تحول تاريخ 30 نوفمبر 2022 إلى يوم مفصلي في حياة البشرية، ففي هذا التاريخ أطلقت شركة OpenAI برنامج ChatGPT، الذي جسد أول إطلالة للذكاء الاصطناعي التوليدي على العالم، وهو ما أحدث حالة من الذهول بين أوساط المستخدمين، نظراً لقدرات هذه التكنولوجيا فائقة التطور.
ففي غضون خمسة أيام فقط من إطلاقه، أصبح لدى ChatGPT أكثر من مليون مستخدم، لتكرّ بعدها سبحة الشركات، التي أعلنت عن تحقيقها اختراقات واعدة مرتبطة بتطوير الذكاء الاصطناعي التوليدي، وليصبح التقدم في هذا المجال، غير محصور بما قدمته OpenAI بل يمتد ويشمل أيضاً برامج لشركات مثل مايكروسفت وألفابت وميتا وAnthropic و DeepMind وغيرها الكثير.
والآن وبعد مرور نحو عام ونصف العام، لا تزال حالة الذهول التي سببها الذكاء الاصطناعي التوليدي تتفاعل، فكلما تقدم الزمن كلما أثبتت هذه التكنولوجيا، أنها قادرة على التطور، وبالتالي القيام بمهام كانت محصورة فقط بالإنسان، فالذكاء الإصطناعي التوليدي، بات يمثّل إحدى أهم الأدوات التي ستساهم في انتقال الإقتصاد من المرحلة التقليدية، إلى المرحلة الرقمية، ما سيزيد الارتباط بين المؤسسات والآلات، ويؤدي إلى سيطرة الروبوتات على وظائف البشر.
هل يتسبب الذكاء الاصطناعي في تدمير الوظائف؟
ويقول تقرير لبلومبرغ إنه على مدى ثلاثة قرون، تكيّفت سوق العمل مع التكنولوجيات الجديدة، حيث كان الاتجاه السائد هو أن تساهم هذه التكنولوجيات، بزيادة إجمالي فرص العمل، والإنتاجية، وفي نهاية المطاف الأجور، ولكن تبين أن التكنولوجيات الجديدة، تلعب أيضاً دوراً في تدمير بعض المهن، وهو ما أدى إلى اختفاء الكثير من الأدوار الوظيفية، ولكن دون أن يتسبب ذلك ببطالة جماعية، وذلك كون التكنولوجيات التي ظهرت أدت إلى استحداث مهن جديدة.
ومع ذلك، تشير الأدلة الأخيرة حول صدمات سوق العمل، الناجمة عن الأتمتة، إلى أن الآثار السلبية للذكاء الإصطناعي، سوف تتركز جغرافياً وديموغرافياً، في أماكن محددة وهي الأماكن التي يتم فيها، تبني ونشر هذه التكنولوجيا بشكل سريع ودون ضوابط، حيث أن أسواق العمل في تلك الأماكن، ستكون الأكثر تضرراً ولن تتكيف بسلاسة.
وتشير تقديرات أبحاث شركة ماكينزي إلى أنه حتى في غياب الذكاء الاصطناعي التوليدي، فإنه من الممكن أن تتولى الأتمتة مهاماً، تمثل 21.5 بالمئة من ساعات العمل حالياً في الاقتصاد الأميركي بحلول عام 2030، أما مع وجود الذكاء الاصطناعي، فسترتفع هذه النسبة إلى 29.5 بالمئة، إذ من المرجح أن يتقلص التوظيف في الوظائف الإدارية في جميع المجالات، من مهنة المحاماة إلى مهنة الترفيه.
وفي حال استمرار تطور الذكاء الاصطناعي وظهور أجيال جديدة منه أكثر وعياً، يصبح من الممكن الحديث عن نتائج أكبر، حيث قد يكون من غير المنطقي توظيف البشر في أغلب الأدوار الوظيفية.
أما صندوق النقد الدولي فقد حذّر في بداية عام 2024، من أن الذكاء الاصطناعي، قد يؤثر على قرابة 40 في المئة من الوظائف حول العالم، داعياً صناع السياسات إلى الموازنة بعناية، بين إمكانات هذه التكنولوجيا وتداعياتها السلبية.
