دخلت الصناعات الاستراتيجية على خط التوترات التجارية بين الصين والاتحاد الأوربي والتي لاتزال قائمة رغم عقود من التعاون بين الجانبين والرغبة الإيجابية لتنمية العلاقات التجارية بينهما، لكن من المرجح تصاعد التوترات بينهما بسبب قدرة الصين المتزايدة على التصنيع بتكلفة أقل في الصناعات الاستراتيجية وهو ما يشكل مصدر قلق لأوروبا، بحسب غرفة تجارة الاتحاد الأوروبي في الصين.
يأتي ذلك في الوقت الذي تعبر فيه الصين مراراً عن عدم رغبتها في المواجهة مع التكتل الأوروبي، وكذلك تأكيد الاتحاد الأوروبي عزمه على إعادة التوازن إلى العلاقات التجارية مع الصين.
وقال جينز إيسكيلوند، رئيس غرفة تجارة الاتحاد الأوروبي في الصين تعقيباً على تقرير للغرفة صدر الأربعاء حول المخاطر السياسية المتزايدة التي تواجه الشركات الأوروبية في الصين: "إن الغرفة تشهد طاقة فائضة في جميع المجالات"، سواء في المواد الكيميائية أو المعادن أو السيارات الكهربائية، لقد التقيت بعدد قليل جداً من الشركات التي لا تواجه هذه المشكلة".
وأضاف إسكيلوند: "لا يمكن لأوروبا أن تقبل أن يتم تسعير الصناعات القابلة للحياة استراتيجياً والتي تشكل القاعدة الصناعية الأوروبية خارج السوق، عندها تصبح التجارة مسألة أمنية، وأعتقد أن هذا ربما لا يحظى بالتقدير الكامل في الصين حتى الآن، فيجب أن تكون هناك محادثة صادقة بين أوروبا والصين حول ما سيعنيه هذا"، مشيراً إلى أن الجانبين بحاجة إلى إيجاد طريقة لضمان عدم تعطل معظم التدفقات التجارية.
وأوضح أن أوروبا لن تجلس مكتوفة الأيدي وتشهد بهدوء تراجع التصنيع المتسارع في أوروبا، بسبب الاستعانة بالمصادر الخارجية لانخفاض الطلب المحلي في الصين".
بداية ما هي الصناعات الاستراتيجية؟
الصناعة الإستراتيجية هي قطاع من قطاعات الاقتصاد له أهمية كبيرة بسبب مساهماته في النمو الاقتصادي والتوظيف والأمن القومي والتقدم التكنولوجي، وتتطلب هذه الصناعات تخطيطاً طويل المدى ودعماً حكومياً وتعاوناً بين أصحاب المصلحة في الدولة لضمان تنميتها المستدامة وقدرتها التنافسية، ومن خلال الاعتراف بالصناعات الاستراتيجية والاستثمار فيها، تستطيع الحكومات تسخير إمكاناتها لدفع التقدم الاجتماعي والاقتصادي وتعزيز الرخاء الوطني، ومن هذه الصناعات أشباه الموصلات والإلكترونيات والسيارات الكهربائية والصناعات الدفاعية والفضائية.
في حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية": قال الرئيس التنفيذي ورئيس الاستثمار في "ATA Global Horizons"، علي حمودي: "إن الصناعات الاستراتيجية الصينية تُقلق الاتحاد الأوروبي لأن المصانع الصينية تعمل على إغراق الأسواق العالمية بصادرات عالية الجودة مثل السيارات والأجهزة ورقائق الكمبيوتر والإلكترونيات، وهذا بالطبع يثير قلق صناع السياسات في الاتحاد الأوروبي الذين يريدون حماية وتعزيز مثل هذه الصناعات بلدانهم، مما يمهد الطريق لجولة جديدة من التوترات التجارية مع وأوروبا وحتى الولايات المتحدة".
وأوضح أن الاتحاد الأوروبي يشعر بالقلق من وجود قدرة صينية متزايدة في بعض القطاعات الاستراتيجية، مثل صناعة أشباه الموصلات والإلكترونيات وصناعات الفضاء والدفاع والسيارات الكهربائية.
والحقيقة أن بكين استثمرت على مدى السنوات القليلة الماضية في مصانع جديدة لتلبية الطلب من المستهلكين الأوروبيين والأميركيين الذين أنفقوا مئات الملايين على السلع المستوردة أثناء الوباء، واستثمرت الصين بحماس لتطوير صناعات التكنولوجيا الفائقة مثل السيارات الكهربائية والبطاريات، والتي تعتبرها الحكومة الصينية ضرورية لتقدمها الاقتصادي، وفقاً لحمودي.
توسع هيمنة الصين على التصنيع
وأضاف الرئيس التنفيذي ورئيس الاستثمار في "ATA Global Horizons"، : "لذا، مع توسع هيمنة الصين على التصنيع على مستوى العالم، فإن المخاطر مرتفعة بالنسبة لشركات صناعة السيارات على سبيل المثال، وخاصة في أوروبا، وخرجت الصين في السنوات الأخيرة من صناعة السيارات بشكل ضئيل لتجاوز ألمانيا في صادرات السيارات، ولهذا أعتقد أن المعركة من أجل التفوق في صناعة السيارات ليست سوى عنصر واحد من عناصر المناخ التجاري المتدهور بين الصين وعملائها الرئيسيين في أوروبا والولايات المتحدة".
