شهدت أسعار حبوب الكاكاو ارتفاعاً كبيرا وغير مسبوق خلال شهر مارس 2024، إذ كانت وتيرة هذا الارتفاع الأشد وطأة على الأسواق منذ بدء أسعار الكاكاو مسارها التصاعدي قبل عامين، وذلك بفعل عدة عوامل، منها تفاقم انتشار الأمراض في المزارع الصغيرة في غرب إفريقيا، وتغير المناخ، إضافة إلى تعقيدات سوق العقود الآجلة.
وبحسب بلومبرغ فإن الارتفاع الكبير في أسعار الكاكاو، والذي ساهم في تضاعف أسعار العقود الآجلة للكاكاو في الأشهر الثلاثة الأخيرة، يعود جزئياً لنوع من الاضطراب المالي، الذي يحدث عندما ترتفع السلع بسرعة كبيرة، لدرجة تطيح بالاستراتيجيات المتبعة لحماية السوق من مثل هذه التقلبات.
وبات من المؤكد تقريباً أن نتيجة هذا الارتفاع ستكون شوكولاتة أصغر حجماً، وأكثر تكلفة، وذلك لوقت طويل نسبياً، فحتى لو تراجعت الأسعار عن المستويات الحالية، تشير الترجيحات إلى أن أسعار الشوكولاتة ستظل مرتفعة لسنوات مقبلة.
ورغم أن النظرية التي يعتمد عليها الاقتصاديون في هذه الحالات، تقول إن مكافحة غلاء الأسعار هي ارتفاع الأسعار، لأن ذلك من الممكن أن يؤدي إلى تقليل الطلب، أو تحفيز زيادة العرض، أو حتى كليهما، إلا أن الوضع مع الكاكاو مختلف، ويظهر مدى عدم دقة ممارسة هذه النظرية، نظراً لتعقيدات السوق، والحقائق المادية الصعبة، مثل المدة التي تستغرقها شجرة الكاكاو الجديدة لتنمو.
الوضع بشكله الحالي
أصبحت العقود الآجلة للكاكاو في بورصتي نيويورك ولندن، أغلى مما كانت عليه في أي وقت مضى، وتجاوزت المستويات المرتفعة التي شوهدت في عام 1977، عندما كان العالم يواجه نقصاً آخراً في الكاكاو.
وسجلت العقود الآجلة للكاكاو المتداولة في نيويورك رقماً قياسياً لتبلغ 10.080 دولاراً للطن المتري في 26 مارس 2024، لتعود وتتراجع قليلاً إلى مستوى يفوق 9.500 دولار أميركي، في حين وصل سعر حبوب الكاكاو في بورصة لندن، إلى 8.000 جنيه إسترليني للطن أي حوالي 10.000 دولار أميركي.
وقبل هذا الارتفاع، ظلت العقود الآجلة للكاكاو في نيويورك إلى حد كبير، أقل من مستوى 3500 دولار، وذلك منذ ثمانينيات القرن الماضي.
وتقول بلومبرغ إن أزمة العرض القياسية، هي الدافع وراء هذه الزيادات في أسعار الكاكاو، حيث يسير العالم على المسار الصحيح، نحو عام ثالث من العجز، من حيث محاصيل حبوب الكاكاو، مع توقعات بأن يقل العرض عن الطلب في عام 2024، بمقدار 374 ألف طن، وذلك وفقاً لمنظمة الكاكاو الدولية.
بينما تتوقع شركة Barry Callebaut لمعالجة الكاكاو وتصنيع الشوكولاتة أن يقل العرض عن الطلب بحوالي 500 ألف طن، أي ما يعادل حوالي عُشر السوق العالمية.
وخلافاً لمعظم المحاصيل المزروعة لأسواق السلع العالمية، لا يتم إنتاج الكاكاو عن طريق مزارع واسعة النطاق، ولكن عن طريق صغار المزارعين، والعديد منهم في غرب إفريقيا، الذين هيمنوا على التجارة لعقود من الزمن.
ومن المتوقع أن توفر ساحل العاج وغانا، 53 بالمئة من إنتاج الكاكاو في العالم في الموسم الحالي، وهي حصة كانت أعلى في السابق، حيث أدت العوامل التالية إلى انخفاض إنتاج الكاكاو :
- الأمطار والجفاف كانا أكثر شدة من المعتاد في غرب إفريقيا، وهذه العوامل لا تناسب زراعة الكاكو ما ساهم بتراجع المحاصيل.
