تعامل الفيدرالي الأميركي بقيادة جيروم باول خلال السنوات الأخيرة خاصة في أعقاب جائحة كورونا مع عديد من الأزمات التي عانى منها الاقتصاد الأميركي على رأسها التضخم غير المسبوق ومعدلات البطالة المرتفعة وتباطؤ النمو.
وبعد أن كاد الاقتصاد الأميركي يواجه الركود بات الفيدرالي بصدد الهبوط الآمن خاصة مع اقتراب تحقيق المستوى المستهدف من التضخم، ليبتعد بذلك عن الركود.
في هذا السياق، ذكر مقال في صحيفة "فاينانشال تايمز" البريطانية للمعلق المالي الأميركي روبرت ارمسترونج والكاتب ايدن رايتر، أن التضخم في الولايات المتحدة يقترب من المستوى المستهدف، ومعدل البطالة 4.3 بالمئة، وأن الاقتصاد ينمو بما يتجاوز معدله الاتجاهي. لكنه أضاف أن الأنباء السيئة قد تظهر دوماً، مشيرًا إلى تقرير التوظيف لشهر أغسطس، فيما أكد أن بنك الاحتياطي الفيدرالي بقيادة جيروم باول نجح في إدارة الاقتصاد على النحو المُتصور.
وقال كاتبا المقال إنه بعد عشرين عاما من التفكير في الأسواق، فإن "تأثير الحظ في كل مكان"، وأن من العدل أن نتساءل عما إذا كان باول "قد حظي بحظ سعيد في تولي المسؤولية عندما حدثت أشياء إيجابية". وأشار المقال إلى أن الكاتب مارتن ساندبو عن هذا الاحتمال بوضوح شديد، في الأسبوع الماضي.
باول في خطابه في جاكسون هول، عزا التضخم بعد الجائحة إلى تشوهات العرض والطلب، وعزا الانكماش اللاحق إلى تبدد تلك الصدمات، واعتدال الطلب من خلال السياسة النقدية، وتوقعات التضخم الراسخة.
ووفق ساندبو، فإن التوقعات الراسخة كانت مهمة بشكل خاص، وأن يقظة بنك الاحتياطي الفيدرالي في كل من الدورات الحالية والماضية ساهمت في ذلك.
وأفاد المقال بأن وجهة نظر ساندبو هي أنه إذا أسقط باول السياسة النقدية من تفسيره لانكماش التضخم، فإن التفسير سيظل موجودا، متسائلاً: هل أدت السياسة النقدية إلى تبريد سوق العمل من خلال خفض الطلب الكلي؟ حسنًا، لم يضعف الطلب كثيرًا.
ويمكن تفسير برودة سوق العمل بنهاية الاضطرابات الناجمة عن الوباء وحدها، هل أدى الارتفاع الحاد في أسعار الفائدة إلى إبقاء توقعات التضخم ثابتة، من خلال تعديل سلوك الأشخاص الذين يتفاوضون على الأجور ويحددون الأسعار؟ استقرت مقاييس السوق للتوقعات في ربيع عام 2021، قبل تشديد سياسة أسعار الفائدة.
وطرح المقال سؤالًا عن ما إذا كان باول محظوظا أم جيدا؟، على أربعة خبراء اقتصاديين، لافتًا إلى أنه تلقى مجموعة ردود مثيرة للاهتمام وهي:
تهدئة الطلب
من كابيتال إيكونوميكس، اعتقد بول آشورث، بأن السياسة نجحت في تهدئة الطلب، ولكن الظروف، وخاصة الهجرة، كانت أكثر أهمية، وأوضح أن الانخفاض في التضخم كان راجعا إلى تخفيف حدة نقص العرض، وخاصة انتعاش عرض العمالة بسبب الهجرة، وليس ضعف الطلب الذي قد يعزى إلى تشديد السياسة النقدية، لكن هذا لا يجعل باول "محظوظا" بالضرورة، فقد لعب ضعف الطلب دورا يمكن أن ينسب إليه الفضل.
وأشار إلى تأكيد باول في خطابه في جاكسون هول أن رفع أسعار الفائدة "السريع" من قِبَل بنك الاحتياطي الفيدرالي كان مهماً أيضاً لأنه حافظ على استقرار توقعات التضخم، ولكنني أقل اقتناعاً بهذه القناة المفترضة.