هل يمكن مقاومة تمدد الذكاء الاصطناعي؟
يتمتع التغير التكنولوجي بتاريخ طويل من إثارة الجدل السياسي والاضطرابات الاجتماعية، لكن المقاومة المنظمة نادراً ما تنجح في منع تبنيه بحسب تقرير لبلومبرغ.
ففي عام 1675 شهدت لندن أعمال شغب عنيفة من قبل عمال النسيج الذين قاموا بتدمير الآلات التي كانوا يخشون أن تدمر سبل عيشهم، وهذا السيناريو تكرر في عدة صناعات على مر التاريخ وفي مختلف دول العالم، إلا أن مقاومة التغيير التكنولوجي عادة ما تكون عديمة الجدوى، إذ يتم دائماً سحق الحركات الاعتراضية بسبب افتقارها للتنظيم.
فمثلاً هناك اليوم 1.3 بالمئة فقط من العاملين في الخدمات المالية في الولايات المتحدة و2.3 بالمئة من العاملين في الخدمات المهنية والتجارية ينتمون إلى النقابات، وهو أقل من المتوسط الوطني الذي يبلغ 10 بالمئة، وفي ظل هذا الافتقار إلى التنظيم، لن يكون أمام الخاسرين من ثورة الذكاء الاصطناعي سوى فرصة ضئيلة للمقاومة ضد تمدد هذه التكنولوجيا.
هل يتكرر سيناريو "النعجة دوللي"؟
ومع ذلك، فإن مقاومة الذكاء الاصطناعي يمكن أن تنجح إذا شعر عامة الناس والنخب بالخوف، ومن الأمثلة الجيدة على ذلك ردود الفعل العنيفة التي حصلت ضد الاستنساخ البشري والهندسة الوراثية، ففي عام 1996، كانت ولادة "النعجة دوللي" في المملكة المتحدة بمثابة أول استنساخ ناجح لحيوان ثديي، ولكن عدم تقبل المجتمع لهذه الفكرة والاعتراض عليها بشدة دفع الولايات المتحدة إلى إقرار قانون حظر الاستنساخ البشري في عام 2003، حيث تم بموجب هذا القانون حظر الاستنساخ التكاثري والاستنساخ البحثي باستخدام الأموال الفيدرالية.
ومع تزايد احتمالات تحوّل الذكاء الاصطناعي التوليدي إلى تكنولوجيا "شبه بشرية" لناحية قدرتها على استنساخ أنماط البشر، قد يتعرض المنظمون والمشرعون لضغوط تدفعهم إلى تقييد استخداماتها، خصوصاً أنه بات بإمكان الذكاء الاصطناعي التوليدي الآن، استنساخ أصوات الأشخاص وحتى أشكالهم، فعلى سبيل المثال، يمكن من خلال هذه التكنولوجيا إنشاء محتوى فيديو أو محتوى صوتي مزيف ينتحل شخصية الأفراد، وهذا ما يدفع البعض للاعتقاد أن سيناريو "النعجة دوللي" لناحية إقرار "قانون حظر الاستنساخ البشري"، يمكن أن يتكرر مع الذكاء الاصطناعي التوليدي.
هل تنجح المقاومة العنيفة؟
ويقول خبير التحول الرقمي رولان أبي نجم، في حديث لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن ما ينطبق على موضوع الاستنساخ البشري والهندسة الوراثية لا ينطبق بتاتاً على موضوع الذكاء الاصطناعي وذلك نظراً لعدة أسباب، وبالتالي من المستحيل للمقاومة العنيفة أن توقف تمدد الذكاء الاصطناعي في الوظائف، مذكراً بما حصل في عام 1986 عندما حاول الاساتذة وأهالي التلاميذ مقاومة طرح الآلة الحاسبة في الأسواق، على اعتبار أنها آلة تساهم في تراجع المستوى العلمي لدى الطلاب، ولكننا بتنا اليوم في زمن لا يمكن فيه التخلي عن الآلة الحاسبة نظراً لفوائدها على المجتمع.
ويذكّر أبي نجم بما قاله إيلون ماسك في عام 2018 عن أن تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي ستكون أخطر من السلاح النووي، فاستخدام هذا السلاح محصور بيد الدول والحكومات، بينما الذكاء الاصطناعي بات وسيلة في يد جميع البشر، حيث يكمن الخطر في تفلت هذه التكنولوجيا وإساءة استخدامها وتطويرها دون أي ضوابط، مشيراً إلى أن أي شخص
أو حتى شركة في العالم يمكن لها العمل على تطوير الذكاء الاصطناعي، في حين أن ذلك لا ينطبق على موضوع استنساخ البشر أو استخدام السلاح النووي.
