لم تمر سوى ست ساعات بين إعلان الرئيس الكوري الجنوبي يون سوك يول الأحكام العرفية ليلة الثلاثاء وتراجعه اللاحق عن قراره، مما ترك البلاد في حالة من الاضطراب السياسي، وسط تبعات اقتصادية تثير مزيداً من الشكوك، وتدفع إلى تراجع عميق بثقة المستثمرين في اقتصاد البلاد.
يواجه يون الآن احتمال عزله وحتى دخوله السجن بعد أن تركته مناوراته السياسية الفاشلة معزولا بشدة ويبدو أنه لم يعد لديه الوقت على الرغم من أن ولايته كانت محددة رسميا حتى عام 2027.
ونقل تقرير لصحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية، عن أستاذ الشؤون الكورية المعاصرة في جامعة ستانفورد، جي ووك شين، قوله "إن الرئيس الكوري أمامه خيارين: الاستقالة أو مواجهة إجراءات العزل".
ووصف المحللون الخطوة التي اتخذت بأنها عمل يائس من جانب زعيم منعزل ومندفع، محاصر بين اقتصاد متباطئ ومعدلات تأييد منخفضة تاريخيا وبرلمان تسيطر عليه المعارضة.
ويبدو أن حسابات يون الواضحة بأن الإعلان الجريء عن الأحكام العرفية من شأنه أن يحشد القوى السياسية اليمينية خلفه قد أتت بنتائج عكسية بشكل مذهل، حسبما قال محللون، مما جعله أكثر عرضة للخطر سياسيا وقانونيا من أي وقت مضى، لا سيما في ظل حالة الانقسام التي تشهدها البلاد. وقد ظهرت الانقسامات بوضوح في استحضار يون لشبح النفوذ الكوري الشمالي في سول.
وقال الخبير في الشؤون الكورية في مجلس شيكاغو للشؤون العالمية، كارل فريدهوف: "إن الطريقة التي تم بها تنفيذ إعلان الأحكام العرفية هي رمز لرئاسة يون بشكل عام: تخطيط سيء وتنفيذ أسوأ من ذلك"، وبدلاً من مواجهة إجراءات العزل بسبب سلسلة من الفضائح الشخصية والسياسية، فإنه سيواجه إجراءات العزل بسبب محاولة الانقلاب.
وقدم ائتلاف من المشرعين من أحزاب المعارضة في كوريا الجنوبية مشروع قانون لعزل يون بعد ظهر الأربعاء، وفقاً لمكتب المتحدث باسم حزب الديمقراطية المعارض الرئيسي. وقال مكتب الرئيس يون اليوم الأربعاء إن رئيس أركانه ومساعديه الكبار قدموا استقالاتهم.
وفيما يخص ردود الفعل المباشرة على التطورات التي شهدتها البلاد؛ فقد تراجعت أسواق كوريا الجنوبية يوم الأربعاء مع تزايد الضغوط على الرئيس يون سوك يول للتنحي بعد أن فرض ثم رفع مرسوم الأحكام العرفية في غضون ساعات.
- انخفض مؤشر كوسبي في البلاد بنسبة 1.44 بالمئة ليغلق عند 2464 نقطة، كما انخفض مؤشر Kosdaq بنسبة 1.98 بالمئة ليغلق عند 677.15 نقطة، معوضاً بعض الخسائر بعد انخفاضه بأكثر من 2 بالمئة في وقت سابق من اليوم.
- توقفت عوائد سندات الحكومة الكورية الجنوبية لأجل 10 سنوات عن الانخفاضات التي استمرت لمدة 13 يوما وتم تداولها آخر مرة عند 2.720.
- انخفضت أسواق أخرى في منطقة آسيا والمحيط الهادئ مع استيعاب المستثمرين للأحداث في كوريا الجنوبية.
