لطالما اشتهرت مدينة روزنوف التشيكية بجمالها الهادئ، فهذه الجوهرة المخفية في قلب أوروبا، تُعد مثالاً رائعاً للمدن الصغيرة التي تجمع بين السحر الطبيعي والأصالة التاريخية.
والهدوء الذي يميز هذه المدينة ساهم بشكل كبير في منحها لقب "المدينة النائمة"، وهو لقب يعكس الأجواء الساكنة التي تسودها، مما يجعلها ملاذاً هادئاً بعيداً عن صخب الحياة الحديثة.
ولكن منذ شهر يونيو 2024 بدأت روزنوف تشهد موجة من الزيارات المكثفة التي حرّكت المياه الراكدة في المدينة، فاختيار شركة صناعة الرقائق الأميركية ON Semiconductor Corp لروزنوف كوجهة لبناء مركز جديد لتصنيع الرقائق بقيمة 2 مليار دولار، حوّل المدينة إلى مركز جذب رئيسي للزيارات من قبل مطوري العقارات، ورؤساء الجامعات المحلية ومسؤولين حكوميين والطواقم التلفزيونية.
وبحسب تقرير أعدته "بلومبرغ" واطلع عليه موقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، فإن الاهتمام الكبير الذي تحظى به مدينة روزنوف التشيكية حالياً، لا يعد مفاجئاً نظراً لأن الاستثمار الجديد سيكون الأكبر من قبل شركة أجنبية في جمهورية التشيك منذ ثلاثة عقود، ويعكس المزيد من الرهان على خطة صنع جيل جديد من الرقائق المتطورة، وضرورة وجود ركن لهذه الصناعة في أوروبا الوسطى، فنجاح هذا المشروع ليس مهماً فقط للمدينة أو الاقتصاد التشيكي الراكد، بل وأيضاً لقدرة الاتحاد الأوروبي على تأمين إمدادات الرقائق، وسط معركة عالمية على المكونات الأساسية.
ما هي خطة شركة ON Semiconductor؟
قد يرى البعض أن الاستثمار الجديد الذي ستقوم به ON Semiconductor في روزنوف التشيكية والبالغ قيمته 2 مليار دولار، متواضع مقارنة ببعض المشاريع التكنولوجية في أماكن أخرى في أوروبا.
ولكن ON Semiconductor تمتلك بالفعل موقعاً قائماً في روزنوف لصنع الرقائق المخصصة للسيارات الكهربائية وصناعة الطاقة المتجددة، بموجب عقد يجمعها مع شركة فولكس فاجن إيه جي، وهي ومن خلال الاستثمار الجديد ستضيف منشأة أخرى لهذا الموقع، مهمتها تصميم وانتاج أشباه الموصلات الأكثر تقدماً، والمصنوعة من كربيد السيليكون الأكثر ربحية، وذات القدرات الأعلى.
وسيتولى المرفق الجديد عملية التصنيع بأكملها وصولاً إلى المنتج النهائي، بدلاً من تقسيمها كما في السابق بين 3 مواقع لـ ON Semiconductor في ثلاث قارات مختلفة.
ولا تزال ON Semiconductor الأميركية تتفاوض وتجري محادثات مع الحكومة التشيكية والاتحاد الأوروبي، بشأن الدعم المالي الذي قد تحظى به وقد يغطي حوالي ربع قيمة الاستثمار، وإذا سارت الأمور على ما يرام، فإن الشركة الأميركية تخطط لبدء بناء قاعة إنتاج جديدة أخرى العام المقبل.
ويقوم المعمل الحالي لشركة ON Semiconductor الذي يوظّف نحو 2200 شخصاً، بانتاج 10 ملايين رقاقة يومياً لعملاء مثل بي إم دبليو ومرسيدس بنز وسيمنز وآبل وسامسونغ، في حين أن الاستثمار المخطط له سيخلق 800 وظيفة جديدة على مدى السنوات السبع المقبلة، حيث تتوقع شركة الرقائق الأميركية أن تتضاعف الإيرادات السنوية في المعمل تدريجياً إلى أربعة أمثالها، لتصل إلى 1.2 مليار دولار على الأقل ما يساهم في تحريك الاقتصاد التشيكي نحو صناعة أكثر ربحية.
