أعطت الحرب في أوكرانيا صفعة قوية لاقتصادات البلدان النامية، التي صنفت طبقًا لتقارير دولية على أنها كانت أبرز المتضررين من هذه الحرب، حيث لايزال أثر هذه الصفعة قائمًا حتى اللحظة وسط توسع أزمة الغذاء وانهيار سلاسل الإمداد، ودخول العالم في موجة من التضخم لم يتمكن من تخفيف حدتها حتى اليوم.
في الـ 24 فبراير 2022 أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن إطلاق "عملية عسكرية خاصة في أوكرانيا"، نتج عنها خسائر ضخمة على كلا الجانبين، وامتدت آثارها لتشمل الاقتصاد العالمي، الذي وضعته أمام جملة من التحديات الواسعة.
- صندوق النقد الدولي خفض توقعاته لنمو الاقتصاد في 2024، حسب ما أظهرت البيانات التي نشرها في وقت سابق.
- قال بيار-أوليفييه غورينشا، كبير اقتصاديي الصندوق، "لدينا اقتصاد عالمي لا يزال يتعافى من الجائحة، والحرب في أوكرانيا، وفي الوقت عينه لدينا نمو يبقى ضعيفا بالمقارنة مع مستوياته السابقة. ونسجل أيضا اختلافات متنامية".
- تظهر البيانات أن الوضع متفاوت إما في صفوف الاقتصادات المتطورة، أو بين الدول الناشئة، إذ يرى البعض منها تحسنا في توقعاته بشكل ملحوظ، فيما تعاني دول أخرى ولا سيما في اوروبا، من البطء أو تشهد ركودا طفيفا.
دروس مستفادة
الباحث في الشؤون الاقتصادية، مازن أرشيد، أوضح في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" أن الحرب في أوكرانيا قدمت للعالم، وبشكل خاص للبلدان النامية، دروسًا قاسية حول تأثير الصدمات الخارجية على الاقتصادات المعتمدة بشكل كبير على الواردات.
- هذه الأحداث دفعت الدول النامية إلى إعادة تقييم استراتيجياتها الاقتصادية.
- البحث عن طرق لتقليل التعرض لمثل هذه الصدمات في المستقبل.
- أبرزت الحاجة الماسة للبلدان الناشئة إلى تنويع مصادر وارداتها والبحث عن بدائل للأسواق والموردين.
وعلى صعيد الدول النامية الكبيرة، فقد تأكد تباطؤ الاقتصاد الصيني الذي سيسجل نموا نسبته 5 بالمئة خلال 2023 و4,2 بالمئة في 2024 في حين تعاني البلاد من أزمة في قطاع العقارات، طبقًا لصندوق النقد الدولي.
وقال كبير اقتصاديي صندوق النقد: "إذا لم تبذل أي جهود، قد يكون لذلك تداعيات إضافية على النشاط الصيني" ذاكرا خصوصا "مخاطر على القطاع المصرفي في حال حصل نقص في السيولة".
واستدل أرشيد بارتفاع أسعار الغاز والنفط بسبب الصراع الذي أثر بشكل كبير على الاقتصادات التي تعتمد على الطاقة المستوردة.
- دول مثل الهند والصين سعت إلى تأمين اتفاقيات جديدة مع دول مثل إيران وفنزويلا، بالإضافة إلى استكشاف الطاقة المتجددة كبديل طويل الأمد.
- هذا التحول نحو تنويع الأسواق يساعد البلدان الناشئة على تقليل اعتمادها على مصادر محددة، مما يخفف من تأثير الصدمات الخارجية.
تشجيع الإنتاج
وأكد أرشيد أن الحرب أظهرت الحاجة الملحة لتعزيز الإنتاج المحلي لتقليل الاعتماد على الواردات الأساسية.
- الحرب في أوكرانيا، والتي تعد "سلة خبز" أوروبا، أدت إلى نقص عالمي في الحبوب، مما ضغط على الدول الناشئة لزيادة الإنتاج الزراعي المحلي.
- مصر، على سبيل المثال، قامت بزيادة استثماراتها في تكنولوجيا الري الحديثة والزراعة الدقيقة لتعزيز الإنتاجية والاكتفاء الذاتي في إنتاج القمح. هذه الجهود تساعد في بناء اقتصاد أكثر مرونة قادر على تحمل الصدمات الخارجية.
وأشار أرشيد إلى أن التحديات الناجمة عن الحرب أدت إلى تعزيز الرغبة في المشاركة الفعالة في تجمعات إقليمية أو دولية مثل مجموعة البريكس، والتي تضم البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا. هذه التجمعات تقدم منصة للدول الناشئة للتعاون والتنسيق في مواجهة التحديات الاقتصادية العالمية وتعزيز قدرتها على التفاوض ككتلة واحدة.
واستدل أرشيد بمصر التي انضمت أخيراً إلى مجموعة البريكس، وهو ما يتيح لها وللدول الناشئة تحسين فرصها في الحصول على شروط تجارية أفضل، الوصول إلى أسواق جديدة، وجذب الاستثمارات الأجنبية.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن لهذه التجمعات أن توفر منصة لمشاركة أفضل الممارسات وتطوير الحلول المشتركة للتحديات الإقليمية، مثل الأمن الغذائي والطاقة.
