على مدار أكثر من عقد، عانت سوريا من وطأة عقوبات اقتصادية هائلة فرضتها القوى الدولية نتيجة الصراع الداخلي وسياسات النظام السابق بقيادة بشار الأسد.
وعمقت هذه العقوبات التي شملت مختلف القطاعات الحيوية الأزمة الاقتصادية، حيث انهارت العملة المحلية، وتعطلت حركة التجارة، وأُنهكت البنية التحتية الاقتصادية، ما أدى إلى معاناة إنسانية غير مسبوقة.
اليوم، ومع سقوط النظام السوري، تثار تساؤلات ملحة حول مستقبل تلك العقوبات، هل ستبقى على حالها كوسيلة ضغط لضمان عملية انتقال سياسي شاملة، أم سيتم رفعها جزئياً أو كلياً لدعم جهود إعادة الإعمار وتحقيق الاستقرار الاقتصادي؟
تتوقف الإجابة على هذه التساؤلات على عوامل عدة؛ منها طبيعة القيادة الجديدة، ومدى التزامها بإجراء إصلاحات سياسية واقتصادية، إضافة إلى موقف المجتمع الدولي تجاه عملية الانتقال.
وواجهت سوريا مزيداً من العقوبات الاقتصادية بعد اندلاع الحرب في البلاد في العام 2011، وهي العقوبات التي توسّعت بشكل لافت على مدار السنوات الماضية، وفي مقدمتها كان "قانون قيصر" الأميركي والذي بدأ العمل به في العام 2020.
قانون قيصر لحماية المدنيين السوريين، هو تشريع أميركي صدر في ديسمبر 2019 وبدأ العمل به في يونيو 2020. يهدف إلى فرض عقوبات واسعة على الحكومة السورية، داعميه، وكل من يتعامل معه اقتصاديًا أو عسكريًا، للضغط على النظام لوقف الانتهاكات ضد المدنيين، والدفع نحو حل سياسي للصراع.
- فرضت الولايات المتحدة ودول أوروبية وكندا وأستراليا عقوبات اقتصادية ومالية منذ 2011 بسبب الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان.
- تشمل العقوبات: تجميد أصول وحظر التعامل المالي، علاوة على تقييد السفر وعقوبات دبلوماسية، فضلاً عن حظر استيراد وتصدير مواد معينة.
- استهدفت العقوبات على مراحل مختلفة شخصيات أمنية وعسكرية، وقطاعات اقتصادية حيوية، وصولاً إلى الشبكات الدولية وحلفاء النظام السوري.
- الهدف من ذلك استخدام العقوبات كوسيلة ضغط لتغيير سلوك النظام أو إضعافه اقتصاديًا وسياسياً.
تأثير العقوبات الاقتصادية
قال مدير المركز العالمي للدراسات التنموية والاقتصادية، صادق الركابي، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية":
- العقوبات الاقتصادية الغربية كان لها تأثير كبير على الاقتصاد السوري.
- أدت هذه العقوبات إلى تدهور العملة الوطنية، حيث تراجعت قيمة الليرة السورية بشكل كبير مقابل العملات الأجنبية.
- هذا التراجع أسهم في ارتفاع تكاليف الاستيراد، وزيادة الأسعار، وارتفاع معدلات التضخم، مما أضعف القدرة الشرائية للمواطن السوري بشكل ملحوظ وزاد من مستويات الفقر في البلاد.
- العقوبات كان لها أثر كبير على التجارة الخارجية، حيث فرضت قيودًا شديدة على الشركات السورية، بما في ذلك البنوك والموانئ، مما صعّب عمليات التبادل التجاري الدولي وأدى إلى تراجع معدلات الصادرات والواردات.
- الاستثمار الأجنبي تضرر بشكل مباشر، حيث تراجعت قدرة البلاد على جذب الاستثمارات، وهو ما أدى إلى انخفاض فرص العمل وتراجع النمو الاقتصادي، خصوصًا في قطاعات حيوية مثل النفط والغاز.
- هذا الأمر أضعف القدرة الإنتاجية للبلاد وخلق أزمة محروقات متكررة، مما أثر أيضًا على صناعات البناء والصناعة.