ونقل المقال عن جيسون فورمان من جامعة هارفارد، الذي كان أقل تشككا بشأن تأثير التثبيت، مشيرًا إلى أن الطلب تباطأ في القطاعات الرئيسية، وأوضح أن:
- الهبوط الناعم لم يكن ليحدث لولا التشديد الاستثنائي للسياسة النقدية.
- أن بنك الاحتياطي الفيدرالي نجح في الحفاظ على توقعات التضخم ثابتة من خلال إظهار استعداده للتصرف بقوة حسب الحاجة.
- نجح بنك الاحتياطي الفيدرالي في خفض الطلب في قطاعات معينة، وخاصة قطاع البناء، الأمر الذي ضمن عدم حدوث جولة أخرى من الضغوط التضخمية مع تلاشي التحفيز المالي وصدمات العرض.
عودة التضخم
وأكد دون ريسميلر من شركة استراتيجاس أيضًا على إمكانية عودة التضخم، وأوضح أنه لم يتم الوصول بعد إلى معدل تضخم 2 بالمئة، وربما يقترب من هذا المعدل، ولكن هناك الكثير من الأبحاث التي تؤكد أن الجزء الأول من عملية التكيف سهل وأن "الميل الأخير" صعب، لذا فإن أحد الأسباب التي تجعل الاقتصاد يبدو في حالة جيدة هو أننا لم ننته السباق بعد.
وأشار إلى أنه في سبعينيات القرن العشرين، انحسر التضخم مع تراجع الصدمات، فقد انخفض التضخم ثلاث مرات، والمشكلة أنه عاد إلى الارتفاع ثلاث مرات (وتسارعت وتيرته). كما أفاد بأن بعض الفضل في عدم حدوث انتعاشة يعود إلى بنك الاحتياطي الفيدرالي، لإبقائه على التوقعات ثابتة من خلال زيادات أسعار الفائدة العدوانية.
هناك أيضًا بعض الحظ الذي شارك في الهبوط الناعم، فقد ساعدت الهجرة في تهدئة سوق العمل، من ناحية ومن ناحية أخرى، كان بنك الاحتياطي الفيدرالي قادرًا على إبطاء رفع أسعار الفائدة ثم التوقف مؤقتًا جزئيًا بسبب وجود أزمة مالية صغيرة كانت سيئة بما يكفي لتخويف الجميع، ولكنها لم تكن سيئة بما يكفي لإحداث ركود، فشل بنك وادي السليكون، ويقول ريسميلر: "يبدو الأمر أقرب إلى الحظ منه إلى الخطة".
ونقل المقال عن رئيس معهد بيترسون، آدم بوزين، أنه إذا لم يرفع بنك الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة، فمن المرجح أن تصبح التوقعات غير ثابتة وأن يستغرق التضخم وقتًا أطول قبل أن ينخفض.
وشدد على أن الفترة الطويلة من انخفاض التضخم التي سبقت الوباء ساعدت في ترسيخ التوقعات، كما فعلت الإجراءات الموازية التي اتخذتها البنوك المركزية على مستوى العالم، والشيء المدهش هو مدى ضآلة الضرر الذي ألحقته زيادات أسعار الفائدة بالاقتصاد. ويرجع هذا جزئيا إلى أن النظام المالي والميزانيات العمومية للأسر والشركات كانت قوية للغاية في عام 2019، وتحسنت في معظمها خلال كوفيد، وهو ما لم يتوقعه أحد.
وقد حدث هذا جزئيا لأن أسعار الفائدة الحقيقية المحايدة ارتفعت لأسباب متنوعة أثناء جائحة كوفيد، متوقعا أن يستمر. وبالتالي، فإن السياسة المعطاة لم تكن صارمة كما تصور بنك الاحتياطي الفيدرالي وغيره، كما يتبين من ظروف الائتمان المتساهلة.
ووف بوزين، فإنه من المؤكد أن بنك الاحتياطي الفيدرالي لم يتسبب في الهبوط الناعم، ولنتذكر أن خطاب رئيس البنك باول في جاكسون هول عام 2022 كان يتحدث عن الاستعداد لإلحاق الألم، وكان الجميع يتوقعون حدوث هذا الألم.
وأشار أيضاً إلى أن:
- زيادة المعروض من العمالة نتيجة للهجرة ساعدت، ولكن ذلك يضيف صدمة إيجابية أخرى إلى المعروض، ناجمة عن ارتفاع الإنتاجية.