التحدي الأول الذي يواجه المدينة النائمة
وبحسب "بلومبرغ" فإن التحدي الأول الذي يواجه استثمارات ON Semiconductor في روزنوف هو التأكد من أن "المدينة النائمة" التي يبلغ عدد سكانها 16 ألف نسمة قادرة على التعامل مع التوسع المنتظر، حيث أنه ولتقليص المخاوف الناشئة بين السكان المحليين بشأن الضغوط على الخدمات العامة ونقص المدارس والأطباء والإسكان، قال عمدة المدينة جان كوسيرا إنه سيتم بناء ما بين 300 و400 شقة جديدة في روزنوف، بينما سيتم إنفاق ما يعادل 85 مليون دولار لتحسين الطرق المحلية ومواقف السيارات والخدمات الأخرى، معتبراً أن الاستثمار بالتقنيات المتقدمة سيجذب الناس المتعلمين إلى روزنوف.
إشادة واسعة بالمشروع
وحظي مشروع ON Semiconductor بإشادة واسعة من الساسة وقادة الأعمال، باعتباره نعمة لبلد كان ذات يوم نموذجاً للتحول الاقتصادي من الشيوعية إلى السوق الحرة، وقال وزير الصناعة والتجارة التشيكي جوزيف سيكيلا، إن أشباه الموصلات أصبحت العمود الفقري للاقتصاد الحديث، وكلما زاد عدد هذه التقنيات الجديدة التي يمكن إنتاجها محلياً، كان ذلك أفضل للأمن الاقتصادي للبلاد.
بدورها قالت هيلينا هورسكا، كبيرة الاقتصاديين في الوحدة التشيكية لبنك رايفايزن الدولي، ومستشارة رئيس الوزراء بيتر فيالا، إن توسعة مصنع روزنوف خطوة مهمة في الجهود الرامية إلى تقليل اعتماد الاتحاد الأوروبي على السلع والمكونات الاستراتيجية المستوردة.
تخلف تشيكي
إن احتمال انضمام مدينة روزنوف إلى العصر الصناعي الحديث يتناقض بشكل صارخ مع التحديات التي تواجهها المنطقة المجاورة للمدينة، فمثلاً تعاني مدينة أوسترافا التشيكية من انحدار حاد في صناعات التعدين والمعادن التقليدية، والبطالة المزمنة، حيث أعلنت شركة صناعة الصلب في المدينة إفلاسها بعد أن عجزت عن دفع فواتير الطاقة ورواتب ما يقرب من 5000 موظف.
كما بدأت جمهورية التشيك في التخلف عن نظيراتها الإقليمية عندما يتعلق الأمر بجذب الاستثمارات الخارجية، وخاصة تلك المتعلقة بالتقنيات الجديدة، فقبل عام، اختارت شركة إنتل بولندا المجاورة لبناء مصنع لتجميع واختبار الرقائق بقيمة 4.6 مليار دولار، بينما أصبحت المجر القريبة مركزاً أوروبياً لإنتاج بطاريات السيارات الكهربائية.
تاريخ صناعة الرقائق في روزنوف
ويقول الكاتب والمحلل في شؤون التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي ألان القارح، في حديث لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن إنتاج أشباه الموصلات في مدينة روزنوف التشيكية، يعود إلى فترة الحرب الباردة، ففي تلك الفترة كان العديد من الدول والمدن في الكتلة الشرقية ومنها روزنوف التشيكية، تسعى لتعزيز قدراتها التكنولوجية والعلمية، بما في ذلك إنتاج أشباه الموصلات لتلبية الاحتياجات العسكرية والتجارية، مشيراً إلى أن مصانع أشباه الموصلات في روزنوف ومن خلال تكتل كان يسمى آنذاك Tesla Roznov لعبت في تلك الفترة دوراً مهماً في تزويد الأسواق المحلية بالتقنيات في ظل الصراع التكنولوجي بين الكتلة الشرقية والغربية، قبل أن يتم تفكيك هذا التكتل في مرحلة لاحقة.