ووفق آخر بيانات البنك الدولي، فإن الفقر في العام 2022 طال 69 بالمئة من السكان في سوريا، أي نحو 14.5 مليون سوري. وطال الفقر المدقع فعلياً أكثر من واحد من كل أربعة سوريين في العام نفسه.
إضافة إلى ذلك، تسببت الحالة الأمنية خلال الفترات الماضية في تراجع قدرة الدولة على الوصول إلى العديد من المناطق، مما أثر على مستويات التعليم والصحة. وأصبح الاقتصاد السوري يعتمد بشكل كبير على الدعم الخارجي، خصوصًا من إيران وروسيا، مما عزز تبعية الاقتصاد لهاتين الدولتين، وفق الركابي.
وأضاف: من جهة أخرى، تراجعت أصول البنوك السورية، مما صعّب على الحكومة إجراء عمليات مالية دولية، وأدى ذلك إلى خسائر تُقدر بأكثر من 500 مليار دولار منذ بداية الحرب في 2011، وهذه الخسائر لا تشمل تكلفة إعادة الإعمار.
وبالنسبة للرؤى المستقبلية، أوضح مدير المركز العالمي للدراسات التنموية والاقتصادية أن:
- رفع العقوبات الاقتصادية وتهيئة بيئة سياسية واقتصادية مستقرة يمكن أن يؤدي إلى تحسين كبير في الوضع الاقتصادي.
- يمكن للحكومة السورية المستقبلية أن تسعى لتعزيز علاقاتها مع دول الجوار مثل لبنان والأردن والعراق، مما سيدعم التبادل التجاري الإقليمي.
- عودة اللاجئين السوريين ستخفف الأعباء عن الدول المضيفة، وستنتعش قطاعات حيوية مثل البناء والنقل والتجارة، مما سيزيد من فرص الاستثمار الأجنبي المباشر، سواء من الدول العربية أو الدولية.
- كما أن رفع العقوبات قد يسهم في تقليل التضخم وزيادة القدرة على التبادل التجاري مع دول العالم، مما سيؤدي إلى إنعاش الاقتصاد السوري واقتصادات المنطقة بشكل عام.
- هذه الخطوات ضرورية لاستعادة النمو الاقتصادي وتحقيق الاستقرار في سوريا بعد سنوات من الأزمات.
في السياق، يُشار إلى أن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية شهدت تدهوراً سريعاً في سوريا؛ متأثرة بمجموعة متنوعة من الصدمات، بما في ذلك الصراع المسلح الذي طال أمده، والعقوبات الاقتصادية، وجائحة كورونا، والجفاف الشديد، وتعمق الأزمة الاقتصادية في لبنان وتركيا المجاورتين، والعواقب الاقتصادية للحرب في أوكرانيا وما يرتبط بها من عقوبات، وفق البنك الدولي.
فرص رفع العقوبات
بدوره، أكد خبير الشؤون الأوروبية، محمد رجائي، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، أن:
- العقوبات التي فرضها الغرب والولايات المتحدة الأميركية على سوريا كان لها تأثير عميق ولا يزال مستمراً على مختلف جوانب الحياة في البلاد.
- هذه العقوبات أسهمت في تدهور الأوضاع الاقتصادية وانخفاض القدرة الشرائية للشعب السوري، بالإضافة إلى حرمان سوريا من العديد من الواردات الضرورية في مجالات متعددة.
- الحصار الاقتصادي أثر بشكل مباشر على القطاع المصرفي والأوضاع المالية للبلاد، كما أدى إلى تقويض العلاقات بين سوريا والدول المجاورة، مثل لبنان، مما زاد من تعقيد المشهد الاقتصادي.
- ذلك انعكس على انهيار قطاعات حيوية مثل الزراعة والصناعة، فضلاً عن تأثيره المباشر على رفاهية السكان وزيادة السخط الشعبي تجاه النظام السوري.