- لسبب في الهبوط الناعم هو صدمتان إيجابيتان غير متوقعتين في العرض منذ بداية عام 2022، وهي زيادة كبيرة في الهجرة، وتوسيع القوى العاملة، وخفض تكاليف العمالة؛ وارتفاع في نمو الإنتاجية فوق اتجاه ما قبل كوفيد.
- لم يكن أحد يتوقع أيًا من هذين الأمرين، ولم يكن لبنك الاحتياطي الفيدرالي أي تأثير على أي منهما على الإطلاق.
- أزعم أن زيادة نمو الإنتاجية كانت بسبب إعادة توزيع العمال الأميركيين على أرباب عمل أفضل/أكبر/أكثر إنتاجية في أعقاب البطالة الجماعية بسبب وباء كوفيد-19 في النصف الأول من عام 2020.
الحظ وتحقيق الهبوط الناعم
وفي النهاية أكد كاتبا المقال أن الهبوط الناعم لم يكن ممكنا لولا الكثير من الحظ، وذلك للأسباب التالية:
- تلاشي الاضطرابات الناجمة عن الجائحة.
- مساعدة ارتفاع معدلات الهجرة في تخفيف قيود سوق العمل.
- مساعدة ارتفاع الإنتاجية غير المتوقع.
- دفع أزمة بنك الاحتياطي الفيدرالي المصغرة إلى إبطاء زيادات أسعار الفائدة في الوقت المناسب تماما، وكان ارتفاع أسعار الفائدة المحايدة يعني أن أسعار الفائدة لم تكن أبدا صارمة كما بدت، وهو ما يعني ضررا اقتصاديا أقل لنفس الإشارة إلى النية الجادة من جانب بنك الاحتياطي الفيدرالي، وفي الخلفية، أدت فترة طويلة من الانكماش ويقظة البنوك المركزية قبل كوفيد إلى زيادة احتمالات عدم خروج توقعات التضخم عن السيطرة.
وأفاد المقال بأنه على الرغم من هذا، فإن وجهة نظر ساندبو القائلة بأن التوقعات كانت مستقرة حتى قبل أن تبدأ السياسة في التشديد مقبولة، ولكنها ليست حاسمة، مشيرًا إلى أنه بحلول الوقت الذي بدأ فيه بنك الاحتياطي الفيدرالي في زيادة أسعار الفائدة، كان العديد من المراقبين يصرخون بأن البنك المركزي "كان متخلفا عن المنحنى".
وأضاف أن المخاوف هدأت بعد ذلك من خلال اتخاذ إجراءات عدوانية؛ لذا فإن الفضل يعود إلى بنك الاحتياطي الفيدرالي، وساندبو محق في أنه لا يمكننا التأكد من هذا، ولكن الصورة الأساسية منطقية.
سياسات باول الناجحة
من جهته قال الخبير الاقتصادي وكبير الاقتصاديين في شركة "ACY" الدكتور نضال الشعار في حديث خاص لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن جيروم باول يعتبر من رؤساء الاحتياطي الفيدرالي القلائل الذين لن يأتوا من خلفية اقتصادية أكاديمية، إنما هو ذو خبرة عملية في مجال القانون والاستثمار والعمل الحكومي.
وأضاف أن باول لم يكن غريبًا عن المجلس الفيدرالي، حيث بدأ كعضو في مجلس الحكام في عام 2012، كما سبق له وأن عمل معاونا لوزير الخارجية الأميركية أثناء الفترة الرئاسية لجورج بوش.
وأكد أن خبرة باول في مجال القانون والعمل الحكومي والاستثمار مكنته من أن يقيم علاقات مهمة على كافة الأصعدة، وبالتالي كان دائمًا ماهرًا في توصيل أفكاره بهدوء إلى الدائرة الاستثمارية "المستثمرين" والإدارة الحكومية "صانعي القرار الحكومي"، مستدلًا على ذلك بأنه كان قادرًا على العمل تحت أربعة رؤساء بداية من جورج بوش إلى باراك أوباما ومن ثم دونالد ترامب والآن جو بايدن.
وأضاف أنه بالرغم من خلافات باول مع بعض الإدارات إلا أنه كان ناجحا في اتخاذ بعض القرارات الصعبة، مشيرًا إلى أن خلافه مع ترامب كان علنيًا ولكنه في النهاية كان قادرا على فض هذا الخلاف والحصول على المديح من إدارة ترامب.
