بعد نحو ثلاثة عقود من النمو الاقتصادي المزدهر، وجد الاقتصاد الصيني نفسه أمام تحديات هائلة بفعل جائحة كوفيد-19 وتداعياتها، وخصوصاً مع اتباع ثاني أكبر اقتصاد في العالم، سياسة "صفر كوفيد"، ما صعب مهمة تعافي اقتصاد البلاد، حيث تباطأت وتيرة النمو، وظهرت أزمات في عديد من القطاعات لعل أبرزها:
- قطاع العقارات
- تراكم الديون لدى الحكومات المحلية
- ضعف ثقة المستهلكين
- النمو الاقتصادي العالمي الضعيف، الأمر الذي دفع خبراء اقتصاديين للتساؤل فيما إذا كان "التنين" قادراً على تصحيح مساره واستعادة مجده الاقتصادي؟
تظهر أحدث بيانات رسمية أن اقتصاد الصين نما بأقل من توقعات المحللين في الربع الأخير 2023، حيث بلغت نسبة النمو 5.2 بالمئة، مقارنة بنفس الفترة من العام الذي سبقه، وسجل الناتج المحلي الإجمالي لعام 2023، (نموا بـ 5.2 بالمئة) هو أقل معدل منذ العام 1990، باستثناء فترة تفشي كوفيد.
وفقا لتوقعات تقارير صندوق النقد الدولي، قد يصل معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي إلى 4.6 بالمئة في 2024 ويمكن أن يعود ذلك إلى ضعف عوائد الاستثمارات المتحققة وخاصة أن حجم الاستثمار في البنية الأساسية فيها كان كثيفاً والذي كان قد ساعد على النمو السريع في البداية، ولكنه يحقق عوائد اقتصادية متناقصة، بحسب خبراء اقتصاد، أشاروا في تصريحات لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" أن أهم عامل وراء انخفاض معدل نمو الاقتصاد الصيني كان أزمة قطاع العقارات والذي يعد محركاً لنمو اقتصاد البلاد.
والأهم، وفقاً للخبراء، هو أن انخفاض أو تباطؤ نمو الاقتصاد الصيني سوف ينعكس بالضرورة على انخفاض معدل نمو الاقتصاد العالمي، إذ يتوقع صندوق النقد الدولي أن انخفاض معدل نمو الاقتصاد الصيني بواقع 1 بالمئة يؤدي الى انخفاض معدل نمو الاقتصاد العالمي بواقع 0.1 بالمئة.
وتعد التجربة الصينية من النماذج الدولية المميزة والفريدة من نوعها، حيث نجح الاقتصاد الصيني في أن يصبح ثاني أكبر اقتصاد عالمي بعد اقتصاد الولايات المتحدة الأميركية في العام 2009 كما تعد الصين أسرع اقتصاد نامٍ خلال الثلاثين سنة الماضية بمعدل نمو سنوي تخطى 10 بالمئة على الرغم من تقلصه خلال السنتين اللتين سبقتا الجائحة ليبلغ حوالي 7.3 بالمئة، ويكافح "التنين" لتحقيق انتعاش قوي بعد وباء كورونا، وتجاوز الأزمات التي تعيق تعافيه.
الأزمة العقارية
يشهد قطاع العقارات منذ عام 2020 تشديداً في شروط منح الائتمان لشركات المقاولة العقارية من قبل بكين، بهدف خفض مستوى الديون، تعاني مجموعات عملاقة مثل إيفرغراند وكانتري غاردن من تحديات مالية ناجمة عن انخفاض ثقة المشترين، نتيجة للمشاريع العقارية التي لم يتم الانتهاء منها والانخفاض الكبير في الأسعار.
وعلى الرغم من اتخاذ إجراءات دعم رسمية، إلا أن تأثيرها محدود حتى الآن، ففي ديسمبر 2023، سجلت أكبر المدن الصينية انخفاضاً جديداً في أسعار العقارات خلال شهر واحد، وفقًا لأرقام المكتب الوطني للإحصاء. وشملت هذه الانخفاضات 62 مدينة من أصل 70 مدينة مدرجة في المؤشر الرسمي، مقارنة بـ 33 في يناير 2023، في دلالة واضحة على تدهور الوضع.
