يثير تنحي رئيس الوزراء الياباني، فوميو كيشيدا، عن منصبه في سبتمبر المقبل تساؤلات عديدة حول مستقبل السياسات الاقتصادية في رابع أكبر اقتصاد في العالم وتأثير هذا القرار على الأسواق.
فبعد ثلاثة أعوام من قيادته للحزب الديمقراطي الليبرالي وتوجيه اليابان خلال تحديات اقتصادية واجتماعية، يعلن كيشيدا نهاية فترة ولايته بالتزامن مع التراجع الحاد الذي شهدته شعبيته في استطلاعات الرأي بسبب أزمة ارتفاع الأسعار وانعكاساتها على مداخيل اليابانيين.
وقاد كيشيدا اليابان خلال أزمة جائحة كوفيد-19 بتطبيق سياسات تحفيزية ضخمة ساهمت في دعم الاقتصاد الياباني خلال فترة الركود العالمي. ومع تعيينه لكازو أويدا كمحافظ جديد لبنك اليابان، اتخذت الحكومة اليابانية مساراً جديداً نحو تشديد السياسة النقدية، مما أدى إلى رفع بنك اليابان المركزي أسعار الفائدة بشكل غير متوقع في يوليو الماضي. هذا القرار أثار اضطرابات في الأسواق، حيث شهدت الأسهم اليابانية تراجعاً ملحوظاً، وانخفضت قيمة الين بشكل حاد أمام العملات الأجنبية.
وجاء قرار المركزي الياباني في يوليو برفع الفائدة إلى 0.25 بالمئة من نطاق يتراوح بين 0 و0.1 بالمئة، في إجراء جاء متحدياً لتوقعات السوق، حيث كان البنك قد أنهى أسعار الفائدة السلبية في مارس الماضي في تحول تاريخي بعيداً عن برنامج التحفيز، وقتما قرر البنك توجيه سعر الفائدة لليلة واحدة في نطاق يتراوح بين 0 و0.1 بالمئة عن طريق دفع فائدة بنسبة 0.1 بالمئة على الودائع.
وبعد تصريحات كيشيدا في مؤتمر صحفي الأربعاء، تذبذب أداء الأسواق إذ تراجع مؤشر نيكاي 225 بنحو 0.4 بالمئة بعد ارتفاعه 1.3بالمئة. فيما لم يطرأ تغير كبير على سعر صرف الين، الذي يشهد تراجعاً بطيئاً، حيث استقر عند 146.84 ين مقابل الدولار.
عوامل تردي الأوضاع الاقتصادية
ويرى خبراء اقتصاد أن توقيت قرار تنحي كيشيدا يأتي في وقت حساس للاقتصاد الياباني، حيث يواجه خليفته تحديات كبيرة تتعلق بإعادة الاستقرار للأسواق المالية، واحتواء التضخم، وإعادة بناء الثقة في السياسات الاقتصادية، مشيرين على أن المنافسة على منصب زعيم الحزب الديمقراطي الليبرالي ستحدد اتجاهات السياسة الاقتصادية المقبلة، والتي ستكون محورية في تحديد مستقبل الاقتصاد الياباني.
وقال الخبير الاقتصادي، الدكتور مصطفى بدرة في حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية": "إن قرار رئيس الوزراء الياباني بالتنحي يعود إلى الأوضاع الاقتصادية المتردية التي يعاني منها واحد من أقوى الاقتصادات العالمية، فعلى الرغم من أن اليابان تملك سعر فائدة منخفضاً مقارنة بالاقتصادات الكبرى، إلا أن الاقتصاد الياباني لم يتعافَ بعد، وهو ما ساهم في تراجع شعبية رئيس الوزراء. هذه الوضعية تتشابه مع الأزمات الاقتصادية التي شهدناها في الاقتصاد الأوروبي، والتي أدت إلى استقالات عدة في دول أوروبية".
واليوم، تفاجئنا اليابان بعزم رئيس وزرائها التنحي بسبب الأزمات الاقتصادية التي تسببت في ارتفاع الأسعار وتأثيرها السلبي على مستويات الدخل لدى اليابانيين. وهذا الأمر سيشكل تحدياً كبيراً لرئيس الوزراء الجديد، بحسب تعبيره.
وأوضح أن الضعف الاستثماري وانخفاض القدرة الإنتاجية، فضلاً عن التوترات الجيوسياسية العالمية التي ساهمت في ارتفاع الأسعار، جميعها عوامل أثرت بشكل كبير على المجتمع الياباني. حيث يتطلع العالم في ظل هذه الظروف إلى كيفية معالجة هذه الأزمات في المستقبل القريب.