مقومات روزنوف في صناعة الرقائق
ويشرح القارح أن التاريخ العريق الذي تتمتع به روزنوف في صناعة أشباه الموصلات، ساعد المدينة على الحفاظ على مكانتها كمركز تكنولوجي مهم على مر السنين، وبناءً على ذلك، فإن اختيار شركة ON Semiconductor الأميركية لروزنوف كموقع لتوسيع أعمالها في صناعة الرقائق يعود إلى إدراكها أن المدينة تمتلك الخبرة المطلوبة لتسهيل هذا النوع من الأعمال، لافتاً إلى أن صناعة الرقائق هي صناعة معقدة تتطلب قوة عاملة وبنية تحتية متخصصة، وهذه العناصر متوفرة في روزنوف مقارنة بغيرها من المناطق والمدن.
وبحسب القارح فإن مدينة روزنوف التشيكية تتمتع بعدد من المقومات التي تجعلها لاعباً مهماً في صناعة الرقائق وأشباه الموصلات أبرزها موقعها المميز، فروزنوف تقع في وسط جمهورية التشيك وفي قلب القارة الأوروبية، وهذا الموقع يتيح للمدينة الوصول السريع والفعال إلى العديد من الأسواق الأوروبية الكبيرة، مثل ألمانيا، النمسا، بولندا، وسلوفاكيا، مما يسهم في تسهيل عمليات التصدير والتوزيع، كما أن البنية التحتية المتطورة في التشيك، بما في ذلك الطرق السريعة والسكك الحديدية والمطارات، توفر سهولة الوصول إلى باقي أوروبا، وهذا يعني أنه يمكن للشركات في روزنوف الاستفادة من شبكات النقل المتقدمة لنقل المواد الخام والمنتجات النهائية بكفاءة وسرعة.
ويضيف القارح إنه كون روزنوف تقع في قلب أوروبا، فإن ذلك يجعلها جزءاً من شبكة تجارية قوية، ويجذب المستثمرين الدوليين في صناعة الرقائق الذين يبحثون عن مواقع لتوسيع عملياتهم في أوروبا، فالموقع الجغرافي للمدينة يسهل على المستثمرين الانضمام إلى سلاسل الإمداد الأوروبية والعالمية لناحية استيراد المواد الخام، وتصدير المنتجات النهائية والتفاعل مع أسواق متنوعة، إضافة إلى الاستفادة من السياسات الاقتصادية الأوروبية، حيث يمكن لروزنوف الاستفادة من السياسات الاقتصادية الأوروبية والتجارية، بما في ذلك الدعم الحكومي والاتفاقيات التجارية التي تسهم في تعزيز نمو صناعة الرقائق.
هل تساعد المدينة النائمة أوروبا في حرب الرقائق؟
ويرى القارح أن مدينة روزنوف التشيكية قد تكون غير معروفة عالمياً كمركز لإنتاج أشباه الموصلات حتى وقت قريب، ولكن التطورات الأخيرة ستغير من ذلك بشكل كبير، فالاستثمار الضخم لـ ON Semiconductor في المدينة، يُعتبر خطوة كبيرة نحو تعزيز القدرة الإنتاجية لأشباه الموصلات في أوروبا، ومثل هذه الاستثمارات تعزز من البنية التحتية التكنولوجية وتدعم إنشاء مراكز تصنيع متقدمة أخرى، خصوصاً أن هذا المشروع جذب اهتمام وسائل الإعلام والمجتمع الأكاديمي على مستوى محلي ودولي.
وأكد المحلل التكنولوجي ألان القارح، أن عوامل مثل القوى العاملة المؤهلة والموقع الجغرافي الاستراتيجي والدعم الحكومي، تشكل جميعها قوة دافعة تسهم في جعل المدينة النائمة مساهماً كبيراً في تعزيز قدرة أوروبا على المنافسة في حرب الرقائق العالمية، فصناعة الرقائق تعتبر حالياً عصب التقنية الحديثة، ومن يضمن تواجد قوي له في هذه الصناعة يحصل على ميزة تنافسية استراتيجية في الاقتصاد العالمي.