وفي حديثه لموقع اقتصاد "سكاي نيوز عربية" يقول الخبير الاقتصادي الدكتور عبد الله الشناوي: "لا يزال الاقتصاد الصيني يعاني من الاضطراب المتمثل في تباطؤ النمو الاقتصادي والذي يعود لعوامل كثيرة منها ثبات الاستثمارات الخاصة وارتفاع معدلات البطالة بين الشباب وضعف ثقة المستهلكين والأعمال، وتنامي الديون، والتغيرات السكانية، ومشكلة الانكماش العقاري، والتغيرات الديموغرافية، والمخاوف البيئية، وتصاعد حدة المنافسة التكنولوجية، وأخيرا التوترات التجارية العالمية ما ينذر بأخطار يواجها في العام الجديد 2024".
ويوضح الدكتور الشناوي أن "قضية الانكماش العقاري مستمرة في التأثير على ثقة المستهلك والشركات، وعلى النمو الصيني، ورغم ما قامت به الحكومة الصينية في عام 2023 لإنعاش الطلب على الإسكان، فإن مبيعات العقارات لم ترتفع كثيراً ومع تباطؤ المبيعات، يواصل مطورو العقارات معاناتهم من أزمات السيولة. ولذلك تحولت سياسة الحكومة العقارية مؤخراً من دعم الطلب إلى دعم تمويل المطورين".
المعنويات السلبية في قطاع الإسكان تلحق الضرر بالاقتصاد
وقد طلبت السلطات من البنوك الكبرى المملوكة للدولة تقديم المزيد من القروض لمطوري العقارات، وخاصة شركات القطاع الخاص، حتى بالنسبة لبعض الذين يفتقرون إلى الضمانات الكافية، وبوسع الحكومة أن تزيد من نفوذها السياسي وتمارس قدراً أعظم من التدخل في قرارات الإقراض التي تتخذها البنوك هذه المرة، وهو ما من شأنه أن يؤدي إلى المزيد من إضعاف الاستقرار المالي في الصين، فهذه ليست المرة الأولى التي يُطلب فيها من بنوك الدولة الصينية تقديم دعم أكبر للمطورين، ففي الماضي قاومت البنوك مساعي الحكومة بسبب رغبتها في تجنب الارتفاع الحاد في القروض المعدومة وتقلصه، طبقاً لما قاله الدكتور الشناوي.
ويخلص الخبير الاقتصادي فيما يتعلق بالقطاع العقاري المأزوم إلى أن "ضعف النشاط العقاري والمعنويات السلبية في قطاع الإسكان أدى إلى تباطؤ النمو، وقد ألحق ذلك الضرر بالاقتصاد بشدة لأن العقارات والصناعات الأخرى التي تساهم فيه تمثل ما يصل إلى ثلث الناتج المحلي الإجمالي للصين. وبالتالي عندما تكون الثقة ضعيفة في سوق الإسكان، فإن ذلك يجعل الناس يشعرون بعدم اليقين بشأن الوضع الاقتصادي العام".
تنامي الديون
فيما يتعلق بتنامي الديون، فقد اعتمد الاقتصاد الصيني في تمويل استثماراته على الديون بهدف الحفاظ على معدلات نمو مرتفعة ما ألقى بظلال شك على القدرة على سداد وخدمة الدين، حيث بلغ حجم ديون الحكومة والشركات والأسر نحو 280 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي الأمر الذي قد يؤثر على الاستقرار المالي في الصين وأيضاً قد يؤدي إلى أزمات مالية وركود اقتصادي شديد، بحسب الشناوي.
وهنا يمكن طرح التساؤل التالي.. هل تستطيع الصين معالجة قضية تنامي الديون والانكماش بالمزيد من الحوافز؟
يجيب الخبير الاقتصادي الشناوي على التساؤل بقوله: "قامت الحكومة الصينية بخفض أسعار الفائدة بشكل معقول عام 2023 وقد يعكس الاعتقاد بأن المزيد من التيسير النقدي لن يكون فعالاً نظراً لضعف السياسة النقدية بالإضافة إلى ذلك، أدى ضعف العملة وتفاقم تدفقات رأس المال إلى الخارج إلى الحد من قدرة البنك المركزي على المناورة، وإذا كان التحفيز النقدي ضعيفاً، فقد تلعب السياسة المالية دورا أكثر بروزاً في عام 2024، إذ كانت الحكومة لفترة طويلة مترددة في إدارة عجز مالي رئيسي أكبر من 3 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، ولكن تم إصدار سندات سيادية إضافية بقيمة تريليون يوان صيني، والتي سيتم تحويل كامل عائداتها إلى الحكومات المحلية، وهذا يشير فيما يبدو إلى أن السلطة تعيد النظر في سياساتها المالية المحافظة التي طال أمدها.