40 عاماً من المحاولات الفاشلة
ويشرح أبي نجم أنه بعد مرور 40 عاماً على استخدام الإنترنت، لم تنجح أي محاولات لضبط الوضع على الشبكة لناحية وقف الهجمات الخبيثة، رغم جميع الضوابط التي تم إقرارها، وهذا الأمر ينطبق أيضاً على وسائل التواصل الاجتماعي، فالاختراقات وعمليات الاحتيال تتكرر وتتزايد، وهذا الأمر سيتكرر بالنسبة لموضوع الذكاء الاصطناعي، لسبب بسيط جداً وهو أننا نتكلم عن تكنولوجيا مرتبطة بالعولمة وليس لها حدود جغرافية وغير مرتبطة بحكم دولة واحدة، ولذلك فإنه لا يمكن لأي ضوابط أن تكون فعالة بأي شكل من الأشكال.
ويشدد أبي نجم على أن المقاومة العنيفة لن توصل الى أي مكان، ولن توقف تمدد الذكاء الإصطناعي في الوظائف، فالمنافسة الشرسة بين دول العالم مثل أميركا والصين وأوروبا والشركات الكبيرة مثل أمازون وآبل ومايكروسفت وألفابت وأوراكل لتطوير هذه التكنولوجيا يعني الحصول على ذكاء اصطناعي أكثر قوة وانتشاراً في المستقبل، مشيراً إلى أن ما يمكن أن ينجح في هذا المجال هو جعل خورازميات مواقع التواصل الاجتماعي قادرة على التعرّف ومنع إنتشار المحتوى المسيء والمزور الذي يتم إنشائه عبر الذكاء الاصطناعي.
ويؤكد أبي نجم أن الحقيقة تقول إن الذكاء الاصطناعي سيتطور وسيصبح أكثر قوة مما نعرفه حالياً، مشيراً إلى أنه يتم العمل حالياً على تطوير الذكاء الاصطناعي العام، أو ما يعرف بـ AGI وهي تكنولوجيا أخطر بمليارات المرات من الذكاء الاصطناعي الحالي، وحينها ستكون الروبوتات قادرة على أن تقوم بما يفعله البشر تماماً من ناحية التفكير والتحليل.
واقع لا مفر منه
من جهته يقول المطور التكنولوجي جو زغبي، في حديث لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن أدوات الذكاء الاصطناعي تشق طريقها بسرعة إلى الأعمال الصناعية والتجارية، ولكن في المقابل، فإن هذا التحوّل سيحدث تغييرات كبيرة في طبيعة القوى العاملة، وهذا الأمر لا مفر منه في المستقبل البعيد وليس القريب، مشيراً إلى أن المعادلة واضحة جداً بهذا الشأن فما نراه وسنراه من حركات اعتراضية ضد انتشار الذكاء الاصطناعي في عالم الأعمال، ستنجح بتأخير تمدد هذه التكنولوجيا فقط وليس منعها، فالحركات الاعتراضية التي نراها مثلاً في مجال نقابات السينما والفن في أميركا إيجابية، كونها ستمنح الموظفين المزيد من الوقت للتأقلم مع التغيير المنتظر، وبالتالي سيكون أمام هؤلاء المزيد من الوقت، لاكتساب مهارات جديدة قد تحتاجها سوق العمل مستقبلاً وتكون مرتبطة فقط بالإنسان.
وبحسب زغبي فإن ملايين الوظائف حول العالم، ستكون معرضة للانتقال من يد الإنسان إلى أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي خلال الأعوام العشرة المقبلة، وهذا ما حذرت منه مراجع كبيرة مثل مصرف "غولدمان ساكس"، ولكن تبقى عملية الانتقال السلسة أفضل من حيث النتائج وهذا ما سيمنح البشر الوقت الكافي للتأقلم مع الواقع الجديد وعدم الخوف من الذكاء الاصطناعي التوليدي، وتعلم العمل إلى جانبه، فالأشخاص القادرون على استخدام الذكاء الاصطناعي والتحكم فيه، هم من سيقودون سوق الوظائف مستقبلاً.