تعد ضاحية غرونوالد في ميونيخ واحدة من أبرز الوجهات الراقية في ألمانيا، فهي موطن للعديد من أغنى الأفراد في البلاد، وتمتزج فيها أموال النخبة التقليدية مع ثروات رجال الأعمال الجدد ونجوم الرياضة، مما حول غرونوالد إلى وجهة تثير فضول الكثيرين وتجذب الأنظار نحو أسلوب الحياة الفاخر الذي يميزها.

ولكن هذه المنطقة التي تفيض بالاحترام والتقدير، كانت مسرحاً لواحدة من أكبر عمليات النصب في ألمانيا، والتي قامت ببطولتها شركة P&R Containers التي تتخذ من ضاحية غرونوالد موطناً مثالياً لها.

وبحسب تقرير أعدته "بلومبرغ" واطلع عليه موقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، فقد كانت شركة P&R Containers التي تعمل في مجال الشحن "ظاهريا"، تشغل مبنى يعد من أصغر المباني في المنطقة، ويحتوي على غرف عادية بسجاد رمادي وجدران بيضاء، ونوافذ زجاجية كبيرة الحجم، حيث ساهم هذا المظهر المتواضع في مساعدة الشركة، على عدم الكشف عن هدفها الأساسي، وهو تنفيذ أكبر عمليات الاحتيال في ألمانيا على الإطلاق بقيمة بلغت 3 مليارات يورو.

أخبار ذات صلة

إسبانيا.. "براد بيت مزيف" يحتال بـ360 ألف دولار على امرأتين
البتكوين.. هل هي كنز رقمي أم مجرد فقاعة استثمارية؟

من هي شركة P&R Containers؟

تم إنشاء P&R Containers في ميونيخ عام 1975 من قبل رجل الأعمال هاينز روث، وقدمت الشركة نفسها كوسيط لحاويات الشحن وكان أسلوب عملها بسيطا جداً، فبدلاً من الاستثمار في الأسهم والسندات، تم إقناع الناس بوضع أموالهم في حاويات، اشترتها P&R التي تقوم بدورها بتأجير الحاويات لشركات الشحن.

ومقابل أموالهم، يحصل المستثمرون على عائدات مالية مضمونة، ناتجة عن إيجار الحاويات، ولكن بحلول عام 2007 تقريباً، لم تكن P&R Containers تحقق ما يكفي من أموال تسمح لها بتغطية العوائد المرتفعة التي وعدت بها مستثمريها، لتبدأ الشركة في ذلك الوقت تنفيذ أعظم مخطط بونزي في تاريخ ألمانيا بعد الحرب، عبر تخصيص أموال المستثمرين الجدد، لدفع الأرباح للمستثمرين القدماء، وذلك بدلاً من شراء حاويات جديدة.

فجوة الأوهام

تُظهر الحسابات التي يرجع تاريخها إلى تلك الفترة أنه بحلول عام 2010، تضخمت الفجوة بين الحاويات التي ادعت P&R Containers أنها تمتلكها، وبين التي تمتلكها فعلياً إلى 600 ألف حاوية، ثم نمت إلى مليون حاوية عند تقديم طلب الإفلاس في عام 2018.

أخبار ذات صلة

عملية احتيال تخترق منصة "إكس" وتستهدف أفراد عائلة ترامب
كيف تتجنب عمليات الاحتيال أثناء البحث عن عمل عبر الإنترنت؟

فقبل أشهر قليلة من إعلان الإفلاس، ادّعت P&R في عام 2018 أنها تسيطر على 1.6 مليون حاوية، ولكن في الواقع لم يكن هناك سوى 618 ألف حاوية موجودة بالفعل، أما العدد الباقي فكان مجرد خيال، الأمر الذي صدم عشرات الآلاف من مستثمري الشركة، بعد أن تقدمت في مارس 2018 بطلب إشهار إفلاسها من السلطات الألمانية، إثر وقوعها في عجز بلغت قيمته 3 مليارات يورو.

ويقول المستثمرون في P&R Containers، أنه ولسنوات، كانت المدفوعات تصلهم في الوقت المحدد، حيث كانت الشركة تنفذ بدقة كافة الشروط الموجودة في العقود الاستثمارية، مما دفع الكثيرين إلى ضخ المزيد من الأموال فيها. وكانت ثقة المستثمرين في P&R Containers قوية، لدرجة أن قِلة من الناس كانوا متشككين بعد أن تأخرت قليلاً في مدفوعاتها لهم في أوائل عام 2017.