تآكل ثقة المستثمرين
ونقل تقرير شبكة "سي إن بي سي" الأميركية، اطلع موقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" عليه، عن محللين تأكيداتهم على أن الاضطرابات السياسية في البلاد "ستؤدي إلى تآكل ثقة المستثمرين في البلاد لفترة طويلة".
قال مؤسس ورئيس شركة ريدل للأبحاث، ديفيد ريدل:
- الاضطرابات السياسية في كوريا الجنوبية ستؤثر على ثقة المستثمرين لفترة طويلة.
- "سوف يستغرق الأمر بعض الوقت حتى يشعر المستثمرون على المدى الطويل بالثقة والراحة عند العودة إلى كوريا الجنوبية بأي شكل جوهري".
- تحرك الرئيس يون سوك يول لفرض الأحكام العرفية ثم إلغائها في وقت لاحق "تجاوز سيء للتوقيت وسوء تخطيط".
- الطاقة النووية ومستحضرات التجميل والدفاع ستكون من بين القطاعات المعزولة عن حالة عدم اليقين السياسي المستمرة.
العملة الكورية
من جانبه، وفي ظل المخاوف من عدم الاستقرار المالي، أعلن بنك كوريا أنه سيعزز السولة قصيرة الأجل وينشر التدابير اللازمة لتحقيق الاستقرار في سوق الصرف الأجنبي حسبما تقتضي الحاجة، وذلك عقب اجتماع طارئ لمجلس الإدارة . وأضاف أنه سيوفر أيضا أي قروض خاصة مطلوبة لضخ الأموال في السوق،.
وفي وقت سابق، ذكرت وكالة يونهاب للأنباء أن الهيئة التنظيمية المالية الكبرى في البلاد مستعدة لنشر 10 تريليون وون (7.07 مليار دولار) في صندوق استقرار سوق الأوراق المالية في أي وقت لتهدئة معنويات السوق.
وفي سياق متصل، رئيس استراتيجية الصرف الأجنبي في آسيا لدى آر بي سي كابيتال، ألفين تان، في مذكرة يوم الأربعاء، إن:
- الوون الكوري الجنوبي من المرجح أن يضعف بشكل أكبر ليتداول عند مستوى 1450.0 مقابل الدولار الأميركي في الأشهر المقبلة، على الرغم من جهود بنك كوريا "لمحاولة التغلب على الضغوط".
- "الاضطرابات السياسية المحلية من شأنها أن تؤدي إلى تفاقم المشاعر الهبوطية التي تحيط بالوون الكوري، على الرغم من أن تباطؤ النمو والحرب التجارية المحتملة بين الولايات المتحدة والصين في العام المقبل سيستمران في أن يكونا المحرك الأكبر".
وذكرت رويترز في وقت سابق أن السلطات المالية في كوريا الجنوبية يشتبه في أنها باعت دولارات أميركية في السوق المحلية في وقت مبكر من صباح الأربعاء في محاولة للحد من انخفاض الوون الكوري.
سجل الوون الكوري الجنوبي آخر سعر للتداول عند 1416.94 مقابل الدولار يوم الأربعاء، متعافيا من انخفاض حاد خلال الليل دفع الوون إلى أضعف مستوى له منذ أواخر عام 2022.
وقال بنك كوريا: "كما أعلنا مع الحكومة، فإننا سنوفر سولة كافية لفترة محدودة حتى تستقر الأسواق المالية وأسواق الصرف الأجنبي"، مؤكدا تعهدا قطعه في وقت سابق من اليوم وزير مالية كوريا الجنوبية تشوي سانج موك.
تداعيات اقتصادية أوسع
الخبيرة الاقتصادية في بنك ناتيكسيس، ترينه نجوين، اقول إن:
- اقتصاد كوريا الجنوبية يعاني بالفعل من ضعف الطلب المحلي، وانكماش الصادرات، ودورة هبوطية في سوق أشباه الموصلات.
