شهد العام 2024 زخماً اقتصادياً استثنائياً؛ مع تداخل التحديات الجيوسياسية مع آليات الأسواق العالمية، وبما يسهم في إعادة تشكيل ملامح الاقتصاد الدولي بشكل أو بآخر.
من تباطؤ النمو في اقتصادات كبرى إلى استمرار تداعيات الأزمات الإقليمية والدولية، تميز العام بمساعٍ حثيثة من الحكومات والبنوك المركزية للتعامل مع معدلات التضخم المرتفعة والتقلبات في أسعار الطاقة.
فيما برزت قطاعات التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي كقوى صاعدة، لتدفع عجلة الابتكار وتفتح آفاقًا جديدة للنمو المستدام.. ومع اقتراب العام الجديد، تتجه الأنظار إلى توقعات الاقتصاد للعام 2025 وسط تطلعات لتعافي أكثر استقراراً.
تقرير لصحيفة "الغارديان" البريطانية، يشير إلى أن:
- الاقتصاد العالمي يدخل العام الجديد وسط توترات جيوسياسية متزايدة تلوح في الأفق، في حين تحاول البنوك المركزية الرائدة في العالم خفض أسعار الفائدة بعد أسوأ صدمة تضخمية منذ عقود.
- من المتوقع أن تهيمن فترة ولاية دونالد ترامب الثانية في البيت الأبيض على الأجندة الاقتصادية.
- تلوح التوترات التجارية العالمية في الأفق مع تهديد الرئيس المنتخب بفرض رسوم جمركية شاملة على الواردات الأميركية.
- الاقتصاد البريطاني يتعثر في حين تظل الضغوط التضخمية قائمة. كما أن أكبر اقتصادات منطقة اليورو غارقة في الاضطرابات السياسية.
- بكين تكافح لإنعاش الاقتصاد الصيني، في حين تواجه بلدان الجنوب العالمي أقساط فائدة ديون مرتفعة.
ويفند التقرير أبرز العوامل التي تهيمن على توقعات العام 2025، وفي مقدمتها "حروب ترامب التجارية"، مشيراً إلى أن:
- فوز ترامب أثار احتمال اندلاع معارك عالمية على نطاق أوسع بكثير مما كانت عليه في ولايته الأولى، عندما امتدت اشتباكاته مع الصين عبر التجارة العالمية.
- ومع ذلك، يأمل العديد من خبراء الاقتصاد أنه سيتوقف عن التطبيق الكامل للتهديدات التي أطلقها خلال حملته الانتخابية، والتي تضمنت فرض رسوم جمركية على الواردات تصل إلى 60 بالمئة على الصين وما يصل إلى 20 بالمئة على أعداء أمريكا وحلفائها على حد سواء.
- تعهدات الرئيس المنتخب بخفض الضرائب والتنظيمات التجارية جعلت المستثمرين يأملون في ارتفاع سوق الأسهم الأميركية، ولكن هناك مخاوف من أن إجراءاته قد تفتح ثغرة كبيرة في الميزانية الفيدرالية الأميركية. كما أن الأسر التي تتعرض لضرائب أعلى على الواردات قد تؤدي أيضًا إلى تأجيج التضخم.
وفي أماكن أخرى، تظل التوترات مرتفعة مع الصراعات في أوكرانيا والشرق الأوسط، في حين تتزايد حالة عدم اليقين السياسي في قلب منطقة اليورو، حيث تواجه الحكومتان الفرنسية والألمانية ضغوطاً.
من بين العوامل التي يشير إليها التقرير أيضاً ما يتعلق بـ "التضخم العنيد"؛ موضحاً أن:
- البنوك المركزية الأكثر قوة في العالم بدأت في خفض أسعار الفائدة في العام 2024 بعد أن تباطأ التضخم بسرعة أكبر من المتوقع.
- سينصب التركيز الرئيسي في العام المقبل على مدى خفض تكاليف الاقتراض وسط مخاوف بشأن الضغوط التضخمية المستمرة وتوقعات النمو الاقتصادي.
