بعد تنصيبه رئيساً للولايات المتحدة، يمضي دونالد ترامب قدماً في تشكيل السياسة التجارية الأميركية بمنهجية تتسم بالحمائية، واضعاً شعار "أميركا أولًا" في صميم رؤيته الاقتصادية.
هذه الاستراتيجية تمتد تداعياتها إلى الساحة الدولية، لتصبح أوروبا إحدى أكبر المتضررين، فمع فرض الرسوم الجمركية التي يلوح بها الرئيس الأميركي وتبني سياسات تستهدف تقليص العجز التجاري مع الحلفاء، وجدت الدول الأوروبية نفسها أمام تحديات غير مسبوقة تهدد استقرارها الاقتصادي.
تتبنى أوروبا خيارات مختلفة للرد على ترامب. وفي هذا السياق يقول مفوض الاتحاد الأوروبي للاقتصاد، في التصريحات التي نقلتها عنه شبكة "سي إن بي سي" الأميركية، يوم الأربعاء، إن أوروبا سترد على أي رسوم جمركية يفرضها الرئيس الأميركي بطريقة متناسبة.
ويضيف فالديس دومبروفسكيس، إلى أنه "إذا كانت هناك حاجة للدفاع عن مصالحنا الاقتصادية، فسنرد بطريقة متناسبة (..) نحن مستعدون للدفاع عن قيمنا ومصالحنا وحقوقنا إذا أصبح ذلك ضرورياً".
ومنذ توليه منصبه يوم الاثنين الماضي 20 يناير، كرر ترامب تهديده بفرض رسوم جمركية على السلع الأوروبية التي تدخل الولايات المتحدة، وقال للصحافيين إن الاتحاد الأوروبي "كان سيئاً للغاية معنا. لذلك سوف يتعرضون للرسوم الجمركية. إنها الطريقة الوحيدة ... للحصول على العدالة". وقال أيضاً إن إدارته تناقش فرض رسوم جمركية إضافية بنسبة 10 بالمئة على السلع المستوردة من الصين، اعتبارا من فبراير المقبل.
لكن دومبروفسكيس، يقول:
- الولايات المتحدة وأوروبا حليفان استراتيجيان، ومن المهم لهما العمل معا، سواء على المستوى الجيوسياسي أو الاقتصادي.
- المسؤولون الأوروبيون يتحدثون مع نظرائهم الأميركيين لإيجاد حل عملي؛ لمناقشة الرسوم الجمركية.
- النمو العالمي قد يعاني إذا تضررت العلاقات الاقتصادية بين البلدين.
- "من المهم الحفاظ على هذه العلاقة التجارية والاستثمارية لأن هذا التشرذم الاقتصادي العالمي قد يحدث، وهناك خطر حقيقي من حدوث ذلك، وتشير تقديرات صندوق النقد الدولي إلى أن هذا يعني انخفاض الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنسبة تصل إلى 7 بالمئة".
عوامل أساسية
من برلين، يقول خبير العلاقات الاقتصادية الدولية، محمد الخفاجي، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إن استعداد أوروبا لمواجهة محتملة مع عودة دونالد ترامب للبيت الأبيض يعتمد على عدة عوامل رئيسية.. هذه العوامل تشمل الجوانب الدفاعية والاقتصادية والسياسية، بالإضافة إلى التحديات المناخية.
فيما يخص "مشكلة الدفاع الأوروبي المستقل" يؤكد الخفاجي أن المستشارة الألمانية السابقة، أنغيلا ميركل، دعت خلال فترة ترامب الأولى إلى تعزيز القدرات الدفاعية الأوروبية المستقلة، ورغم إطلاق مبادرات مثل "البوصلة الاستراتيجية"، لا تزال أوروبا تعتمد بشكل كبير على الناتو والولايات المتحدة في الحماية العسكرية.
ويضيف: رغم أن الإنفاق الدفاعي الأوروبي شهد ارتفاعاً نسبياً (..) إلا أن مشاريع الدفاع المشتركة تظل متأخرة، رغم الجهود التي بُذلت منذ بدء الحرب في أوكرانيا لتطوير الأنظمة الدفاعية والجيوش الأوروبية.