وأكد أرشيد أنه من خلال المشاركة في هذه التجمعات، تستطيع الدول النامية أيضًا تعزيز قوتها التفاوضية في المحافل الدولية، مما يسهم في تحقيق توازن أفضل في النظام الاقتصادي العالمي الذي كان يهيمن عليه تقليديًا الغرب. فيمكن لهذه الدول التفاوض ككتلة لتحسين أسعار السلع الأساسية التي تصدرها أو لتأمين إمدادات الطاقة بشروط مواتية.
ثلاث مجموعات
وعدد الخبير الاقتصاد الدولي، محمد يسلم الفيلالي، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" الدروس الاقتصادية المستفادة من الحرب في أوكرانيا بالنسبة للبلدان الناشئة والتي شملت:
- أهمية تنويع الأسواق.
- الأهمية الاستراتيجية للإنتاج المحلي لبعض السلع.
- أهمية المشاركة الفعالة في التجمعات الإقليمية أو الدولية، وذلك لإمتصاص العواقب المحتملة من الصراعات التجارية بين المعسكرات.
وذكر الفيلالي أن الحرب أدت إلى بزوغ واضح لثلاث مجموعات مجموعات بدأت في التشكل بعد الأزمة المالية 2008.
- مجموعة غربية تضم اقتصادات متقدمة.
- مجموعة شرقية تشمل روسيا و الصين.
- مجموعة "متذبذبة الانحياز" التي تضم معظم دول الآسيان والهند وأميركا اللاتينية والشرق الأوسط وإفريقيا.
وأكد أن هذه المجموعات أدت إعادة التوزيع هذه إلى تحولات استراتيجية في أنماط التجارة العالمية. برزت من خلالها ثلاث دول، وهي المكسيك وفيتنام والمغرب.
- المكسيك، حيث شهدت زيادة هائلة في الاستثمارات المباشرة الأجنبية، حيث جذبت 32.2 مليار دولار في الأرباع الثلاثة الأولى من عام 2023، وتم تحديثها لتكون في مكانة مركزية كمركز رئيسي للاستثمارات الصناعية، خاصة لتلبية احتياجات السوق الأميركية.
- فيتنام، جذبت أكثر من 36 مليار دولار من الاستثمار الأجنبي المباشر في العام 2023، مما يعكس زيادة كبيرة بنسبة 32.1 بالمئة عن العام السابق، حيث تمثل بديلًا للصين بالنسبة لعديد من الشركات الغربية.
- المغرب شهد زيادة كبيرة في الاستثمارات الصينية، خاصة في سلسلة توريد بطاريات السيارات الكهربائية. كما شهد زيادة في الاستثمارات الاستراتيجية من الشركات الأوروبية التي ترغب في تقريب سلاسل الإمداد .
تؤكد هذه الأمثلة تكيف بعض الدول مع التحولات الديناميكية في التجارة العالمية، حيث تقوم بعض المناطق والدول بوضع استراتيجيات للاستفادة من الفرص الناشئة في مشهد الاقتصاد ما بعد الحرب.
استراتيجية غذائية
قال عضو المجلس الاستشاري في معهد CISI في الإمارات، وضاح الطه، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن وجود استراتيجية وطنية للأمن الغذائي وتطوير صناعات زراعية خاصة كان من أهم نتائج هذه الحرب، فكلًا من روسيا وأوكرانيا من أكثر البلدان المصدرة للحبوب في العالم.
وأضاف أن بلدان مثل مصر وتونس واليمن والأردن ولبنان وسوريا كانت من الدول العربية التي تأثرت بشكل كبير، مؤكدًا أن المشكلة لم تقتصر على تصدير الحبوب فقط وإنما قطع خطوط الإمداد البحرية.
وبين أن هذا الصراع أظهر ضرورة تطوير رقعة زراعية خاصة تخدم المنطقة العربية بشكل خاص، فضلًا عن تشجيع اعتماد أفضل السبل الزراعية الحديثة كالزراعة المائية أو العمودية أو السقي بتحويل الرطوبة إلى مياه.
وأثني الطه على الخطوة التي اتخذتها الإمارات بتشجيع القطاع الخاص على الاستثمار الزراعي في مناطق مختلفة بالعالم، ضاربًا المثل بشركة "الظاهرة" التي تستثمر في عدة دول بشراء قطع أراضي واستثمارها زراعيًا وبيع منتجها إلى الإمارات أو أي دول أخرى أو تصنيع هذه المنتجات.
التحول الطاقي
وإلى ذلك، بين الرئيس التنفيذي لمركز كوروم للدراسات الاستراتيجية في لندن، طارق الرفاعي، في تصريح لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" أن هذه الحرب نتج عنها فشل ألمانيا في التحول إلى الاعتماد على الطاقة الخضراء بسبب اعتمادها على الغاز القادم من روسيا عبر أراضي أوكرانيا وبما أنها اعتمدت على مصدر وحيد فشلت في هذه التجربة وعادت إلى تشغيل محطات توليد الطاقة بالفحم.
وأضاف الرفاعي أن الدول النامية والاقتصادات الناشئة عندما رأت هذه التجربة حرصت على تنويع مصادر حصولها على الطاقة ولم تكتفي بدولة واحدة وهذا أحد أفضل الدروس المستفادة من هذه الحرب