وفي سياق متصل، يشير التقرير إلى ما تواجهه الحكومات في مختلف أنحاء العالم من تحديات ناجمة عن ارتفاع تكاليف الاقتراض. وعلى النقيض من سنوات أسعار الفائدة المنخفضة للغاية بعد الأزمة المالية في العام 2008، عندما ساعد الإنفاق العام المدفوع بالديون في تعزيز النمو الهش، فإن خطر التضخم الأكثر ثباتا وارتفاع أسعار الفائدة في العام 2025 من شأنه أن يجعل هذا الأمر أكثر صعوبة.
أبرز الإشكاليات
من جانبه، يقول استاذ الاقتصاد الدولي من القاهرة، الدكتور علي الإدريسي، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن الاقتصاد العالمي واجه تحديات كبيرة خلال العام 2024، تركت آثاراً عميقة على النمو والاستقرار في مختلف المناطق.
ويلفت إلى أن أبرز تلك التحديات تمثل في "التوترات الجيوسياسية"، لا سيما كلا من:
- الحرب في أوكرانيا: استمرار هذه الحرب أدّى إلى اضطراب أسواق الطاقة والمواد الغذائية، ومع اضطراب أسعار النفط والغاز بشكل كبير، مما زاد من تكلفة المعيشة عالمياً.
- الصراع في الشرق الأوسط: أسهم في اضطرابات إضافية في أسواق السلع الأساسية، مما أثّر على استقرار الاقتصاد العالمي.
ويضيف لتلك التحديات ما يتعلق بمعدلات التضخم وارتفاع أسعار الفائدة -رغم مضي البنوك المركزية في سياق مساعي تخفيف السياسة النقدية في عديد من البلدان- مشيراً إلى أن معدلات الفائدة في مستوياتها المرتفعة الحالية، تؤثر على الاستثمارات وتكاليف الاقتراض؛ مما تسبب في تباطؤ النمو في اقتصادات كبرى.
كما يوضح أن ارتفاع معدلات الفائدة وسياسة التشديد النقدي، زادت الضغوط على الاقتصادات النامية، التي وجدت صعوبة متزايدة في تمويل ديونها بسبب ارتفاع تكاليف الاقتراض.
ومن بين أبرز الإشكاليات الأساسية التي واجهت الاقتصاد العالمي في 2024، ما يتعلق باستمرار اضطرابات سلاسل الإمداد؛ وعلى الرغمن من التحسن التدريجي منذ جائحة كوفيد-19، استمرت الاضطرابات الجيوسياسية والكوارث الطبيعية في تعطيل سلاسل الإمداد، مما أدى إلى نقص بعض المنتجات وارتفاع تكلفتها.
يضيف الإدريسي للقائمة أثر "التغيرات المناخية" كعاملٍ أساسي، وما يصاحب ذلك من فاتورة باهظة لـ "الكوارث الطبيعية". فقد أثّرت الكوارث الطبيعية المتزايدة، مثل الفيضانات والجفاف وحرائق الغابات، على الإنتاج الزراعي وأسعار الغذاء، مما عزز من الضغوط التضخمية على الاقتصادات العالمية.
وتبزغ الإشكاليات التي عانت منها اقتصادات أوروبية، وكذلك الاقتصاد الثاني -باعتباره ثاني أكبر اقتصاد في العالم- كعامل مؤثر بشكل كبير في الاقتصاد الدولي خلال السنة، فقد شهد الاقتصاد الصيني تباطؤًا نتيجة انخفاض الطلب المحلي ومشكلات القطاع العقاري، مما أثّر بدوره على النمو العالمي. كما أن التباطؤ الاقتصادي في منطقة اليورو نتيجة ارتفاع أسعار الطاقة والتضخم أثّر على التجارة الدولية، بحسب الإدريسي.
