بات من الواضح أن الاختراقات التي تحققها تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي التوليدي تضع العالم على مشارف ثورة تكنولوجية تنذر بإحداث تحول كبير في أسلوب حياة البشر، فهذه التكنولوجيا التي تشق طريقها إلى الأسواق، أثبتت بعد أكثر من عام ونصف العام على ظهورها، أنها قادرة على إعادة تشكيل المشهد المستقبلي الوشيك.
وخلال الأسبوع الماضي، أبهرت شركة "أوبن إيه آي" العالم، بالتقدم السريع الذي أحرزته في مجال تطوير تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي التوليدي، مع إعلانها عن إطلاق نموذج GPT-4.0 الذي يمثل ترقية كبيرة للنظام التشغيلي الخاص بروبوت ChatGPT، ما سيمنح الأخير إمكانات غير مسبوقة، خصوصاً لناحية قدراته على التفاعل صوتياً مع أقوال البشر، حيث أعلنت "أوبن إيه آي" أن الترقية الجديدة، ستجعل ChatGPT قادراً على إدراك المشاعر، وتغيير نبرة صوته عند الحديث مع المستخدمين.
قفزة نوعية مقلقة
ورغم أن ما كشفت عنه OpenAI يمكن اعتباره قفزة نوعية في عالم التكنولوجيا، إلا أن تحقيقاً نشرته بلومبرغ، واطلّعت عليه "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، سلّط الضوء على الناحية المقلقة لهذا التطور السريع، ومدى جهوزية البشر، للتعامل مع الذكاء الاصطناعي الذي يبدو كشخص، فنموذج GPT-4o يمنح ChatGPT قدرات صوتية، تُشعر من يتحدث معه، على أنه شخص حقيقي أكثر من كونه برنامجاً يعمل عبر الذكاء الاصطناعي التوليدي.
وتكشف بلومبرغ أنه خلال حفل إطلاق نموذج GPT-4.0، نجح ChatGPT في تلبية طلبات سرد قصة ما قبل النوم، كما ساعد في حل مسألة رياضية مع تأخر بسيط في الرد، حيث أشارت OpenAI إلى أن الإصدار الجديد، يمكنه الاستجابة لأي شخص يتحدث إليه في متوسط سرعة تبلغ 320 ميلي ثانية، وهو معدّل ليس بعيداً عن مدى سرعة رد الأشخاص العاديين في المحادثة.
كما أنه بفعل الترقية الجديدة بات ChatGPT قادراً على الرد على الأسئلة والأوامر المحكية، بواحد من خمسة أصوات يختارها المستخدمون، وبنبرة تتماشى مع الحالة المزاجية، التي تظهرها نبرة صوت المستخدم، إذ قد بدت القدرات الصوتية الجديدة لـ ChatGPT أكثر سرعة ومحاكاة للكلام البشري، وكأنها شريك محادثة حقيقي، وبالتأكيد أكثر إقناعاً من أصوات ChatGPT القديمة، وأفضل بكثير من أصوات Alexa من Amazon وSiri من Apple.
ويشير التحقيق الذي نشرته بلومبرغ، واطلع عليه موقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إلى أنه مع تزايد تشابه أصوات روبوتات الذكاء الاصطناعي مع أصوات البشر، من حيث لهجتها وإلقائها وسرعة رد فعلها، تزداد أيضاً احتمالية حدوث انحراف في الأمور، حيث تميل التكنولوجيا التي يقوم عليها ChatGPT بالفعل، إلى سرد الأمور بطريقة تبدو واثقة.
وهو ما يخلق حالة من القلق بشأن قدرة البرامج الرقمية على خداع الناس بسهولة، علماً أن القدرات الصوتية الجديدة لـ ChatGPT والتي سيتم طرحها في الأسابيع المقبلة، لا يمكن لأي شخص استخدامها مجاناً، فهي ستكون مخصصة فقط لمشتركي نسخة ChatGPT Plus المدفوعة، وذلك على الأقل في الوقت الحالي.
ويقول رئيس شركة "تكنولوجيا" مازن الدكاش، في حديث لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن ما رأيناه مع ChatGPT يعتمد على تكنولوجيا "التقنيات الرقمية البشرية" التي تسمح بإنشاء نماذج للذكاء الاصطناعي التوليدي نابضة بالحياة، وقادرة على القيام بتفاعلات حقيقية ومشابهة لأسلوب البشر، فهذه التقنيات يمكنها جعل الشخصيات الرقمية، أكثر فهماً وقدرة على معالجة الأمور وعلى إجراء محادثات حقيقية.
وبحسب قوله فعند النظر من زاوية واسعة للترقية التي أعلنت عنها "أوبن إيه آي"، نرى أن الحديث مع روبوت شبيه بالإنسان هو أمر ممتع، ولكن الحقيقة هي أن هذا الأمر له تأثير مخيف، فالبشر ليسوا مستعدين حتى الساعة للتعامل مع ما يحدث من تطورات متسارعة في عالم الذكاء الاصطناعي التوليدي.