- تسببت الأمطار الشديدة بغمر الحقول أشجار الكاكاو بالمياه، مما أدى إلى تفاقم انتشار أمراض مثل مرض القرون السوداء، وفيروس البراعم المتضخمة، وهو ما أدى بالتالي إلى تعفن الحبوب وقتل الأشجار.
وفيروس البراعم المتضخمة، هو مرض يدمر ويقتل الأشجار، فيما يتسبب مرض القرون السوداء، بتعفن حبوب الكاكاو.
- أشجار الكاكاو التي يعتمد عليها المزارعون، أصبحت متقدمة في العمر، وهذا العامل يساهم أيضاً في تراجع المحاصيل.
- كان صغار المزارعين في ساحل العاج وغانا، يحصلون على أجور منخفضة منذ فترة طويلة، فحكومة كل من الدولتين، تحدد أسعار المحاصيل في وقت مبكر، ولذلك لم يستفد المنتجون بعد من الارتفاع الحالي، حيث أعاقت الأجور المنخفضة قدرة المزارعين، على الاستثمار في التحسينات ودرء الأمراض، ما حد من كمية الكاكاو التي يمكن أن تنتجها أشجارهم.
أسباب ارتفاع الأسعار
يمكن أن يكون النقص القياسي في حجم إنتاج الكاكاو هو المسبب الأساسي لارتفاع الأسعار، وقد أشار محللو "سيتي" للأبحاث الشهر الماضي، إلى أن نطاق تداول عقود الكاكاو، سيتراوح بين 7000 دولار إلى 10000 دولار للطن.
ولكن حجم الارتفاع الأخير، الذي سجلته العقود الآجلة للكاكاو في نيويورك، بأكثر من 1000 دولار خلال جلستين، دفع مراقبي السوق إلى الاعتقاد بأن الدوافع المالية أيضاً، لها دورها في الارتفاع.
وتقول بلومبرغ إن المتداولين عادة ما يستخدمون سوق العقود الآجلة، للتحوط من المخاطر في السوق الفعلية، حيث يأمل البائعون الذين لديهم كاكاو في متناول اليد أن ترتفع الأسعار، لكن هؤلاء يحمون أنفسهم من خلال المراهنة على انخفاض الأسعار.
وإذا ارتفعت الأسعار، فإن مكاسبهم من مخزوناتهم ستعوض أكثر ما دفعوه على المراهنة على انخفاض الأسعار، في حين أنه إذا انخفضت الأسعار وأصبحت قيمة مخزوناتهم أقل، فإن رهاناتهم على انخفاض الأسعار سوف تعوض بعض خسائرهم.
ويعمل هذا النوع من التحوط بشكل جيد، عندما تتحرك السلع صعوداً وهبوطاً وضمن نطاق معتدل، ولكن الأمور تتعقد عندما تتحرك السوق بشكل حاد، في اتجاه واحد، فإذا ارتفعت الأسعار، ثم واصلت ارتفاعها بشكل حاد، فإن التكلفة الإضافية للضمانات لتغطية الرهانات، قد تصبح غير قابلة للتحمل بالنسبة للمتداولين، وهذا ما يمكن أن يدفع البعض منهم إلى "إغلاق مراكزهم" التي تعد بمثابة معاملة أمنية، عن طريق شراء المزيد من عقود الكاكاو، مما يؤدي بالتالي إلى ارتفاع الأسعار بشكل أكبر.
وللمحافظة على نظام الأسواق، اتخذت بورصة إنتركونتيننتال خطوات، تنص على تقليل كمية الكاكاو التي يمكن للمتداولين شراؤها من خلال بورصة لندن، حيث سينخفص ما يسمى بحد التسليم من 75 ألف طن في مايو إلى 50 ألف طن في يوليو، وصولاً إلى 25 ألف طن لعقد ديسمبر وصاعداً.
ماذا يعني هذا بالنسبة للمستهلكين
يبذل صانعو الشوكولاتة كل ما في وسعهم لتعويض التكاليف المرتفعة من خلال رفع أسعار التجزئة، وتقليص أحجام العبوات، وزيادة الكفاءة الإنتاجية إلى الحد الأقصى، إضافة إلى طرح المزيد من المنتجات التي تحتوي على كميات أقل من الكاكاو.