وبشأن فرص رفع العقوبات بعد سقوط نظام الرئيس الأسد، ففي تصور رجائي، دول الاتحاد الأوروبي والغرب عموماً لن تقدم على هذه الخطوة في الوقت الراهن. وبيّن أن الحديث عن رفع العقوبات مرهون بتشكيل حكومة ديمقراطية عبر انتخابات معترف بها دولياً. وفي حال غياب هذه الحكومة، لن تخاطر الدول الغربية بتطوير علاقات مع شخصيات أو منظمات تصنفها حالياً على قوائم الإرهاب.
كما أكد أن:
- استمرار العقوبات سيُبقي الأوضاع الاقتصادية في سوريا في حالة تدهور، ما لم يتم تشكيل حكومة جديدة خالية من الشخصيات المدرجة على قوائم العقوبات الغربية.
- دون حكومة ديمقراطية تحظى بالاعتراف الدولي، سيكون من الصعب استعادة العلاقات الاقتصادية ورفع العقوبات، مما يعني استمرار الأزمة الاقتصادية في سوريا.
وتقول المعارضة السورية، إنه سوف يتم البدء على الفور بالعمل على ملف العقوبات، وفق رئيس الائتلاف السوري هادي البحرة، في تصريحات إعلامية له.
شلل كامل
في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، أشار الباحث في العلاقات الدولية والاقتصاد السياسي، أبوبكر الديب، إلى أن:
- العقوبات الغربية أثرت بشكل كبير على الاقتصاد السوري على مدى السنوات الماضية، حيث أدت إلى شلل كامل في مفردات الاقتصاد السوري.
- هذه العقوبات، إلى جانب الحرب التي عاشتها البلاد، أسهمت في عجز المؤسسات السورية عن تقديم الخدمات الأساسية للمواطنين، مما جعل الحياة في سوريا بائسة للغاية.
- العملة السورية انهارت بشكل كبير، وتضرر الشعب السوري بشدة نتيجة الظروف الاقتصادية والسياسية.
وأوضح الديب أن النظام السوري في ظل حكم بشار الأسد ارتبط بشكل وثيق بإيران، مع إهمال كبير للعلاقات مع دول الجوار العربي، وهو ما زاد من عزلة سوريا. كما أكد الديب أن العقوبات الغربية عطّلت التبادل التجاري مع تركيا ومنعت أي استثمارات في سوريا باستثناء الاستثمارات الإيرانية.
في العام 2023، انخفضت قيمة الليرة السورية انخفاضاً كبيراً بنسبة 141 بالمئة مقابل الدولار الأميركي، وفي الوقت نفسه تشير التقديرات إلى أن تضخم أسعار المستهلكين ارتفع بنسبة 93 بالمئة، وقد تفاقم هذا الوضع بسبب خفض الدعم الذي تقدمه الحكومة، وفق بيانات البنك الدولي.
وفي السياق، لفت الديب إلى وجود إشارات وتصريحات أميركية وأوروبية ربما تشير إلى رضا غربي عن التغيير المرتقب في سوريا، خاصة مع تصريحات الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب التي عبرت عن عدم وجود تعاطف تجاه بشار الأسد، مضيفاً: هذه المواقف قد تمهد لرفع العقوبات الغربية عن سوريا، بشرط تحقيق بعض العوامل الأساسية، ومنها:
- تشكيل نظام سوري جديد يعبر عن جميع أطياف الشعب.
- انتقال السلطة دون حروب أو إراقة للدماء.
- قدرة النظام الجديد على إقناع العالم بشرعيته وبأنه غير طائفي أو ميليشياوي.
- تحقيق العدالة الانتقالية ومحاسبة المجرمين والفاسدين.
- بناء دولة مؤسسات ذات بوصلة عربية واضحة، مع علاقات طبيعية مع الدول العربية، خاصة دول رئيسية مثل مصر والسعودية والإمارات ودول الخليج.
وأوضح الديب أن عودة العلاقات الطبيعية بين سوريا والدول العربية ستعود بفوائد كبيرة على الشعب السوري وعلى إعادة إعمار الدولة المدمرة، مشدداً على أهمية توحد النظام الجديد وتشكيل حكومة تعبر عن الداخل السوري لتحقيق هذه الأهداف.