في خطوة نادرة، اعترفت وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين بمخاوف اليابان وكوريا الجنوبية المتعلقة بالانخفاضات الحادة التي سجلتها عملتاهما في الآونة الأخيرة، وأكدت خلال اجتماع ثلاثي جمعها مع وزير المالية الياباني شونيتشي سوزوكي ووزير المالية الكوري الجنوبي تشوي سانج موك، أن الأطراف الثلاثة، سيواصلون التشاور عن كثب بشأن التطورات في سوق الصرف الأجنبي بما يتماشى مع الالتزامات الحالية لمجموعة العشرين.
وعقد الاجتماع الثلاثي، على هامش اجتماعات صندوق النقد الدولي والقادة الماليين لمجموعة العشرين هذا الأسبوع في واشنطن، وكشف البيان المشترك الصادر عن الاجتماع، أن الأطراف الثلاثة سيواصلون التعاون فيما بينهم، لتعزيز النمو الاقتصادي المستدام والاستقرار المالي والأسواق المالية المنظمة، مع الاعتراف بالمخاوف الجادة لليابان وكوريا الجنوبية، بشأن الانخفاض الحاد الأخير في قيمة الين الياباني والوون الكوري.
وجاء التحذير النادر من وزراء المالية في الدول الثلاث، في الوقت الذي دفع فيه انحسار التوقعات بخفض أسعار الفائدة الأميركية في المدى القريب، الين الياباني إلى أدنى مستوياته في 34 عاماً، مما أبقى الأسواق في حالة تأهب بشأن احتمال تدخل المركزي الياباني لدعم العملة، خصوصاً أن بعض المحللين رأوا أن "اللغة المستخدمة" في البيان الثلاثي، هي اعتراف صريح من واشنطن على أنها ستتسامح مع عمليات التدخل في السوق، ما وفّر لطوكيو وسول مجالاً أكبر للدفاع عن الين والوون.
وقالت وكالة بلومبرغ، إنه في إشارة إلى مزيد من الموافقة الضمنية، على إجراءات السوق المحتملة من جانب اليابان، أصدرت مجموعة السبع بياناً يؤكد من جديد، التزامها بالاتفاقيات الحالية بشأن سياسة العملة، والتي تتيح بعض المساحة للمناورة والتدخل في السوق، لضبط التحركات المفرطة في أسعار الصرف، تماماً مثل الاتفاقيات بين أعضاء مجموعة العشرين، التي تترك الباب مفتوحاً أمام العمل ضد التقلبات المفرطة في السوق، على اعتبار أن التحركات غير المنظمة للعملة أمر غير مرغوب فيه.
تراجع تاريخي للين
ذكرت وكالة رويترز أن المرة الأخيرة التي تدخلت فيها اليابان في السوق للحد من تراجع العملة المحلية كانت في أكتوبر 2022، عندما كان بلغ سعر الين 151.94 للدولار، لتتراجع العملة اليابانية خلال هذا الأسبوع إلى أدنى مستوى لها في 34 عاماً مسجلة 154.79 ين للدولار، قبل أن تتعافى قليلاً إلى نحو 154.43 يناً للدولار بعد صدور البيان الثلاثي، في حين ارتفع الوون الكوري بنسبة 0.9 بالمئة إلى 1374.15 مقابل العملة الأميركية، وذلك بعد الاتفاق الأميركي الياباني الكوري.
وفشلت التحذيرات الشفهية التي أطلقتها السلطات اليابانية، في منع التجار من دفع الين للانخفاض إلى ما يقرب من 155 يناً مقابل الدولار، وهو المستوى الذي يُنظر إليه على أنه خط أحمر ويزيد من فرص تدخل السلطات المالية في السوق، في حين كشف محافظ بنك كوريا الجنوبية المركزي، ري تشانغ يونغ، أن سعر صرف الوون انحرف قليلاً عما يمكن تبريره بأساسيات السوق، مؤكداً أن السلطات لديها الموارد والأدوات اللازمة لتخفيف أي تحركات متقلبة في عملة البلاد، مما يشير إلى استعدادها للتدخل في السوق لدعم الوون.
وبالنسبة للولايات المتحدة، فإن دور السلطات المالية في الدول، يجب أن ينحصر بتنظيم أسعار الصرف وليس التدخل فيها، حيث يضع القانون الأميركي ثلاثة معايير، لتعريف التلاعب بالعملة بين الشركاء التجاريين الرئيسيين، وهذه المعايير هي:
- امتلاك فائض كبير في ميزان المعاملات الجارية العالمي
- وجود فائض تجاري كبير مع الولايات المتحدة
- التدخل المستمر من جانب واحد في أسواق الصرف الأجنبي
ولذلك فإن اعترافها بمخاوف اليابان وكوريا الجنوبية تجاه قيمة عملتيهما، يعني أنها سمحت للسلطات هناك بالمناورة، والتدخل في السوق دون مواجهة تهمة التلاعب بالعملة.