ولكن هذه التحولات هي مجرد بداية، فالشركات تقوم بالتحوط وتأمين الإمدادات مسبقاً، وبالتالي فإن تأثير الارتفاع القياسي لحبوب الكاكاو، لم يترجم بشكل كامل حتى الآن على أرفف متاجر البيع بالتجزئة، حيث من المرجح أن يظهر هذا التضخم في الأسعار على مدى 6 إلى 12 شهراً مقبلة، وفقاً لـ Bloomberg Intelligence.
كما سيشعر مصنعو الشوكولاتة وعمالهم بالضيق، مع إغلاق المصانع في غانا لأبوابها بشكل متقطع بسبب نقص الإمدادات، في حين أعلنت شركات معالجة الكاكاو الكبرى Barry Callebaut AG وBlommer Chocolate Co، أنها ستغلق منشآتها وتسرح الموظفين.
وتعد الأسعار المرتفعة مفيدة على المدى الطويل للمزارعين، الذين كانوا يحصلون على أجور منخفضة منذ فترة طويلة.
ولكن حتى الآن، فإن المزارعين في أكبر الدول المنتجة للكاكاو في العالم، لم يستفيدوا بعد من أرباح هذا الارتفاع، وذلك لأن حكومتي ساحل العاج وغانا تحددان أسعار الكاكاو على أساس المبيعات التي تمت قبل عام.
ويحصل المزارعون في ساحل العاج على 1000 فرنك غرب إفريقي لكل كيلوغرام، في حين يحصل المزارعون في غانا على 20928 سيدي للطن، وكلاهما يعادل حوالي 1600 دولار للطن.
وقد أفادت بلومبرغ أن المنتجين في ساحل العاج يضغطون من أجل زيادة الأجور مقابل حصاد المحصول الذي يبدأ في أبريل، لكن أهل الصناعة في البلاد اقترحوا إبقاء الأسعار كما هي.
وفي الوقت نفسه، يقوم المزارعون في الأسواق المحررة مثل البرازيل والإكوادور والكاميرون ونيجيريا بتكثيف الإنتاج للاستفادة من الأسعار المرتفعة.
وتحاول البرازيل والكاميرون مضاعفة إنتاجهما من الكاكاو بحلول نهاية العقد، في حين تستهدف الإكوادور إنتاج 800 ألف طن من الكاكاو بحلول عام 2030، وهو الأمر الذي يمكن أن يسمح للدولة بتجاوز غانا لتصبح ثاني أكبر منتج للكاكاو في العالم، خلف ساحل العاج فقط.
ولكن أشجار الكاكاو تحتاج إلى وقت لتنمو، لذلك سوف يستغرق الأمر ثلاث سنوات على الأقل قبل أن توفر حبوب الكاكاو الجديدة الإمدادات اللازمة، في حين يمكن للقواعد الجديدة للاتحاد الأوروبي، أن تساهم في رفع الأسعار كونها تمنع المنتجين من شراء محصول الكاكاو من المزارعين الذين شاركوا في إزالة الغابات لزرع أشجار الكاكاو.
إتجاه السوق على المدى الطويل
من غير المرجح أن يحقق العرض انتعاشاً سريعاً، حيث من المتوقع أن تكون محاصيل الحصاد الذي بدأ للتو في ساحل العاج، أضعف من العام الماضي، فيما يستعد البعض بالفعل لعجز آخر في الموسم المقبل.
وعلى الجانب الآخر من المعادلة، فإن الشوكولاتة باهظة الثمن تؤثر بالفعل على الطلب، مما يدفع المستهلكين إلى شراء كميات أقل منها، وبالتالي يتراجع الطلب، كما أن الطقس الملائم من الممكن أن يسهل تعافي الإنتاج بشكل أسرع.
ومن المحتمل أيضاً أن تقوم الحكومات في ساحل العاج وغانا، بزيادة المبلغ المدفوع للمزارعين، ومن شأن ذلك أن يمول إعادة الاستثمار في المبيدات والأسمدة والعمالة، لتعزيز إنتاجية المحاصيل لعام 2025، في حين أنه من المتوقع أن يبدأ منتجو الكاكاو الجدد في أميركا اللاتينية، وأماكن أخرى من العالم، الذين تغريهم الأسعار المرتفعة، بالمساهمة في الإمدادات العالمية للكاكاو في السنوات المقبلة.