معطيات تحدد الوجهة في 2025
وفيما يتعلق بتوقعات العام 2025 في ظل المعطيات الراهنة، وبالنظر إلى العودة الرسمية المرتقبة للرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في 20 يناير المقبل، والتداعيات المحتملة للسياسات الحمائية التي يتبعها، يقول استاذ الاقتصاد الدولي في معرض حديثه مع موقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إن العام 2025 قد يحمل بعض الفرص إذا ما تم التغلب على التحديات الراهنة، موضحًا أبرز العوامل التي ستؤثر على الاقتصاد العالمي، على النحو التالي:
- السياسة الاقتصادية الأميركية: تغيّر القيادة في الولايات المتحدة قد يغيّر ملامح السياسة الاقتصادية؛ خاصة فيما يتعلق بالإنفاق الحكومي والضرائب، وكذلك العلاقات التجارية مع الصين.
- السياسة النقدية للبنوك المركزية: السيطرة على التضخم وخفض أسعار الفائدة تدريجياً.. عوامل قد تسهم في إنعاش الاقتصاد العالمي، في حين أن استمرار ارتفاع الفائدة قد يزيد من احتمالات الركود في اقتصادات كبرى.
- تعافي الاقتصاد الصيني: دور الصين في تحفيز اقتصادها من خلال الاستثمارات والإنفاق الحكومي سيكون محوريا في دعم التجارة العالمية واستقرار أسعار السلع.
- الاستقرار الجيو السياسي: أية تهدئة للتوترات الجيوسياسية في أوروبا والشرق الأوسط ستعزز من استقرار الأسواق، في حين أن استمرار الصراعات سيبقي على الضغوط الاقتصادية.
- مدى التقدم المحرز في مجابهة التغيرات المناخية.
ويختتم استاذ الاقتصاد الدولي حديثه بالإشارة إلى أن الاقتصاد العالمي يواجه مرحلة دقيقة تتطلب سياسات متوازنة ورؤية استراتيجية؛ للتعامل مع التحديات الحالية واستغلال الفرص المستقبلية.
وكان صندوق النقد الدولي قد عدل من توقعاته لنمو الاقتصاد العالمي خلال العامين الجاري والمقبل، موضحاً في تقرير أكتوبر أنه يتوقع نمو الاقتصاد العالمي بنسبة 3.2 بالمئة خلال العام الجاري، دون تغيير عن التوقعات في التقرير السابق.
لكن التقرير خفض من توقعات النمو خلال العام 2025 بنحو 0.1 بالمئة، لتبقى دون تغيير عن توقعات عام 2024 عند 3.2 بالمئة أيضا.
وكشف التقرير عن توقعات النمو لدول العالم، إذ توقع صندوق النقد الدولي أن ينمو اقتصاد الولايات المتحدة الأميركية خلال العام الجاري بنسبة 2.8 بالمئة، وبنحو 2.2 بالمئة خلال العام المقبل. بينما خفض صندوق النقد توقعات النمو في منطقة اليورو إلى 0.8 بالمئة خلال العام الجاري، و1.2 بالمئة خلال العام 2025.
كما خفض التقرير أيضا توقعات النمو الاقتصادي في الصين إلى 4.8 بالمئة خلال العام الجاري، لكنه أبقى التوقعات دون تغيير خلال العام المقبل عند 4.5 بالمئة.
أربعة محاور أساسية
من برلين، يقول المحلل المتخصص في العلاقات الاقتصادية الدولية، محمد الخفاجي، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إن الاقتصاد العالمي في العام 2024 واجه تحديات كبيرة أثرت بشكل مباشر على النمو والاستقرار، موضحاً أن هذه التحديات تركزت حول أربعة محاور رئيسية، على النحو التالي:
- التوترات الجيوسياسية: أشار الخفاجي إلى أن الصراعات في الشرق الأوسط، وخاصة الحرب في غزة، إلى جانب التوترات في البحر الأحمر، تسببت في اضطرابات كبيرة في أسواق الطاقة والتجارة العالمية، مما أثّر سلبًا على الاقتصاد العالمي.
- التشرذم الجغرافي الاقتصادي: أكد الخفاجي أن تصاعد السياسات الحمائية والتقييد التجاري أدى إلى تراجع في آفاق النمو العالمي على المدى المتوسط، وأحدث تغييرات كبيرة في الروابط التجارية العالمية، مع خسائر ملحوظة في الكفاءة الاقتصادية.