وفيما يتعلق بالسياسات التجارية، يلفت إلى أن سياسات "أميركا أولاً" التي ينتهجها ترامب قد تهدد العلاقات التجارية مع أوروبا، خاصة مع تحقيق الاتحاد الأوروبي فائضاً تجارياً مع الولايات المتحدة، موضحاً أن مثل هذه السياسات قد تؤدي إلى فرض إجراءات حمائية ورفع الرسوم الجمركية على المنتجات الأوروبية، مما يضع الاقتصاد الأوروبي، الذي يعاني أساساً من التعثر، تحت ضغط إضافي. لذلك بدأت أوروبا بالفعل البحث عن حلول محتملة لمواجهة هذه التحديات قبل الانتخابات الأميركية.
- الاتحاد الأوروبي يؤكد حرصه على التمسك بعلاقاته الاقتصادية مع الولايات المتحدة، مشيرا إلى أن البلدين يتمتعان بأكبر علاقة تجارية واستثمارية ثنائية و"يتمتعان بالعلاقة الاقتصادية الأكثر تكاملا في العالم"، بحسب المفوضية الأوروبية.
- وفق تقرير الشبكة الأميركية، فإن الميزان التجاري كان مصدر قلق خاص للرئيس ترامب، حيث حقق الاتحاد الأوروبي فائضاً في تجارة السلع مع الولايات المتحدة في عام 2023، لكنه يعاني من عجز في الخدمات.
- في العام 2023، قام الاتحاد الأوروبي بتصدير بضائع بقيمة تزيد عن 502 مليار يورو (522 مليار دولار) إلى الولايات المتحدة، بينما استورد كميات تجاوزت 340 مليار يورو، مما أدى إلى فائض، وفقًا لبيانات المفوضية الأوروبية.
وعلى صعيد التغيرات في السياسة العالمية، يسلط الخفاجي في معرض حديثه مع موقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" الضوء على أن عودة ترامب قد تعني تخفيف الدعم الأميركي لأوكرانيا، مما يضع أوروبا أمام تحديات أمنية متزايدة (..).
كما يُبرز أيضاً موقف ترامب من اتفاقية باريس للمناخ، باعتباره يشكل تحدياً إضافياً لأوروبا، موضحاً أن هذا الأمر قد يدفع أوروبا إلى تحمل العبء الأكبر في الجهود المناخية، ويهدد الاقتصاد الأخضر الذي عملت على بنائه. كما يحذر من احتمال هروب بعض المصانع إلى الولايات المتحدة لتجنب القيود البيئية الصارمة في أوروبا.
ويختتم خبير العلاقات الاقتصادية الدولية حديثه بالإشارة إلى أن أوروبا تواجه تحديات معقدة في حال عودة ترامب للرئاسة، لكنها بدأت باتخاذ خطوات استباقية للتعامل مع هذه التغيرات المحتملة على الساحة الدولية.
تحذيرات
يحذر خبراء الاقتصاد والهيئات المالية من التداعيات المحتملة للرسوم الجمركية التجارية العقابية على الاقتصاد العالمي.
وقالت النائب الأول للمدير العام لصندوق النقد الدولي، جيتا جوبيناث، يوم الأربعاء، إن:
- التهديد الذي تشكله الرسوم الجمركية الأميركية - فضلاً عن تدابير التحفيز المحلية الأخرى مثل التخفيضات الضريبية وإلغاء القيود التنظيمية - يشكل خطراً سلبياً على البلدان الأخرى.
- "إن العديد من هذه الصدمات قد تنتهي في نهاية المطاف إلى شيء من الإيجابية بالنسبة للولايات المتحدة بسبب المشاعر الإيجابية في السوق، في حين أنها تشكل خطرا سلبيا بالنسبة لمعظم بقية العالم".
- من المهم "الانتظار ورؤية ما ستؤول إليه الأمور" فيما يتعلق بالعدد الدقيق ومستوى ومدى التعريفات الجمركية الأميركية - فضلاً عن كيفية رد فعل الدول الأخرى.
من بروكسيل، يقول خبير الشؤون الأوروبية، محمد رجائي بركات، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية":
- "لا أعتقد بأن دول الاتحاد الأوروبي ستكون مستعدة في الوقت الحالي لمواجهة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، لا سيما فيما يتعلق بالإجراءات التي قد يتخذها، مثل فرض رسوم جمركية على البضائع الأوروبية المصدرة إلى الولايات المتحدة".