وتقول صاحبة شركة تصنيع شوكولاته سهام حيمور، في حديث لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن الارتفاع المستمر لأسعار الكاكاو، والذي يبدو أن لا سقف له أقله في المدى المنظور، سيحوّل تجارة الشوكولاتة إلى تجارة غير مستقرة، حيث على المستهلكين الاستعداد لرؤية أسعار لم يروها من قبل في عالم الشوكولاتة، كاشفة أن سعر الطن المتري للعقود الآجلة للكاكاو، وهي المادة الخام الأولية، المستخدمة في تصنيع الشوكولاتة، ارتفع من 2500 دولار في بداية عام 2023، إلى ما يفوق العشرة آلاف دولار حالياً.
وبحسب حيمور وهي خبيرة في تجارة الشوكولاتة، فإن هذه النسبة من الارتفاع في الأسعار، تعني أنه بات من المستحيل على مصنعي الشوكولاتة، الاستمرار بالنهج المعتمد سابقاً لناحية التسعير الأقل والحجم والنوعية، فأول ما سيفعله هؤلاء هو تحصيل هذه الارتفاعات، من خلال تحويلها إلى جيوب المستهلكين الذين سيلاحظون ارتفاعاً غير مسبوقاً، قد يصل إلى الضعف في أسعار منتجات الشوكولاتة، وذلك خلال الفترة القريبة المقبلة على أن يستمر هذا الأمر لأشهر طويلة.
وترى حيمور أن منتجي الشوكولاتة ومصنعي الحلوى في العالم، سيحاولون امتصاص جزءٍ من الارتفاعات التي سجلتها أسعار الكاكاو، من خلال الاعتماد على وصفات جديدة، فبدلاً من طرح منتجات كبيرة الحجم وغنية بالشوكولاتة، سيتم طرح ألواح شوكولاتة صغيرة الحجم، تحتوي على كمية أقل من الشوكولاتة، مع إمكانية أن تكون هذه المنتجات محشية ببدائل مثل الكراميل والمكسرات والفاكهة، لافتة إلى هذه الإجراءات تضمن عدم رفع أسعار الشوكولاتة بقوة، لكن الأسعار ستبقى مرتفعة وبنسبة كبيرة جداً مقارنة بالسنوات السابقة.
وتؤكد حيمور أن صناعة الشوكولاتة تمر في وضع حرج للغاية، فحوالي 70 بالمئة من حبوب الكاكاو في العالم، تأتي من أربع دول في غرب إفريقيا هي، ساحل العاج وغانا ونيجيريا والكاميرون، وكلها تعاني من تعثر في عملية انتاج الكاكاو، بسبب نمط طقس النينيو، وفيروس البرعم المتضخم، ومرض القرون السوداء، مشيرة الى أن المخاوف المحيطة بمحاصيل الكاكاو تتفاقم، مدفوعة بمخاوف بشأن سوء الأحوال الجوية، مع توقعات باستمرار هطول الأمطار، بمعدلات تفوق المتوسط، في غرب أفريقيا خلال الفترة المقبلة.
وتكشف حيمور أن هناك عاملاً جديداً دخل على الارتفاعات التي تسجلها عقود الكاكاو في البورصات العالمية، وهو تهافت المتداولين على شرائها، وهذا ما ساهم بتسجيل ارتفاعات قياسية وسريعة جداً في الآونة الأخيرة، حيث يستوجب هذا الأمر، إتخاذ إجراءات تنظيمية، تضمن عدم تحول عقود الكاكاو إلى عقود للمضاربة.
وتنهي حيمور حديثها لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، بتوقعها أن تكون ردة فعل المستهلكين هي الإحجام عن استهلاك حلوى الشوكولاتة، مقارنة بالمستويات السابقة، والتي كانت تُقدر بنحو 0.9 كجم للفرد سنوياً، مشيرة إلى أن مسار أسعار الكاكاو، سيكون مساراً صعودياً، وذات تأثير سلبي حتمي على المنتجين والمستهلكين الذي عليهم الاستعداد للأسوأ في هذا المجال.