وشهدت اليابان وكوريا الجنوبية انخفاض قيمة عملتيهما مقابل الدولار في الأسابيع الأخيرة، ويرجع ذلك في حد كبير منه، إلى تراجع الرهانات على تخفيضات لأسعار الفائدة الأميركية المرتفعة على المدى القريب، لتصل نسبة تراجع الين الياباني إلى نحو 9 بالمئة مقابل الدولار هذا العام، توازياً مع انخفاض الوون الكوري بنحو 7 بالمئة بحسب بلومبرغ.
وكانت الأسواق العالمية تترقب أول تخفيض للفائدة الأميركية في يونيو 2024، بعد وصول معدل التضخم في الولايات المتحدة في يناير الماضي إلى 3.1 بالمئة، وهو مستوى قريب من النسبة المستهدفة (2 بالمئة)، ولكن القراءة الأخيرة لمستويات التضخم في أميركا عززت المخاوف من اضطرار الفيدرالي الأميركي لاتخاذ إجراءات إضافية لكبح جماح التضخم ومن ضمنها رفع الفائدة، وهو عامل يغذي قوة العملة الأميركية.
تدخل مُكلف
وفقاً لمراقبي العملة في طوكيو، فإن البيان الثلاثي الصادر عن أميركا واليابان وكوريا الجنوبية، يشير إلى أن الولايات المتحدة ستتسامح مع التدخل في السوق، حيث قال كييتشي إيغوتشي، كبير الاستراتيجيين في مجموعة Resona Holdings المصرفية في طوكيو، إن الولايات المتحدة أعطت موافقتها فعلياً على التدخل، في حين قال يوجيرو جوتو، رئيس استراتيجية العملة في شركة نومورا للأوراق المالية في اليابان، إنه قد يكون من الأسهل الآن فهم التدخل.
أما كبير استراتيجيي السوق في شركة كورباي، كارل شاموتا، فقد رأى أن البيان يقدم الدعم الشفهي، مشيراً إلى أن التدخل في السوق، قد يكون مكلفاً وليس هناك ما يضمن قدرته على ضبط الوضع، خصوصاً أن قوة الدولار الأميركي أمام العملة اليابانية، هي نتيجة الفجوة الكبيرة بين أسعار الفائدة في الولايات المتحدة وأسعار الفائدة اليابانية القريبة من الصفر.
وشدد شاموتا على أنه من منظور استراتيجي، من المرجح أن ينجح التدخل في السوق عندما يتم تنفيذه من خلال جهد دولي منسق، في حين أن التحركات الأحادية مفيدة في تخفيف التقلبات، ولكنها قد لا تنجح في ضبط الوضع على المدى الطويل.
وتعد أسعار الفائدة اليابانية مقارنة بنظيرتها الأميركية، نقطة ضعف أساسية للين الياباني، فرغم أن اليابان إتخذت في مارس 2024 قراراً هو الأول من نوعه منذ 17 عاماً برفع سعر الفائدة إلى نطاق يتراوح بين صفر و0.1 بالمئة، إلا أن هذه المستويات لا تزال بعيدة جداً عن الفائدة التي يعتمدها الاحتياطي الفيدرالي والتي تتراوح بين 5.25 و5.5 بالمئة، وهذا ما يجعل العملة اليابانية أقل جاذبية بالنسبة للمستثمرين ويؤدي إلى تراجعها.
والآن ومع تعزز احتمالات رفع الفيدرالي الأميركي لمستويات الفائدة من جديد، بهدف كبح جماح التضخم الذي تسارع إلى 3.5 بالمئة في مارس 2024، عادت العملة اليابانية لتعاني من ضغوط، حيث من المتوقع أن تتسبب الفجوة الكبيرة بين أسعار الفائدة الأميركية واليابانية بمزيد من التراجع للين، وهو ما سيستدعي تدخلاً حتمياً من السلطات المالية اليابانية.
بدوره يتعرض الوون الكوري لضغوط هبوطية، نظراً للتأخر المتوقع في مسار تخفيض أسعار الفائدة من قبل مجلس الاحتياطي الفيدرالي، حيث قال البنك المركزي الكوري الجنوبي في وقت سابق من هذا الشهر إنه من الصعب التنبؤ بحدوث تحول في السياسة النقدية خلال النصف الثاني من هذا العام، ولذلك قام بتجميد سعر الفائدة عند 3.5 بالمئة.