- "نحن بحاجة إلى حكومة قوية لامتلاك ميزانية داعمة مالياً، ليس فقط على المدى القصير، ولكن على المدى الطويل للتعامل مع الكثير من التحديات".
في سياق متصل، يؤكد استاذ الاقتصاد الدولي، الدكتور علي الإدريسي، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" أن أي توترات أو اضطرابات سياسية في كوريا الجنوبية يمكن أن تكون لها تداعيات واسعة النطاق على الاقتصاد العالمي نظراً لموقعها الاستراتيجي وأهميتها الاقتصادية، خاصة في مجالات التكنولوجيا والتصنيع وسلاسل التوريد العالمية.
ويوضح الادريسي التداعيات المحتملة على الاقتصاد العالمي على النحو التالي:
التأثير على قطاع التكنولوجيا والإلكترونيات:
- كوريا الجنوبية هي موطن لشركات كبرى مثل سامسونغ وإل جي وSK Hynix.
- أي اضطرابات سياسية قد تؤثر على إنتاج الرقائق الإلكترونية وأشباه الموصلات، وهو قطاع حيوي للعديد من الصناعات، من السيارات إلى الهواتف الذكية.
- نقص الإمدادات من هذه الشركات سيؤدي إلى ارتفاع الأسعار عالميًا وتعطل سلاسل التوريد.
اضطراب التجارة العالمية:
- كوريا الجنوبية من أكبر المصدرين للسيارات، السفن، والصناعات الثقيلة.
- أي توقف في عمليات الموانئ أو الإنتاج سيؤثر على تدفق التجارة، خاصة في آسيا وأوروبا.
التأثير على الأسواق المالية:
- كوريا الجنوبية واحدة من أكبر الاقتصاديات في آسيا، واضطراباتها السياسية قد تخلق حالة من عدم الاستقرار في الأسواق المالية الإقليمية والعالمية.
- العملات الآسيوية الأخرى مثل الين الياباني أو اليوان الصيني قد تواجه تقلبات نتيجة خروج رؤوس الأموال من المنطقة.
التأثير على أسعار الطاقة:
- رغم أن كوريا الجنوبية ليست منتجًا رئيسيًا للطاقة، إلا أنها مستورد كبير للنفط والغاز الطبيعي.
- أي توترات قد تزيد الطلب على الطاقة البديلة، مما قد يضغط بشكل او بآخر على الأسواق العالمية.
سلاسل التوريد في صناعة السيارات:
- شركات مثل كيا وهيونداي تعتمد على كوريا الجنوبية كمركز إنتاج رئيسي.
- أي توقف في الإنتاج المحلي سيؤثر على الإمدادات العالمية للسيارات وأجزائها.
أما بالنسبة لأكبر الخاسرين حال توسع الاضطرابات في البلاد، فيعتقد الإدريسي بأنه على المستوى الدولي ربما تكون الدول الصناعية الكبرى من أبرز المتأثرين، وذلك لجهة أن دولاً مثل الولايات المتحدة واليابان والاتحاد الأوروبي تعتمد بشكل كبير على أشباه الموصلات ومنتجات التكنولوجيا من كوريا الجنوبية. ونقص هذه المنتجات سيؤثر على الصناعات التكنولوجية المتقدمة في هذه الدول.
كما أن الاقتصادات الناشئة يُمكن أن تتأثر بشكل أو بآخر؛ فعلى سبيل المثال دول جنوب شرق آسيا والصين تعتمد على كوريا الجنوبية كمصدر للتكنولوجيا والخبرات الصناعية. وأي اضطراب سيؤثر على هذه الدول بشكل كبير.
وتظل الشركات العالمية ليست في منأى عن التداعيات، ذلك أن شركات الإلكترونيات الكبرى التي تعتمد على سامسونج وSK Hynix لتوريد المكونات، قد تعاني من اضطرابات في سلاسل التوريد. وكذلك شركات السيارات العالمية التي تعتمد على أشباه الموصلات الكورية ستتأثر أيضًا.
