في الخيار الآخر المتمثل في الفوضى الاقتصادية التي يعيشها حالياً، والتي تتجسد بالحدود المشرعة والقطاع العام، الذي يشكل عبئاً على الاقتصاد والأسر، مع الخدمات سيئة النوعية والمكلفة جداً.
تطوير بيئة الأعمال ورفع مستوى التنافسية
يعتبر غبريل أن لبنان اليوم على أعتاب مرحلة تغيير، تتطلب تحولاً جذرياً في الذهنية الاقتصادية، فكي يتمكن من الاستفادة من التطورات الإقليمية، يجب أن يكون في وضع سليم، يتيح له الانطلاق نحو المستقبل، لافتاً إلى أن القطاع الخاص يجب أن يكون العمود الفقري للاقتصاد اللبناني، بينما ينبغي على القطاع العام أن يتحول إلى قطاع رشيد، هدفه تحسين المناخ الاستثماري وتطوير بيئة الأعمال، وبالإضافة إلى ذلك، يجب أن يركز القطاع العام على رفع مستوى تنافسية الاقتصاد، من خلال جذب الشركات العالمية المتخصصة، وضبط الحدود ومكافحة التهرب الجمركي.
سيناريوهات متساوية
بدوره يقول الصحفي والأستاذ الجامعي فيليب أبوزيد، في حديث لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إنه من المبكر جداً التنبؤ بالاتجاه الذي ستسلكه الأوضاع في سوريا، حيث لا تزال البلاد في مستهل المرحلة الانتقالية، وبناءً على ذلك، فإن احتمالات تحقق السيناريو السلبي أو الإيجابي بالنسبة للاقتصاد اللبناني، تبدو متساوية في الوقت الراهن، مشيراً إلى أنه حتى الساعة فإن الإدارة السورية الجديدة، أعلنت أنها ستكون إيجابية في التعاطي مع لبنان، وستعمد إلى تصحيح الشوائب في العلاقات السابقة. وهذا النهج الإيجابي في التعاطي ستكون انعكاساته ملموسة وواعدة على الاقتصاد اللبناني
ويضيف أبو زيد أنه يتعين على الحكومة اللبنانية أن تتعرف على توجهات الإدارة السورية الجديدة تجاه لبنان، وأن تبادر إلى فتح حوار معها، خصوصاً فيما يتعلق بفرض الضرائب والتضييق على الشاحنات العابرة للحدود، كما أن الوضع يتطلب تشكيل وفود اقتصادية لبنانية، وإجراء حوار سريع مع الجهات السورية المعنية بهذا الشأن، بهدف التأسيس للمرحلة الجديدة، مذكراً أن لبنان وقبيل أيام من سقوط نظام الأسد، دخل مرحلة جديدة عنوانها العريض تطبيق القرار 1701، حيث ستكون هناك بموجب الآلية التطبيقية لهذا القرار، لجنة دولية لمراقبة عمل المعابر البرية، وهو ما من شأنه أن يحد من حركة التهريب والاقتصاد غير الشرعي على الحدود، والذي ألحق أضراراً جسيمة بالاقتصاد اللبناني على مرّ السنوات.
الحد من تهريب الدولارات
يؤكد أبو زيد أنه لطالما شكّل تهريب الدولارات من لبنان إلى سوريا، أحد أبرز التحديات التي أضرّت بالاقتصاد اللبناني في المرحلة السابقة، حيث كانت سوريا، تحت وطأة العقوبات الدولية، وبأمسّ الحاجة إلى العملة الصعبة، وهذا الواقع فاقم من أزمة العملة اللبنانية وأدى إلى تدهور قيمتها، والآن ومع دخول سوريا مرحلة جديدة، تلوح في الأفق فرصة لوقف هذه الممارسات أو الحد منها بشكل كبير، وهو ما قد يسهم في تخفيف الضغط عن الاقتصاد اللبناني واستعادة شيء من الاستقرار النقدي.
دور محوري في تدفق الاستثمارات
شدد أبو زيد على أنه مع دخول سوريا مرحلة الاستقرار ورفع العقوبات الدولية مثل "قيصر" و"ماغنيتسكي"، ستلوح في الأفق فرص اقتصادية واعدة، تحدث نقلة نوعية في المشهد الإقليمي، حيث من المتوقع أن يشهد الاقتصاد السوري فورة استثمارات ضخمة، في قطاعات العمران والنفط والصناعة والزراعة، حيث يُتوقع أن يلعب لبنان دوراً محورياً في هذا السياق، بفضل مرافئه ومطاره، ليصبح محطة رئيسية لانطلاق الشركات الأجنبية العاملة في سوريا، الأمر الذي سيعزز من فرص العمل، ويحفّز حركة الازدهار التجاري، والسياحي والإنمائي في المناطق اللبنانية.