وبحسب "بلومبرغ" تُظهر بيانات عام 2017 أن P&R Containers كانت تبيع للمستثمرين حاويات فردية بقيمة 1415 يورو لكل منها، ووفقاً للاتفاق، فإن مدفوعات الإيجارات التي يتلقاها المستثمرون توازي 11 في المئة من سعر الشراء سنوياً، مع وعد من P&R بإعادة شراء الحاويات بعد خمس سنوات بما قيمته 65 في المئة من قيمتها الأصلية. وفي تلك الفترة، يمكن للمستثمر أن يتوقع عائداً إجمالياً يبلغ حوالي 20 في المئة من قيمة استثماراته.

ولكسب مزيد من الثقة، قدمت P&R Containers للمستثمرين أرقاماً تسلسلية للحاويات التي كانت تبيعها لهم، مما يسهل عليهم تتبعها عبر الإنترنت، وكانت هذه الأرقام صادرة عن مكتب الحاويات الدولية، وهي مجموعة صناعية تحتفظ بسجل عالمي للملكية. ولكن أكثر من 90 في المئة من المستثمرين لم يكلفوا أنفسهم عناء السؤال عن الأرقام التي يملكونها، في حين أن الأقلية الصغيرة التي فعلت ذلك كانت تتابع أرقاما لحاويات مملوكة لأشخاص آخرين.

حرص وهمي على الأموال

كانت شركة P&R Containers محبوبة من قبل العديد من البنوك والمستشارين الماليين، مما يعني أن الطبقات الثرية في ألمانيا وأوروبا اعتبرتها شيئاً آمناً.

واجتذب تظاهر P&R بالتواضع، أشخاصاً أحبوا ملفها الشخصي، واهتموا أكثر بالأمن والعوائد المنتظمة من العائدات المرتفعة.

وبحسب التقرير الذي أعدته "بلومبرغ" واطلع عليه موقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، يتذكر مستشار التأمين مانفريد رول أنه في بعض الأحيان، اقتربت تقشفات P&R من السخافة، فالشركة كانت تتقاضى رسوماً مقابل سلع مثل دفاتر الملاحظات والأقلام التي تحمل علامتها التجارية، في حين كانت معظم الشركات حول العالم تقدم هذه الأشياء كهدايا مجانية لعملائها.

وفسّر رول غرابة ما كانت تقوم به P&R على أنه علامة على يقظة إدارة الشركة، في كيفية التعامل مع أموال المستثمرين، وهذا ما شجعه، على توصية العملاء على الاستثمار فيها، في حين أنه قام هو أيضاً باستثمار حوالي 50 ألف يورو (56 ألف دولار) من ماله الخاص في P&R.

بدوره يقول ولفجانج شيرب، وهو محام في ميونيخ يعمل مع مئات الأشخاص الذين يحاولون استعادة أموالهم من P&R، إن المسؤولين في الشركة لم يلجأوا لشراء سيارات رياضية براقة، ولا يخوت ولا طائرات خاصة، ولا حتى القيام بحفلات باذخة، وقد ساهمت هذه التصرفات في خلق تصور أن المستثمرين يتعاملون مع رجال أعمال موثوقين تماماً.

جنسيات الضحايا

تجاوز عدد ضحايا عملية الاحتيال التي نفذتها شركة P&R Containers الـ 54 ألف شخص، أكثر من 90 في المئة منهم من الألمان، بينما توزعت النسبة المتبقية بين أشخاص يحملون الجنسيات النمساوية والسويسرية.

وكان من بين المستثمرين في الشركة العديد من المتقاعدين الذين وضعوا جزءاً كبيراً من مدخراتهم في استثمار الحاويات.

مصير مالك الشركة

بعد تقديم طلب الإفلاس، قاوم مالك شركة P&R Containers رجل الأعمال هاينز روث، كل من يطالبه بالتنازل عن الشركة، ولكن ممثلي الادعاء في ميونيخ وجهوا إليه في عام 2019 نحو 414 تهمة بالاحتيال التجاري و12 تهمة بالتهرب الضريبي، ولكن القضية تم إيقافها بعد بضعة أشهر لأن روث مرض، وتوفي في ديسمبر من ذلك العام عن عمر يناهز 77 عاماً، لكن الدائنين يسعون للحصول على أصول من تركته.

أين أصبحت القضية؟

بعد ست سنوات على القضية، لا يزال مايكل غافي مدير الإفلاس الذي عيّنته السلطات الألمانية، يشرف على ما تبقى من أسطول الحاويات، لضمان استرداد مستثمري P&R Containers أكبر قدر ممكن من أموالهم.