- التضخم المرتفع: لا يزال التضخم في العديد من الاقتصادات عند مستويات مرتفعة، مما دفع البنوك المركزية إلى تبني سياسات نقدية مشددة، أدت بدورها إلى زيادة تكاليف الاقتراض، ما أثّر على الاستثمارات والنمو.
- اضطرابات الأسواق الناشئة: تواجه الأسواق الناشئة تحديات كبيرة بسبب البيئة الاقتصادية العالمية المعقدة، مما يزيد من صعوبة تحقيق الاستقرار والنمو في هذه الأسواق.
ويوضح الخفاجي في الوقت نفسه أن هذه العوامل مجتمعة أسفرت عن تباطؤ ملحوظ في النمو الاقتصادي العالمي، في وقت يتوقع فيه البنك الدولي تراجع النمو في الفترة 2024-2025 عن متوسط الأداء في العقد الماضي في نحو 60 بالمئة من الاقتصادات التي تضم أكثر من 80 بالمئة من سكان العالم.
بحسب البنك الدولي، فإنه:
- على الرغم من تحسن توقعات النمو على المدى القريب، لا تزال الآفاق العالمية غير مبشرة وفق المعايير التاريخية.
- يتصدر المشهد مخاطر التطورات السلبية، لا سيما التوترات الجيوسياسية، وتفتت النشاط التجاري، وارتفاع أسعار الفائدة لفترات أطول، فضلاً عن الكوارث المرتبطة بالمناخ.
- وبالتالي، من الضروري التعاون الدولي لحماية التجارة، ودعم التحولات الخضراء والرقمية، وتخفيف أعباء الديون، وتحسين الأمن الغذائي.
- في اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية، يمكن للاستثمارات العامة أن تعزز الإنتاجية وتحفز استثمارات القطاع الخاص، مما يشجع النمو طويل الأجل.
- تعد الإصلاحات الشاملة للمالية العامة ضرورية للتصدي للتحديات المستمرة التي تواجه الدول الصغيرة، لا سيما بسبب زيادة التعرض للصدمات الخارجية.
عوامل رئيسية
وبالعودة لحديث الخفاجي، فإنه يلقي الضوء على بعض العوامل التي ستشكل ملامح الاقتصاد العالمي في العام 2025، وفي مقدمتها ما يتعلق بالوضع فيما يخص السياسات الاقتصادية الأميركية، فقد تؤدي رئاسة ترامب إلى تغييرات كبيرة في تلك السياسات، خاصة فيما يتعلق بالتجارة والضرائب والإنفاق الحكومي، مما قد يعرقل سلاسل التوريد العالمية ويرفع الأسعار، بحسب الخفاجي الذي يشير إلى تأثير السياسات النقدية التي تتبعها البنوك المركزية في 2025 ضمن أبرز وأهم العوامل.
كذلك من بين العوامل الأساسية، التطورات التكنولوجية، إذ يشير إلى الدور المهم للذكاء الاصطناعي في تعزيز الإنتاجية، لكنه يحذر من اضطرابات محتملة في أسواق العمل، ما يتطلب استثمارات كبيرة في البنية التحتية الرقمية ورأس المال البشري.
ويترقب العالم مصير "التوترات الجيوسياسية المستمرة" في 2025، ويعتبرها الخفاجي من بين العوامل التي تتحدد بناءً عليها وجهة الاقتصاد العالمي في العام الجديد، محذراً من أن استمرار الصراعات في مناطق مثل الشرق الأوسط قد يؤثر سلباً على استقرار الأسواق، لا سيما سوق الطاقة وكذلك تدفقات التجارة العالمية.
ويختتم حديثه قائلاً: "التوقعات الاقتصادية بالنسبة للعام 2025 تتسم بالتفاؤل الحذر؛ فرغم وجود فرص للنمو بدعم من التكنولوجيا فإن المخاطر الجيوسياسية والاقتصادية ما زالت تشكل تهديداً لمسار الاستقرار العالمي.