تطور لا يمكن للإنسان مواكبته
ويؤكد الدكاش أن ظهور تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي التوليدي في نهاية عام 2022، أحدث انقلاباً غير متوقع في مجرى الأحداث التكنولوجية في العالم، فقد كان البعض ينتظر أن تكون هذه التقنية، مماثلة للعديد من الاختراعات التكنولوجية التي ظهرت بقوة على الساحة، قبل أن يخفت نجمها.
ولكن الأحداث على أرض الواقع، أثبتت أن الذكاء الاصطناعي التوليدي يتطور يوماً بعد يوم وبشكل سريع جداً لا يمكن للإنسان مواكبته، مشيراً إلى أن ما نراه حالياً أو ما كشفت عنه OpenAI مؤخراً هو جزء صغير جداً مما ينتظرنا في الأشهر والسنوات المقبلة.
وهذا الأمر قد يكون من الأسباب التي دفعت الباحث الرئيسي في مجال السلامة في OpenAI جان لايكي، إلى ترك الشركة واتهامها بأنها تعطي الأولوية "للمنتجات اللامعة" على حساب السلامة، أي أنه اتهم الشركة بالتسرع في طرح منتجات لها مخاطر على السلامة العامة.
وشدد الدكاش على أن ما يقدمه ChatGPT حالياً، هو صوت إنسان يتحدث بذكاء، ويجيب عن الأسئلة التي تم طرحها عليه، ولكن ما لا يدركه البعض، هو أن التقنيات الرقمية البشرية، الموجودة في ChatGPT أو أي برنامج مماثل، يمكنها إنشاء شخصيات رسومية رقمية، ذات تعابير وجه معقدة لتظهرها على أنها إنسان طبيعي، قادر على توليد الكلام التحادثي، "أي أننا سنكون بالفعل أمام بشر رقميين"، بحسب تعبيره.
وحذر من أن هذه التكنولوجيا ستوفّر للمحتالين أدوات، تسمح بانتحال هوية الأفراد عبر التزييف العميق بدقة متناهية، إضافة إلى قدرتها على استنساخ أصواتهم، مما يجعل من عمليات الاحتيال التي تتم على شبكة الإنترنت، أكثر جدوى من السابق، مع عدم القدرة على مواجهتها.
ويلفت الدكاش إلى أن القلق أو الخوف الكبير، هو من إمكانية لجوء بعض الجهات أو القراصنة، إلى إنشاء بشر رقميين قادرين على الظهور بمظهر البشر الطبيعيين عبر شبكة الإنترنت، حيث ستكون مهمة هذه الشخصيات انتحال الهويات للقيام بعمليات قرصنة وسرقة واحتيال، في وقت لا يزال العالم يعاني من عدم وجود قواعد تردع الذكاء الاصطناعي، من انتحال الشخصيات والإضرار بالمستخدمين.
نسخة جديدة كل 6 أشهر
من جهته يقول مهندس الاتصالات محمد الحركة في حديث لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إنه على المستخدمين، الاعتياد على رؤية نسخة جديدة من أنظمة الذكاء الاصطناعي التوليدي كل 6 أشهر تقريباً، وبهذه الوتيرة السريعة من التطور يصبح شبه مستحيل على معظم البشر، التأقلم مع التغييرات التي تحصل في السوق.
وأوضح أن التغييرات التي تعد بها هذه التكنولوجيا، لا تقتصر فقط على المساعدين الرقميين الذين يتحدثون كالبشر، بل تشمل أيضاً سوق الوظائف ومختلف القطاعات الصناعية والإنتاجية والخدماتية، ومن هنا يأتي الخوف الأكبر من أن يحدث الذكاء الاصطناعي التوليدي، قلقا بين صفوف البشر في العالم أجمع.
وشدد الحركة على أن القلق من الذكاء الاصطناعي التوليدي مبرر، ولكن لا يجب حرف الأنظار عن الهدف الأساسي لوجود هذه التكنولوجيا، وهو تطوير وتسريع الأعمال وتحسين الإنتاجية، وليس استخدامها في انتحال الشخصيات والقيام بعمليات قرصنة وسرقة، داعياً إلى كبح تسرّع شركة OpenAI في نشر تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي التوليدي، إذ يجب التأني لتحضير الأرضية وضمان استعداد البشر للمشهد الجديد، ما يضمن عدم حدوث أي انفلات في الوضع.
وكشف الحركة أنه من الناحية التقنية، لا يمكن منع استخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي في عمليات مشبوهة لكونها تكنولوجيا مفتوحة المصدر، فأي شخص في العالم قادر على الوصول إلى مصدر هذه التكنولوجيا وفعل ما يريده بها، وهذا ما يجعل من موضوع ضبطها أمراً مستحيلاً.