من يحدد مستقبل الأسواق؟
وأضاف الدكتور بدرة: "تغيير اتجاه أسعار الفائدة في اليابان أثر على الأسواق المالية بشكل كبير، وخلال الفترة الماضية تابعنا الانهيار الكبير وخصوصاً ما جرى فيما عُرف بـ (الإثنين الأسود)، لكن يعتمد مستقبل الأسواق المالية على الاستراتيجية التي سيتبعها خلف كيشيدا، سواء بخفض سعر الفائدة، أو رفعه، أو الحفاظ على السعر الحالي. كل هذه الأسئلة ستكون إجاباتها مرتبطة بتوجه الحزب الذي سيختار رئيس الوزراء الجديد، وما إذا كان سيتبع سياسة جديدة أو يواصل النهج الحالي".
من جانبه، أوضح الخبير الاقتصادي وكبير الاقتصاديين في شركة "ACY" الدكتور نضال الشعار بداية العلاقة بين البنك المركزي الياباني والحكومة بقوله: "يتمتع البنك المركزي والحكومة (الإدارة السياسية) في اليابان بعلاقة مميزة، هذه العلاقة تختلف بشكل كبير ما بين البنوك والإدارات السياسة في أغلب الدول الصناعية، ففي الوقت الذي يتمتع فيه المركزي الياباني بالاستقلالية شبه التامة والتي حصل عليها في عام 1998 فإنه من إحدى مهامه التنسيق مع مجلس الوزراء في سعيه لتحقيق أهدافه الاقتصادية.
مشروع سياسة نقدية جديدة
وأكد أن البنك المركزي الياباني أصبح يفكر بمشروع سياسة نقدية جديدة تختلف عن السياسة التي انتهجها خلال العقود الثلاثة الماضية، "وأضاف: هذا التغيير لن يحصل من قبل البنك المركزي بمفرده بل يحصل ذلك بالتناغم مع الإدارة السياسة القادمة، وحتى الآن لا أحد يعلم ما هو برنامج هذه الإدارة فيما يخص السياسة النقدية في البلاد، بمعنى أن اليابان تمر اليوم بمشروع تغيير هيكلي لسياساتها الاقتصادية وأولها هو السياسة النقدية".
لكن لا يمكن لوم رئيس الوزراء كيشيدا في الوضع الاقتصادي الذي تمر به اليابان والذي يمكن وصفه بالمتأزم شعبياً وذلك من حيث الارتفاع في المستوى العام في الأسعار وبشكل خاص السلع الاستهلاكية إذ أن مرد ذلك أغلبه يعود إلى ما حدث من أزمات جيوسياسية وأولها الحرب الروسية الأوكرانية ومن ثم التوترات ما بين الصين وتايوان ومؤخراً ما يحصل في الشرق الأوسط، وهو ما أدى إلى ارتفاعات متتالية في أسعار الطاقة والغذائيات وبشكل خاص أن اليابان تعد دولة مستوردة للطاقة والغذائيات، لذلك كان التأثير منطقياً وواقعاً ، وفقاً للخبير الاقتصادي الشعار.
لهذا السبب تدهور الين
ونوه بأن اللوم بالنسبة لانخفاض سعر صرف الين وتأثير ذلك على ارتفاع أسعار المستوردات يجب أن يقع على البنك المركزي الذي كان يتابع هذا الانخفاض ولم يتدخل بالشكل الكافي مفضلاً ارتفاع حجم الصادرات والتي بدورها حققت أرباحاً ضخمة لأغلب الشركات اليابانية على ارتفاع أسعار المستوردات مما أدى إلى الانخفاض في المستوى المعيشي للفرد الياباني بسبب ارتفاع الأسعار وتباطؤ زيادة الرواتب والأجور.
وأضاف كبير الاقتصاديين في شركة "ACY" الدكتور الشعار: "المواطن الياباني رفض التعامل مع الارتفاع المستمر للمستوى العام الأسعار، لأنه تاريخياً وعلى مدى 30 عاماً لم ترتفع الأسعار في البلاد، وهذا الأمر ضد ثقافة الشعب الياباني حيث الغالبية العظمة ترفض رفع الأسعار ولا تطالب برفع الأجور وتعتبر أن الأسعار والأجور يجب أن تكون مستقرة ويرون أن من مهام الحكومة أولاً لأنها صاحبة النهج الاقتصادي ومن ثم قد يوجهون اللوم إلى البنك المركزي".