التوازن بين تحفيز النمو وإدارة الديون
ولكن في العام الحالي 2024 كيف ستستجيب الحكومة للنمو الضعيف؟ هل سيقوم البنك المركزي الصيني بتحركات غير متوقعة؟ وهل نشهد تغيراً كبيراً في كيفية استخدام الحكومة الصينية للسياسة المالية؟ أم أن الحكومة ستظل محافظة في استخدامها للسياسة النقدية والمالية، مع قناعتها بأن الإجراءات التي اتخذتها حتى الآن سوف تترسخ في العام الجديد؟، الإجابة على كل هذه التساؤلات يلخصها الدكتور الشناوي بأنه يجب أن تحقق الصين نوعاً من التوازن القادر على أن يحفز النمو الاقتصادي وفي نفس الوقت القدرة على إدارة الديون لديها.
ديون خفية
بدوره، يقول الرئيس التنفيذي لمركز "كروم للدراسات الاستراتيجية" طارق الرفاعي، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" حول جذور الأزمة العقارية في الصين: "الأزمة العقارية التي تعاني منها الصين حالياً هذه أزمة كبيرة جداً، بدأت منذ زمن عندما كنا نسمع بالنمو المعجزة للتنين، وتحول الصين إلى ثاني أكبر اقتصاد في العالم، ولكن النمو الصيني ليس معجزة، بل كان هذا النمو من خلال ضخ الديون في الاقتصاد الصيني وهنا لا أقصد ديون سيادية، فالحكومة تعطي أهدافاً للنمو للبنوك والحكومات المحلية في المدن، فكان هذا النمو مبني على ديون عن طريق البنوك.
ويضيف الرفاعي: "والأخطر هناك ما يسمى بـ "الديون الخفية"، بمعنى هي ديون من شركات غير بنكية وغير مالية تقدم أمولاً للشركات والأفراد على شكل ديون، والكثير من الناس يعتقدون أن الجزء الأكبر من الاقتصاد الصيني هو صناعة وتبادل تجاري لكن هذا يعد ثاني أكبر قطاع في البلاد أما القطاع الأول فهو القطاع العقاري لذلك نجد هذا القطاع مع مرور الأزمة في الصين يؤثر تماماً على النمو الاقتصادي وعلى ثقة المستهلك".
تقديرات الديون المحلية
وبحسب تقديرات بنك "غولدمان ساكس" الاستثماري يصل حجم الديون المحلية على المقاطعات والمدن الصينية إلى 94 تريليون رينمينبي (13 تريليون دولار)، بحسب تقديرات بنك "غولدمان ساكس" الاستثماري، وهي الديون الإجمالية التي تضم الدين الرسمي المسجل في كشوف حسابات وميزانيات تلك المقاطعات والمدن والإدارات المحلية الأخرى، إضافة إلى قروض تصل إلى 59 تريليون رينمينبي (ثمانية تريليونات دولار) مما يسمى "الدين الخفي"، والنسبة الكبرى من تلك الديون كانت لتمويل مشروعات بنية تحتية استمر ضخ الاستثمارات فيها لسنوات دون توقع عائد قريب منها.
ضعف ثقة المستهلكين
فيما يتعلق بضعف ثقة المستهلكين، يشير الخبير الاقتصادي الشناوي إلى أن ثقة المستهلكين وصلت الى أدنى مستوياتها وعلى الرغم من التحسن قصير الأجل في أوائل عام 2023، فقد استمرت الأسر في تخزين مدخراتها، التي كانت ستنفقها في السنوات السابقة على العقارات أو المشتريات الأخرى -في أصول أكثر سيولة مثل الودائع المصرفية، ولا يزال الاستثمار في الأصول الثابتة للأعمال التجارية ضعيفاً وتقلصت الاستثمارات الخاصة، التي تراجعت بسبب تقلص الاستثمار في التطوير العقاري، على أساس سنوي لأكثر من ستة أشهر.
الضغوط الانكماشية
كما لفت الشناوي إلى تفاقم الضغوط الانكماشية في الصين في الأشهر الأخيرة، حيث سجل مؤشر أسعار المستهلكين لشهر نوفمبر أكبر انخفاض له منذ ثلاث سنوات، ويضيف: "والأمر الأكثر إثارة للقلق هو أن تضخم أسعار المنتجين ظل سلبياً لأكثر من عام، وإذا استمرت الأسعار في الانخفاض، فمن المرجح أن يؤجل المستهلكون والشركات الشراء والاستثمار تحسبًا لمزيد من انخفاض الأسعار. ومن شأن الاتجاه الانكماشي أن يؤدي إلى انخفاض الإنتاج، وانخفاض الأجور، وارتفاع معدلات البطالة. وحتى الآن، تعمل الضغوط الانكماشية المتزايدة على دفع تكاليف الاقتراض الحقيقية إلى الارتفاع، مما يزيد من أعباء الديون المرتفعة بالفعل على الصين.