بدورها، أوضحت الدكتورة نيفين حسين شمت المختصة بالشؤون الاقتصادية الدولية في حديثها لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" أن الصناعات الاستراتيجية الناشئة تتميز بسوق كامنة كبيرة وبقدرة دفع قوية وخلق عدد كبير من الوظائف والعائدات الشاملة، مثل الجيل الجديد من تكنولوجيا المعلومات، وصناعة المعدات ذات التقنية العالية، والطاقة الجديدة والجيل الجديد من أجهزة الاتصالات المحمولة، والبيانات الكبرى وغيرها.
الاتحاد الأوروبي وجهة رئيسية للاستثمار الصيني
وأضافت الدكتورة شمت أنه "في إطار تكيف الصين مع التغيرات الجديدة التي طرأت على المنافسة بين الصناعات المختلفة، تطورت الصناعات الاستراتيجية الناشئة في البلاد مع تسارع اختراقات الابتكار في المجالات الرئيسية مثل صناعة بطاريات الليثيوم والخلايا الشمسية وسيارات الطاقة الجديدة، حيث ارتفع الاستثمار في الصناعات فائقة التقنية للصين بنسبة 10.3 بالمئة في عام 2023، ونتيجة التنمية القوية لهذه القطاعات بلغت القيمة المضافة للصناعات الاستراتيجية أكثر من 13 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي للصين وذلك نظراً لتمتعها بمزايا فريدة تتمثل في وجود أساس صناعي جيد وطلب كبير في السوق".
ويعد الاتحاد الأوروبي أحد اهم الوجهات الرئيسية للاستثمار الأجنبي المباشر الصيني، حيث تتركز الاستثمارات الصينية في مشروعات الطاقة النظيفة على قطاع السيارات، وخاصة في ألمانيا وبريطانيا وفرنسا والمجر، والتي استحوذت على نحو 88 بالمئة من الاستثمارات الصينية المباشرة في أوروبا، وكذلك على أغلب صفقات الاستحواذ والاندماج الصينية في القارة لذا ارتفعت مخاوف الاتحاد الأوروبي من الصين بسبب ممارساتها التجارية التي يرى الاتحاد أنها تُشكل تهديداً للصناعات الأوروبية الأساسية، وهو ما دفعه إلى أن يتبنَّى نهجاً صارماً في التعامل معها، طبقاً لما قالته الدكتورة شمت.
تداعيات الحرب التجارية
وترى الخبيرة المختصة بالشؤون الاقتصادية الدولية أن هذا الواقع من شأنه أن يثير القلق من احتمال نشوب حرب تجارية بين الصين والاتحاد الأوروبي تتمثل تداعياتها في انتشار الركود في الأسواق الأوروبية، وارتفاع معدل البطالة في الدول الأوروبية، وتزايد العجز التجاري الأوروبي مع الصين.
وقد وضعت المفوضية الأوروبية خططاً لتعزيز الأمن الاقتصادي للاتحاد الأوروبي تشمل التدقيق في الاستثمارات الأجنبية ووضع ضوابط أكثر تنسيقاً على الصادرات ووصول التكنولوجيا إلى المنافسين مثل الصين، حيث تأتي الحزمة استجابة للمخاطر العديدة التي كشفت عنها جائحة كورونا والغزو الروسي لأوكرانيا والهجمات الإلكترونية والهجمات على البنية التحتية وتصاعد التوترات الجيوسياسية، واقترحت المفوضية مراجعة قانونها الخاص بفحص الاستثمارات الأجنبية المباشرة بما سيتطلب من جميع دول الاتحاد فحص وربما منع استثمارات إذا شكلت خطراً أمنياً، بحسب تعبيرها.
يشار إلى أن العلاقات الصينية-الأوروبية تشهد توترات متزايدة على مدار السنوات الماضية بسبب استمرار الخلافات السياسية حول العديد من الملفات، والمنافسة الاقتصادية بين الطرفين ومن أهم هذه الخلافات اختلال التوازن التجاري حيث سجل العجز التجاري بين الصين والاتحاد الأوروبي مستوى قياسيًا عند 400 مليار يورو لصالح الصين، وهو ما يمثل ارتفاعًا بنسبة 58 بالمئة على أساس سنوي، وبلغت الصادرات الأوروبية للصين نحو 230.3 مليار يورو مقابل واردات تبلغ قيمتها 626 مليار يورو خلال عام 2022.
وترجع أسباب هذا العجز إلى عدم قدرة الشركات الأوروبية على الوصول إلى السوق الصينية، والمعاملة التفضيلية للشركات الصينية المحلية، والقدرة الفائضة في الإنتاج الصيني، فضلًا عن توجيه غالبية الصادرات إلى أوروبا بعدما أغلقت بعض الأسواق أبوابها أمام المنتجات الصينية، مما أدّى إلى إغراق الأسواق الأوروبية بالسيارات الكهربائية الصينية والألواح الشمسية والأجهزة الطبية بحسب المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية.