يُتوقع أن يحقق الاقتصاد الألماني نموا ضعيفا خلال العام الحالي، في مؤشر ينذر بأن أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي سوف يواجه عاما صعبا. ويقول الخبراء إن التطورات الديناميكية ربما تكون بعيدة المنال.
وأعلنت وزارة المالية في ألمانيا أن الضغوط الهبوطية الرئيسية التي تواجه اقتصاد البلاد من المرجح أن تنحسر على مدار هذا العام، حيث من المتوقع أن تشهد ألمانيا انتعاشا واضحا مدفوعا في المقام الأول بمرونة الاقتصاد المحلي، وتابعت الوزارة بأن المؤشرات المبكرة الحالية في الاقتصاد لا تشير إلى انتعاش اقتصادي سريع في ألمانيا.
وعن أداء العام الماضي، تحدث موريتس كريمر، كبير الاقتصاديين في مصرف بادن فورتمبيرغ، عن ذلك بشكل جلي خلال مقابلة تلفزيونية مؤخرا، قائلا: "لا أريد أن انخرط فى الجدل القائل هل الرقم سيكون زائد 0.2 بالمئة أو ناقص 0.2 بالمئة؟ الحقيقة هي أننا في حالة ركود".
وفي محاولة للتوضيح، قال كريمر "نحن نتحرك صوب نوع ما من الاقتصاد المنكمش الذي ينمو وينخفض بمعدلات ضئيلة، لكننا في الواقع مستلقين على الأرض".
أظهر استطلاع نشره المنتدى الاقتصادي العالمي الاثنين تزامنا مع اجتماعه السنوي في دافوس بسويسرا، أن أكثر من ثلاثة أرباع الاقتصاديين يتوقعون "نموا ضعيفا أو ضعيفا للغاية" في أوروبا في عام 2024.
ويتوقع أكثر من نصف الاقتصاديين، الذين شملهم الاستطلاع في الفترة من نوفمبر إلى ديسمبر، أن يضعف الاقتصاد العالمي هذا العام.
وقالت سعدية زاهيدي، العضو المنتدب للمنتدى الاقتصادي العالمي، إن الاستطلاع "يسلط الضوء على الطبيعة المحفوفة بالمخاطر للبيئة الاقتصادية الحالية".
"تعد منطقة اليورو مثالا على ذلك: فقد انكمش الناتج هناك قليلا في الربع الثالث من عام 2023. وستؤكد أرقام الربع الأخير، المتوقع في 30 يناير، ما إذا كانت المنطقة انزلقت إلى الركود قرب نهاية العام".
لماذا وصلت ألمانيا لهذا التردي في اقتصادها؟
يرجع الخبراء ما آلت إليه الأوضاع الاقتصادية في ألمانيا إلى عدة أسباب، لكنها معروفة للجميع إذ أن أبرزها تراجع معدلات الاستهلاك بسبب التضخم وارتفاع الأسعار، فضلا عن أن ركود الاقتصاد العالمي وضع المزيد من الضغوط على المصدرين الذين يمثلون القوة الدافعة للاقتصاد الألماني.
ودفعت أزمة الطاقة وعدم استقرار أسعارها، العديد من الشركات العالمية إلى تعليق خطط الاستثمار، لكن الأسوأ تمثل في قرار بعض الشركات نقل عمليات الإنتاج خارج الاتحاد الأوروبي وتحديدا إلى الولايات المتحدة أو الصين.
ويُضاف إلى ذلك زيادة كلفة خطط التحول الأخضر الذي يقودهروبرت هابيك، وزير الاقتصاد وحماية المناخ الألماني، في أكبر اقتصاد في أوروبا.
ويعكس انكماش الناتج المحلي الإجمالي الألماني العام الماضي الضعف في مختلف قطاعات الاقتصاد، ولكن بشكل خاص في قطاع التصنيع الضخم في البلاد، والذي تضرر بسبب تعثر الطلب الصيني، وارتفاع تكاليف الطاقة، والارتفاعات المؤلمة في أسعار الفائدة.
وفي القطاع الصناعي، سجل إنتاج السيارات وتصنيع معدات النقل الأخرى نموا في العام الماضي، ولكن الإنتاج انخفض في الصناعات الكيميائية والمعدنية كثيفة الاستهلاك للطاقة. بشكل عام، انكمش الإنتاج الصناعي، الذي يهيمن على الصناعة، بنسبة 2 بالمئة، وفقًا لديستاتيس. وانخفضت الصادرات بنسبة 1.8 بالمئة.