وبحسب وكالة يونهاب، فإن حكومة سول تراقب سوق العملات عن كثب، وهي تخشى من أن يؤدي استمرار تراجع الوون إلى تفاقم جهودها الرامية إلى كبح جماح التضخم سريع الارتفاع في البلاد، من خلال جعل الواردات أكثر تكلفة.
قرار سياسي - اقتصادي
ويقول كبير استراتيجيي الأسواق في "BDSwiss MENA" مازن سلهب، في حديث لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن سماح الولايات المتحدة الأميركية لليابان وكوريا الجنوبية بالتدخل، للدفاع عن الين الياباني والوون الكوري الجنوبي، يذكرنا باتفاقية "بلازا أكورد" التي تعود إلى عام 1985، عندما وافقت الدول الخمس وهي الولايات المتحدة، واليابان وبريطانيا وألمانيا الغربية وفرنسا على إضعاف الدولار الأميركي الذي كان مرتفعاً مقابل العملات الأخرى، ليتم استبدال اتفاقية "بلازا أكورد" باتفاقية "اللوفر" في عام 1987 والتي تقوم أيضاً على مبادئ توفير الاستقرار للعملات.
وأشار إلى أن غض النظر الأميركي عن التدخل في السوق هو قرار سياسي – اقتصادي، وجزء من خطة احتواء الصين، فدول اليابان وكوريا الجنوبية إضافة إلى الهند، هي من أهم الشركاء الاقتصاديين والسياسيين لأميركا، وبالتالي لن تسمح الولايات المتحدة بالإضرار بهذه الدول.
وأضاف سلهب أن مؤشر الدولار الأميركي ارتفع حتى اليوم بنسبة 5 بالمئة في عام 2024، ولكنه مرتفع بين 9 و10 بالمئة مقابل الين الياباني وبنسبة 7 بالمئة مقابل الوون الكوري الجنوبي وبنسبة 2.5 بالمئة مقابل اليوان الصيني، وبالتالي فإن التراجع المبالغ فيه للعملات اليابانية والكورية الجنوبية يضر بالمستهلك هناك ويضعف من قدراته الشرائية، كما أنه يرفع التضخم في بلد مثل اليابان، ولذلك فإن الحكومة اليابانية تريد سعر صرف مستقر وجيد ومنطقي، يتناسب مع الديموغرافيا ومع الاستهلاك المحلي، كاشفاً أن الولايات المتحدة الأميركية لن تمانع بتدخل طوكيو في السوق، إذ أن بقاء الدولار الأميركي مرتفع مقابل الين، سيرفع من العجز التجاري الأميركي مقابل اليابان.
وأوضح سلهب أن اليابان لا تريد سعر صرف متراجع، ولكنها في الوقت عينه تريد عملة ضعيفة حتى تدعم الصادرات في بلد يعتمد على الصادرات ويعتبرها العصب والعمود الفقري للاقتصاد، وهذا الكلام ينطبق أيضاً على كوريا الجنوبية، وبالتالي فإن البلدين يرغبان في الوصول إلى عملة مستقرة أكثر من كونها قوية، لأنهم يخافون من سيطرة الصادرات الصينية على العالم، الذي يشهد دخول بكين على دول لم تكن تدخلها من قبل.
وختم سلهب حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، بالتشديد على أن التدخل الشفهي من قبل بنك اليابان لن يفيد أبداً، ولذلك لابد من تدخل حقيقي وهذا يعني أن تتدخل الحكومة اليابانية والبنك المركزي في اليابان لشراء الين ورفع قيمته، متوقعاً أن يتراجع الدولار الأميركي مقابل الين في المرحلة المقبلة، على أن لا يكون هذا التراجع سريعاً بل بشكل تدريجي، فقوة الدولار الأميركي لن تتراجع بسهولة سواء مقابل الين أو باقي العملات الرئيسية، لأن القوة التي يستمدها الدولار تأتي من عاملين، هما أولاً العوائد الأميركية المرتفعة مقارنة ببقية العملات، وثانياً الأداء الاقتصادي الأميركي الممتاز، الذي يُبقي الطلب قوياً على الدولار.
"وبالتالي حتى تتغير هذه المعادلة لا بد أن تتغير الاقتصاديات بشكل كبير، وهذا ما ليس متوفراً حالياً، ولكن ديناميكية سوق العملات أحياناً قد لا تكون مرتبطة بالأساسيات، ولذلك قد نرى نوعاً من الارتفاع للين الذي سيعود مستويات تتراوح بين 150 و145 يناً للدولار"، بحسب تعبيره.