وسلط الضوء على بعض سياسات باول الناجحة، ومنها:
-تميزه بقدرته على القفز ما بين السياسات النقدية المتشددة والتوسعية، من خلال تخفيض أسعار الفائدة بشكل سريع ومن التيسير الكمي إلى التضييق الكمي (..).
- أنه كان قادرا على إحداث تغيير هيكلي في فكر الاحتياطي الفيدرالي، من خلال تركيزه على هدفين هما خفض معدلات التضخم وخفض معدلات البطالة.
- أن جرأته أثناء جائحة كورونا دليل على وضوح الرؤية والمصداقية، من خلال عملية التيسير الكمي (..).
وأكد أن تحقيق الهبوط الناعم لم يكن مسؤولية باول وحده، موضحًا أن انخفاض معدل التضخم لم يتراجع بسبب السياسات النقدية التي قام بها الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، إنما كان هناك أسباب أخرى.
وأضاف أن نفاد الطلب الذي تشكل أثناء جائحة كورونا، وجد طريقه للأسواق بعد الجائحة مما أدى لارتفاع المستوى العام للأسعار، منوهًا إلى أنه من الطبيعي أن ينخفض بعد حصول المستهلك على ما يحتاجه من خدمات وسلع، وأن انخفاض الطلب أدى إلى انخفاض المستوى العام للأسعار.
وأكد أيضًا أن السياسة النقدية التشددية أسهمت بشكل كبير في خفض معدلات التضخم، ولكن لا يمكن أن يعزى هذا الشيء فقط، وأن ما يحدث حاليا وما يسمى بهبوط ناعم لسياسة باول إنما هناك أحداث أخرى.
فشل ونجاح
كذلك أكد رئيس الأسواق العالمية في "Cedra Markets"، جو يرق ، لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، أن الفيدرالي الأميركي بقيادة باول نجح في إدارة الاقتصاد الأميركي، مشيرًا إلى أن الدولة من جهتها تهتم بالاقتصاد بينما الفيدرالي يهتم بالنقد والنظام المالي للبلاد.
وأشار إلى أن باول تعرض لبعض الانتقادات على رأسها مقاربته للقطاع المالي والمصرفي، خاصة بعد أزمة انهيار بنك سيليكون فالي وإفلاس بعض البنوك المحلية في عام 2023، بسبب عدم وضع أنظمة ولوائح مصرفية متشددة، والتساهل مع بعض البنوك التي كانت منكشفة على القطاع العقاري وهو ما نتج عنه أزمة القروض والرهن العقاري.
وذكر أن باول مر بفترات فشل كما حقق نجاحاً خلال إدارته للفيدرالي، موضحًا:
- باول فشل في مواجهة ارتفاع التضخم في عام 2021، حيث أن المركزي الأميركي حينها أخطأ باعتبار التضخم في بدايته مرحلة مرحلية ستختفي، لكنه كان تضخماً عنيداً ومتمراًد، وتأخر الفيدرالي في تدخله بعد أن وصل إلى مستويات قياسية.
- إعادة رفع الفوائد وإبقائها أكثر من سنة عند مستويات 5.5 بالمئة ساعد في كبح هذا التضخم وانخفاضه، فنجح المركزي الأميركي بعد أن أصبح التضخم كبيرًا بوضعه تحت السيطرة، وهو اتجاه يشير إلى الوصول للهبوط السلس والناعم للاقتصاد الأميركي.
- فشل باول في وضع سياسات وأطر تشريعات مالية بخصوص المصارف، بينما نجح فيما فشل فيه لاحقاً باحتواء أزمة البنوك المحلية وكان داعما لها وأنقذ البلاد من انهيار مالي كبير.
وأكد أن ما ساعد باول على تحقيق الهبوط الناعم هو أن الاقتصاد الأميركي مرنًا وقويًا، كما أن القدرة الاستهلاكية للمستهلك الأميركي قوية، وكذلك الحكومة الأميركية ساعدت الفيدرالي، من خلال تقليل الإنفاق الحكومي بعد أن كان جنونيًا، ليتزايد حجم الدين الأميركي كل مائة يوم تريليون دولار.
وأفاد بأن سياسات الفيدرالي بقيادة باول ستظهر نتيجتها بعد أربعة أشهر، إذا ما كان تأخره في خفض الفائدة قرارًا صائبًا للسيطرة على التضخم أم سيكون هذا التأخير سببا من أسباب الركود الاقتصادي.