كما انخفض إنفاق الأسر والحكومة الألمانية، للمرة الأولى منذ ما يقرب من 20 عاما. وقالت ديستاتيس (وكالة الإحصائيات الفيدرالية الألمانية): "يرجع هذا في المقام الأول إلى وقف إجراءات مكافحة فيروس كورونا التي تمولها الدولة".
فجوة الميزانية
في منتصف نوفمبر من العام الماضي، عندما بدا أن الأمور لن تسوء أكثر من ذلك قضت المحكمة الدستورية الاتحادية بأنه لا يمكن نقل 60 مليار يورو من القروض غير المستخدمة لمكافحة جائحة كورونا إلى صندوق المناخ والتحول (KTF). ونتيجة لذلك، فقدت الحكومة مليارات للسنوات المقبلة لتمويل المشاريع المركزية للتحول إلى الطاقة النظيفة.
وعلى مدار عامين، اعتمدت الحكومة على استخدام القروض غير المستخدمة لمكافحة جائحة كورونا، لكن قرار المحكمة الأخير سوف يدفع الحكومة الائتلافية إلى توفير الموارد المالية ما ينذر بحدوث ثغرة كبيرة في الميزانية.
وقد يعتقد كثيرون أن البرلمان يمكنه ببساطة الموافقة على منح الحكومة قروضا جديدة، لكن ليس من أجل مكافحة فيروس كورونا كما حدث إبان الجائحة، وإنما من أجل تسريع وتيرة التحول الأخضر وأهداف أخرى.
بيد أن الأمر ليس بهذه السهولة في ضوء مشكلة رئيسية تتمثل في آلية "كبح الديون" وهي قاعدة مالية أضيفت إلى دستور البلاد في عام 2009 بهدف إرغام الحكومات الألمانية على تحقيق توازن بين المصروفات والإيرادات بما يشمل فرض قيود صارمة على عمليات الاقتراض الجديدة.
ولم يتم السماح بالموافقة على ديون إضافية بقيمة 60 مليار يورو إلا عقب إعلان حالة الطوارئ كما حصل إبان وباء كورونا، ما مهد الطريق أمام تعليق آلية "كبح الديون" مؤقتا.
الإنفاق أقل ونمو أقل
وقد ألقى الحكم القضائي بظلاله على ميزانية الحكومة وأثار الشكوك بين الشركات والمستهلكين، فضلا عن إجبار الحكومة على توفير موارد مالية لتنفيذه خططها ومشاريعها الاقتصادية.
وفي نهاية نوفمبر الماضي وبعد مفاوضات ماراثونية، وافقت الحكومة على ميزانية تكميلية لعام 2023 وتجديد تعليق مكابح الديون، لا سيما من أجل توفير مدفوعات لكبح أسعار الكهرباء والغاز على أساس آمن قانونيا.
وجرى تخفيض ميزانية عام 2024 بشكل كبير وسط مخاوف من أن تؤدي خطط خفض التكاليف بالتزامن مع تقليل الدعم الحكومي وارتفاع أسعار الطاقة، إلى تباطؤ الاقتصاد بشكل أكبر، لكن ما هو أسوا ربما سيكون التسبب في موجة جديدة من التضخم.
وعلى وقع قرار المحكمة الدستورية الاتحادية، باتت مشاريع هابيك المتعلقة بالمناخ والسياسة الصناعية في خطر، ما ينذر بانخفاض النمو الاقتصادي بما يصل إلى نصف نقطة مئوية، بحسب تقديرات وزارته. ورأى المحلل الاقتصادي في مجموعة "آي أن جي"، كارستن برزيسكي، أن الحكم القضائي الأخير كشف عن مبعثين جديدين للقلق بشأن الاقتصاد الألماني وهما: التقشف المالي وحالة عدم اليقين السياسي، بحسب وكالة DW الألمانية.
بدوره، قال توماس غيتسِل، كبير الخبراء الاقتصاديين في بنك "في.بي"، إن "الأمور تسير بشكل سيئ للغاية بالنسبة لألمانيا في الوقت الحالي"، داعيا إلى ضرورة تحرك الحكومة بشكل عاجل. وحذر من أن قرار المحكمة الدستورية "قد يفرض على الحكومة إجراءات تقشفية قد تؤدي إلى مزيد من التباطؤ في النمو".