تداعيات محلية
وفيما يتصل بالتأثير على الاقتصاد المحلي لكوريا الجنوبية، فيلفت استاذ الاقتصاد الدولي، إلى جملة من التأثيرات المحتملة، من بينها:
- تراجع النمو الاقتصادي: بسبب تعطل الإنتاج والصادرات.
- هبوط في الأسواق المالية: مع خروج المستثمرين الأجانب.
- زيادة البطالة: إذا توقفت المصانع أو تضرر قطاع الخدمات.
اهتزاز الأسواق
ويشير تقرير لـ "بيزنس إنسايدر" إن تراجع الرئيس الكوري عن الأمر لم يكن كافيا لتهدئة المخاوف الاقتصادية التي نشأت عن الاضطرابات، مستشهداً بتراجع أسواق المال في البلاد يوم الأربعاء وانخفاض الوون.
واستضافت شركات في البلاد، بما في ذلك مجموعة SK الكورية الجنوبية، وهي مجموعة من شركات أشباه الموصلات والطاقة، وشركة بناء السفن الكورية HD Hyundai، اجتماعات تنفيذية طارئة في الساعات الأولى من صباح الأربعاء، بحسب بلومبرغ.
وكتب كبير الاقتصاديين لدى آي إن جي إيكونوميكس في سول، مين جو كان /في مذكرة بحثية: "نحن قلقون من أن هذه الأحداث قد تؤثر على التصنيف الائتماني السيادي لكوريا الجنوبية، على الرغم من أن هذا غير مؤكد في هذه المرحلة".
وفي حديث خاص مع موقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، يشدد أبو بكر الديب، مستشار المركز العربي للدراسات والبحوث، الباحث في العلاقات الدولية والاقتصاد السياسي، أبو بكر الديب، على أن اقتصاد كوريا الجنوبية يحتل المرتبة 14 عالميًا، ومن المتوقع أن يرتفع إلى المرتبة 12 قريبًا، مما يعكس قوة الاقتصاد الكوري باعتباره دولة صناعية ومصدّرة كبرى، خاصة في مجالات مثل السيارات والإلكترونيات، والتي تُعتبر أساسية لسلاسل الإمداد العالمية.
ومن ثم، يوضح أن أية هزة سياسية أو اقتصادية في كوريا الجنوبية قد تؤدي إلى اضطرابات كبيرة في سلاسل الإمداد العالمية، وهو ما سيؤثر بدوره على التجارة الدولية، مشيراً إلى إلى أن تأثيرات مشابهة قد شوهدت في أعقاب الحرب في أوكرانيا، حيث شهد العالم ارتفاعًا في تكاليف الشحن وزيادة معدلات التضخم والأسعار عالميًا.
ويؤكد أن كوريا الجنوبية تمتلك شراكات اقتصادية واسعة مع عديد من دول العالم، خاصة في الصناعات التكنولوجية والسيارات، مما يعني أن أي اضطرابات في اقتصادها ستؤثر سلبًا على هذه الصناعات عالميًا، موضحاً أن أي توترات في كوريا الجنوبية قد تعيق دورها كحليف استراتيجي رئيسي للولايات المتحدة في مواجهة كوريا الشمالية والصين وروسيا.
ويشير الديب إلى أن هذه التوترات المتنامية التي تشهدها البلاد قد تفتح المجال أمام منافسين مثل الصين، التي قد تستفيد اقتصاديًا من هذه الأزمة بسبب صناعاتها المنافسة، على الرغم من عدم تورطها المباشر في التوترات السياسية.
ويحذر من أن أي أزمة في كوريا الجنوبية قد تعيد تشكيل خريطة الاقتصاد العالمي وتخلق تحديات جديدة لسلاسل الإمداد، ما يستدعي اهتمامًا عالميًا لمعالجة هذه الأوضاع بحذر.