- إضافة إلى ذلك، هناك مطالبة أميركية بزيادة القدرات الدفاعية لدول الناتو لتصل إلى نسبة 5 بالمئة من الناتج الداخلي الإجمالي، وهو أمر يصعب تحقيقه في ظل الظروف الراهنة.
- دول الاتحاد الأوروبي ليست مستعدة لذلك (لزيادة النفقات الدفاعية)، ولا تملك الإمكانيات الكافية لتلبية هذه المطالب الأميركية.
ويضيف: "عدم استعداد الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي يعود إلى عدة عوامل، أبرزها الرهان السابق على فوز المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس في الانتخابات واستمرار الديمقراطيين في الحكم، وهو ما لم يتحقق، بالإضافة إلى وجود خلافات داخلية بين دول الاتحاد الأوروبي بشأن العديد من القضايا".
ويختتم بركات تصريحاته قائلاً: "ضعف الاتحاد الأوروبي اقتصادياً ومالياً، واستمرار اعتماده على المظلة العسكرية الأميركية يضعف من قدرة الاتحاد على مواجهة تحديات الرئيس ترامب. بالإضافة إلى ذلك، هناك شعور بأن بعض الإجراءات الأميركية تمثل تدخلاً في الشؤون الداخلية الأوروبية، مما يجعل من الصعب على الاتحاد الأوروبي التصدي بشكل فعال للضغوط الأميركية".
التفاوض بشأن الطاقة
وقال متحدث باسم الاتحاد الأوروبي، الثلاثاء إن الاتحاد يتوقع إجراء محادثات مع مسؤولين من الولايات المتحدة في إطار تقييمه لمطالب دونالد ترامب للتكتل بشراء المزيد من الوقود الأميركي.
وأضافت المتحدثة باسم المفوضية الأوروبية لشؤون الطاقة، آنا كايسا إيتكونين، ردا على سؤال من صحيفة بوليتيكو: "الأولوية هي إجراء محادثة، والمشاركة في وقت مبكر، ومناقشة المصالح المشتركة، ثم الاستعداد للتفاوض".
تأتي هذه التصريحات بعد أداء ترامب اليمين الدستورية لولاية ثانية كرئيس للولايات المتحدة. وقد سارع الرئيس المنتخب حديثا إلى مهاجمة الاتحاد الأوروبي، وقال للصحافيين: "الشيء الوحيد الذي يمكنهم فعله بسرعة هو شراء نفطنا وغازنا"، عندما سئل كيف يمكن للاتحاد الأوروبي تجنب الرسوم الجمركية الباهظة.
ووفق تقرير بوليتيكو، فإن الضغوط هي جزء من هدف أوسع نطاقا لترامب لزيادة إنتاج الوقود الأحفوري وتصديره. وفي غضون ساعات من عودته إلى منصبه، تحرك الرئيس لإلغاء تجميد إدارة بايدن لتصاريح مشاريع حفر الغاز الطبيعي المسال الجديدة.
وحذرت إيتكونن من أنه في حين أن المفوضية الأوروبية نفسها "لا تشتري أو تبيع الغاز الطبيعي المسال أو أي وقود آخر"، فإن موظفيها سيتحدثون مع المسؤولين في إدارة ترامب.
وأضافت: "نحن بحاجة إلى إقامة اتصالات معهم ومعرفة كيفية المضي قدمًا. ولكن من الناحية العملية، نحن لا نبدأ من الصفر - فقد كان هذا أمرًا ناقشه كل من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة على أعلى مستوى بشأن الغاز الطبيعي المسال. وما قمنا به على مر السنين من جانب الاتحاد الأوروبي هو التأكد من وجود البنية الأساسية للغاز الطبيعي المسال حتى تتمكن الشركات من شراء هذا الغاز الطبيعي المسال".
والولايات المتحدة هي ثاني أكبر مورد للغاز وأكبر مصدر للغاز الطبيعي المسال للاتحاد الأوروبي ــ نتيجة لقرار روسيا بقطع الإمدادات في أعقاب حربها في أوكرانيا. وحتى الآن بحلول العام 2025، استوردت دول الاتحاد الأوروبي أكثر من نصف احتياجاتها من الغاز الطبيعي المسال من أميركا.