تحذيرات منذ وقت طويل
يُشار إلى أن المفوضية الأوروبية قد أفادت حتى قبل قرار المحكمة الدستورية بأن الاقتصاد الألماني سيكون في ترتيب متأخر في سباق النمو بمنطقة اليورو عام 2024 مع زيادة متوقعة بنسبة 0.8 بالمئة. ولا تزال التوقعات الاقتصادية الحالية للحكومة الألمانية تفترض زيادة في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 1.3بالمئة لعام 2024، لكن توقعات الباحثين تشير إلى تحقيق الناتج المحلي الإجمالي الألماني نمو أقل بكثير من 1 بالمئة لعام 2024.
وتتوقع منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية نموا بنسبة 0.6 بالمئة فيما تذهب تقديرات متوسط النمو في جميع دول المنظمة البالغ عددهم 38 دولة إلى نسبة 1.4بالمئة وفقا للأرقام الصادرة في أواخر نوفمبر الماضي.
وفي الصدد نفسه، توقع صندوق النقد الدولي بوقت سابق، بأن اقتصاد ألمانيا سيعاني من انخفاض قوي بالإنتاج الاقتصادي بأسوأ مما كان متوقعا، مضيفا بأنه من المرجح أن يكون أكبر اقتصادات قارة أوروبا هو الوحيد من بين مجموعة الدول الصناعية السبع (G7) التي لن تسجل نموا خلال عام 2023 الجاري.
وأيضا، رجح صندوق النقد الدولي بأن انكماش الناتج المحلي الإجمالي في ألمانيا بنسبة 0.5 بالمئة لعام 2023؛ مخفضا بذلك تقديراته السابقة التي رجحت انكماش اقتصاد ألمانيا بنحو 0.3 بالمئة، على وقع التضخم المرتفع وتراجع نشاط التصنيع بالبلاد، حيث أفاد الصندوق في مراجعته الجديدة بأن ألمانيا تواجه عقبات عديدة من بينها ضعف استجابة القطاعات الاقتصادية الحساسة لأسعار الفائدة وتباطؤ طلب الشركاء التجاريين.
ثلاثة تحديات
بدروها، كشفت إيزابيل كوسكي، الخبيرة الاقتصادية في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، النقاب عن الأسباب وراء هذا التباطؤ الاقتصادي، قائلة إن "أزمة الطاقة عصفت بألمانيا أكثر من الدول الأخرى لأن الصناعة تلعب دورا أكثر أهمية في ألمانيا، وهذه الصناعة كانت تعتمد على الغاز الروسي أكثر بكثير مما في الدول الأخرى".
وأضافت أن ارتفاع التضخم وانخفاض القوة الشرائية للأسر قد ألقيا بظلالهما على معدلات الاستهلاك، مشيرة إلى أن "أزمة ميزانية الحكومة تثير قلق الشركات والمستهلكين على حد سواء". وقالت كوسكي إنه من الضروري "حل أزمة الميزانية في أسرع وقت ممكن لتعزيز الثقة بين الشركات والأسر. يجب أن يتضمن الحل أيضا خفض النفقات وزيادة الإيرادات وإصلاح سياسة كبح الديون".
ويعتقد شتيفان شنايدر، الخبير الاقتصادي في المصرف الألماني "دويتشه بنك"، أن الاقتصاد الألماني سوف ينكمش في عام 2024. وفي هذا السياق، حذر رئيس "معهد كيل للاقتصاد العالمي" في ألمانيا، موريتس شولاريك، في منتصف أكتوبر الماضي من أن السبب وراء ضعف الأداء الاقتصادي في ألمانيا يعود إلى "ثلاثة تحديات كبيرة في العقود الماضية".
وقال إن التحدي الأول يتمثل في "الاعتماد على الغاز الروسي كمصدر رخيص للطاقة في الصناعة والتحدي الثاني يتمثل في المراهنة على المعجزة الاقتصادية الصينية كمحرك للصادرات الألمانية فيما كان التحدي الثالث على السلام الأميركي.. وبسبب الارتكان إلى هذه الرهانات الثلاثة وصلت البلاد إلى طريق مسدود".