وبحسب غافي، فإنه من الصعب تحديد المبلغ النهائي الذي ستتم إعادته للمستثمرين، ولكن حتى الساعة تم توزيع 544 مليون يورو عليهم، أي ما يعادل 17.5 سنتاً لكل يورو مستحق لهم، متوقعاً أن تستمر عملية تصفية الشركة لعدة سنوات أخرى، خصوصاً أن P&R لا تزال حاضرة في سوق العمل، فرغم أنه تم بيع الكثير من ممتلكاتها، إلا أنها ما زالت تمتلك ما يقرب من 350 ألف حاوية تسافر حول العالم وتولد عائدات للدائنين، علماً أن هذه الحاويات ستتوقف عن العمل بعد سنوات قليلة، حيث يتراوح العمر الطبيعي للحاوية من 12 إلى 15 عاماً، وفي عام 2017، قالت P&R إن متوسط عمر أسطولها يزيد على ثماني سنوات بحسب "بلومبرغ".

وقد استلم بعض المستثمرين الساخطين ببساطة تعويضاتهم، في حين قام آخرون ببيع مطالباتهم ضد P&R لشركات متخصصة في تحصيل الديون المتعثرة.

مظهر زائف من النجاح

ويقول خبير الإدارة المالية، حسان حاطوم، في حديث لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن مخطط بونزي الذي يعتمد على جذب المستثمرين الجدد، لدفع عائدات المستثمرين السابقين، هو أحد أكثر أساليب الاحتيال تلاعباً في عالم الأعمال، ويُعطي مظهراً زائفاً من النجاح والازدهار، مما يُغري العديد من الأفراد لضخ أموالهم مقابل الحصول على عوائد مالية كبيرة وسريعة دون مخاطرة، بينما الحقيقة هي أن الشركة لا تمتلك أي أصول حقيقية تُحقق لها الأرباح المزعومة، وهذا ما حصل مع P&R Containers التي تركت ضحاياها في حالة من الصدمة والخيبة.

من يتحمّل المسؤولية؟

ويشدد حاطوم على أن ما قامت به P&R Containers هو خدعة فظة، استمرت لسنوات بسبب إهمال تتحمّل مسؤوليته عدة جهات، فشركة المحاسبة المكلفة بالتحقق من الوضع المالي لـ P&R وهي فيرنر فاغنر غروبر" كانت تمنح P&R سنوياً شهادة تؤكد حسن سير الأمور المالية فيها، وهذا يعني أنه حتى المستثمرون ذوو الخبرة يثقون بما تقوله شركات المحاسبة، مشيراً إلى أن "فيرنر فاغنر غروبر" تدافع عن نفسها بالقول إن عمليات التدقيق التي أجرتها، لم تظهر أي ظروف من شأنها أن تتحدث عن وضع مالي صعب، في حين ترى المنظمات التي تم تكليفها من قبل المستثمرين لمتابعة تحصيل التعويضات، أن المدققين في شركة المحاسبة، اختاروا تجاهل علامات التحذير الضخمة من أجل الاحتفاظ بعميل مربح، إذ كان من الواضح أن معالجة المدفوعات من قبل P&R تتم بطريقة مختلفة عن الطريقة التي تم الاتفاق عليها مع العميل.

ثلاثية الاحتيال

ويكشف حاطوم أن ما سهّل على P&R Containers إخفاء حقيقة أن ثلثي محفظتها لا توجد إلا على الورق، هو قيامها بتقسيم عملياتها بين ألمانيا وسويسرا على 3 شركات تابعة لها، فهي كانت تقول إن شركتها في ألمانيا، مسؤولة عن الحصول على استثمارات جديدة، ومن ثم تقوم بتحويل هذه الأموال إلى شركتها الثانية في سويسرا، التي كانت بدورها تتابع مع شركة ثالثة تابعة للمجموعة، عمليات شراء وتأجير الحاويات، مشيراً إلى أن "ثلاثية الاحتيال" هذه، كشفت عيوباً كبيرة في الرقابة التنظيمية في ألمانيا، وخاصة في دور BaFin، وهي الهيئة التنظيمية المالية في البلاد، التي تواجه ضغوطاً كبيرة لتنفيذ تدابير صارمة لحماية المستثمرين وإعادة بناء الثقة العامة.

قصة فشل في الإشراف المالي

ويختم حاطوم حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، بالإشارة إلى أن قصة P&R Containers هي قصة فشل في الإشراف المالي، إذ تم ترك نحو 54 ألف مستثمر، يتدافعون لاستعادة استثماراتهم، لافتاً إلى أنه وعلى الرغم من الجهود المستمرة التي تبذلها السلطات الألمانية، فإنه من بين أكثر من 3 مليارات يورو تم استثمارها في شركة P&R Containers، من المرجح أن يتم استرداد نحو مليار يورو كحد أقصى.

صناعة المحتوى والعملات المشفرة.. مليارات تُصنع على الإنترنت