وهنا يؤكد الرئيس التنفيذي لمركز "كروم للدراسات الاستراتيجية" طارق الرفاعي أن مشكلة الصين الآن تعود إلى انخفاض سعر التكلفة ونسبة التضخم السلبية وهذا يعني أن التكلفة في الاقتصاد في هبوط والآن بدأت الصين تُصدر هذه النسبة الضعيفة من التضخم ويرى الرفاعي أن ذلك يعد سبباً من أسباب هبوط التضخم في الكثير من الدول حول العالم بما فيها دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بسبب اعتمادها على الصين في القطاع الصناعي والآن بسبب ضعف هذا القطاع نرى انخفاض الأسعار وتصدير المنتجات بالأسعار المنخفضة إلى هذه الدول.
السؤال الأهم !
أما عن السؤال الأهم هل يصحح "التنين" مساره ويستعيد مجد ثلاثة عقود من النمو يقول الرفاعي: "أعتقد أننا لن نرى حلاً قريباً لأزمة الصينية، بل سنرى تقلبات وسياسات من قبل الحكومة الصينية وبنك الشعب لمحاولة التعافي من الأزمة، لكن حلها سيأخذ وقتاً إذ لا بد من فتح المجال للشركات الضعيفة لإعلان الإفلاس لأن دعمها سيؤدي إلى ذات النتيجة الذي شهدناها في اليابان في بداية التسعينيات من القرن الماضي بعد انفجار الفقاعة العقارية التي لا تزال تعاني من تبعاتها حتى الآن".
بينما يرى الخبير الاقتصادي الدكتور الشناوي أن "الصين تستطيع استعادة مجد النمو الذي كانت تحققه على مدى ثلاثة عقود ذلك أن الظروف الراهنة ستدفع الصين إلى تشجيع المشاركة الاجنبية في الاستثمار في القطاعات التي تشعر الصين أنها متخلفة عنها وبالتالي هي ترغب في جذب الخبرات الأجنبية والاستثمارات الأجنبية، كما أن الاتجاهات المتوقعة مع توقف التوترات الجيوسياسية الراهنة وتحسن سلاسل التوريد تؤكد أن الاقتصاد الصين يستطيع أن يصحح ومساره لأنه ليس من مصلحة العالم أن يحصل اختلالاً في الاقتصاد الصيني.
تعميق الإصلاحات الاقتصادية
من جانبه، يقول الخبير الاقتصادي حسين القمزي في حديثه لموقع "سكاي نيوز عربية": "إن الاقتصاد الصيني يسير على طريق التعافي بعد الوباء، ولكن هناك العديد من المجالات الاقتصادية التي يجب التركيز عليها لاستعادة مجد ثلاثة عقود من النمو، لكي تتمكن الصين من الحفاظ على مسار النمو، فهي تحتاج إلى تعميق الإصلاحات الاقتصادية، بما في ذلك معالجة القضايا الهيكلية، مثل تقليل الاعتماد على الشركات المملوكة للدولة والانتقال إلى اقتصاد أكثر توجهاً نحو السوق".
ويوضح القمزي أن النمو الذي حققته الصين في العقود الأخيرة كان مدفوعاً بالاستثمار والتصدير. ولكن عليها أيضاً الآن إعادة توازن الاقتصاد نحو الدفع بالمزيد من الاستهلاك المحلي لإنشاء نموذج نمو أكثر استدامة.
وقد أدت الجائحة كذلك إلى زيادة مستويات الدين العام خاصة على مستوى الحكومات المحلية ما فرض تحديات على الاستدامة المالية والنمو، فإدارة مستويات الديون يعد أمراً بالغ الأهمية لتحقيق الاستقرار الاقتصادي على المدى الطويل، كما يواجه سوق العقارات تحديات كبيرة، وهناك جهود مستمرة وتدابير سياسية محتملة تهدف إلى استقرار السوق ودعم التعافي، بحسب القمزي.
ويضيف الخبير الاقتصادي القمزي: "سوف يعتمد تعافي الصين وعودتها إلى مسار نموها السابق على تعميق الإصلاحات الاقتصادية، وإعادة التوازن إلى الاقتصاد، وتعزيز الاستهلاك الخاص، وإدارة مستويات الدين وحل الازمة العقارية".