تدفع السياسات الحمائية التي ينتهجها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الاقتصاد العالمي نحو تحول أوسع محتمل في استراتيجيات عديد من الدول التي تسعى لحماية مصالحها التجارية بعيداً عن تأثير التعرفات الجمركية والعراقيل المفروضة على التجارة الدولية.
تعيد هذه السياسات تشكيل أولويات الدول، وتدفعها للبحث عن بدائل وخيارات أكثر مرونة تتيح لها الحفاظ على استقرار تدفق السلع والخدمات، وسط مناخ اقتصادي يعج بالتحديات.
الاتفاقيات التجارية الثنائية والإقليمية من بين الخيارات المفضلة بالنسبة للعديد من الدول التي أدركت أن الاعتماد المفرط على السوق الأميركية يحمل مخاطر اقتصادية قد تؤدي إلى اختلال ميزان القوة التجارية. في وقت لم يكن فيه الاتجاه نحو التنويع التجاري خياراً مرحلياً فحسب، بل استراتيجية سياسية تعكس رغبة في التحرر من سيطرة الاقتصاد الأميركي على مفاصل التجارة العالمية.
وبينما تعيد دول كبرى النظر في أولوياتها التجارية، ظهرت تحالفات اقتصادية جديدة كقوة صاعدة تسعى لتوفير بدائل أكثر استدامة. ومع تنامي هذه التوجهات، تبدو الخارطة التجارية العالمية في حالة إعادة رسم كاملة، حيث تتجه الاقتصادات الصاعدة نحو تعزيز التعاون فيما بينها بعيداً عن سياسات العزلة التي تنتهجها الإدارة الأميركية.
ومن شأن هذا التحول أن يُمثل إشارة واضحة إلى أن العالم قادر على إيجاد مسارات مبتكرة تضمن الاستقرار والنمو، رغم التحديات السياسية والاقتصادية التي يفرضها قطب اقتصادي بحجم الولايات المتحدة.
تهديدات ترامب
وفي حين لم يتخذ دونالد ترامب أي إجراء بشأن تهديداته المتعددة بفرض رسوم جمركية، إلا أنه من المرجح أن يفعل ذلك، وبالتالي فإن الخوف لا يزال قائماً من أن يؤدي موقف الرئيس الأميركي المتشدد في التجارة إلى زعزعة الاستقرار العالمي، وإضعاف النمو وزعزعة الأسواق، وخاصة إذا ردت الدول المستهدفة.
لكن وبحسب رئيس مؤسسة روكفلر العالمية، روتشير شارما، في مقالٍ له بصحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية، فإن "الانتقام" ليس هو الرد الوحيد أو حتى الأكثر ترجيحاً على ترامب (من جانب الدول المستهدفة)، بغض النظر عن مدى اتساع نطاق تهديداته في النهاية.
- استخدمت الولايات المتحدة التعريفات الجمركية كسلاح لمدة ثماني سنوات حتى الآن. وقد استمرت معظم التعرفات الجمركية التي فرضها ترامب في ولايته الأولى أو توسعت في حالة الصين في عهد جو بايدن.
- ردت بعض الدول، وعرضت دول أخرى تنازلات أو تحدت التعرفات الجمركية أمام حكام التجارة العالمية. لكن معظمها مضت بهدوء، وسعت إلى التجارة مع دول أخرى غير الولايات المتحدة.
- منذ العام 2017، وهو العام الأول لترامب في منصبه، ظلت التجارة مستقرة إلى حد ما.. ولكن كان هناك انخفاض في حصة الولايات المتحدة من تدفقات التجارة قابله زيادة في مناطق أخرى، وخاصة دول آسيا وأوروبا والشرق الأوسط.
- يبدو أن الولاية الثانية لترامب من المرجح أن تجلب المزيد من نفس الأمر "التجارة بدون أميركا".
على مدى السنوات الثماني الماضية، شهدت أكثر من أربع من كل خمس دول ــ متقدمة ونامية ــ ارتفاع التجارة كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي الوطني. وسُجلت مكاسب تجاوزت 10 نقاط مئوية في أكثر من 12 دولة كبرى، من اليابان وإيطاليا والسويد إلى فيتنام واليونان وتركيا. بينما الاستثناء الكبير هو الولايات المتحدة، حيث انخفضت التجارة إلى حوالي 25 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي. وكانت الولايات المتحدة تنمو بشكل أسرع من معظم نظيراتها ــ ولكن دون أي دفعة من التجارة.
وبحسب شارما، فقد تكون الولايات المتحدة مهيمنة بشكل متزايد كقوة عظمى مالية واقتصادية، لكنها ليست كذلك كقوة تجارية؛ فقد ارتفعت حصتها من مؤشرات الأسهم العالمية إلى ما يقرب من 70 بالمئة، وارتفعت حصتها من الناتج المحلي الإجمالي العالمي إلى أكثر من 25 بالمئة، ومع ذلك، فإن حصتها من التجارة العالمية تقل عن 15 بالمئة، وقد انخفضت بشكل كبير في السنوات الثماني الماضية.
تركز العديد من التحذيرات بشأن تأثير ترامب على الكيفية التي قد تضر بها التعرفات الجمركية الجديدة بالدول المصدرة التي تعتمد على الولايات المتحدة كعميل رئيسي لها.
خلال فترة ولاية ترامب الأولى، قبل وباء كورونا، شهدت الدول المتقدمة نمواً مستقراً وشهدت الدول النامية تسارعاً قوياً في صادرات كل من السلع (بقيادة المنتجات والسلع التقنية) والخدمات (بقيادة النقل والخدمات الرقمية).
صفقات جديدة.. وغياب أميركي
ويشير الكاتب إلى أن محادثات التجارة العالمية كانت قد انهارت بعد عام 2008، حيث تسببت التوترات التي أثارتها الأزمة المالية في ذلك العام في جعل إبرام صفقات ضخمة متعددة الدول أمراً صعباً للغاية. لكن العديد من الدول استمرت في السعي إلى صفقات أصغر. وارتفع عدد الاتفاقيات الثنائية والإقليمية بشكل مطرد، مع زخم جديد بعد تولي ترامب منصبه لأول مرة، وسرعان ما أطلق على نفسه لقب "رجل التعرفات الجمركية".
- أصبحت الولايات المتحدة حالة شاذة، حيث تُشاهد على الآخرين وهم يصقلون فن الصفقات التجارية؛ فمنذ عام 2017، تخلت الولايات المتحدة عن المحادثات بشأن الشراكات مع الاتحاد الأوروبي وآسيا، ولم تبرم أية صفقة تجارية جديدة.
- في الوقت نفسه، تفاوض الاتحاد الأوروبي على ثماني اتفاقيات وأبرمت الصين تسع اتفاقيات، بما في ذلك شراكة تاريخية تضم 15 دولة في آسيا.
- وبحلول أواخر العام الماضي، انتعشت عمليات إبرام الصفقات من جديد مع اقتراب بداية رئاسة ترامب الثانية. فقد سارع الاتحاد الأوروبي إلى الانتهاء من وضع الخطوط العريضة لاتفاقية صعبة ــ استغرقت 25 عاما ــ مع أعضاء تحالف ميركوسور في أميركا الجنوبية، ثم اتفاقية أخرى مع المكسيك.
- والآن تسارع المكسيك إلى توسيع العلاقات التجارية مع الدول الأخرى في أميركا اللاتينية، جزئيا كتأمين ضد ما قد يفعله ترامب في المستقبل.
والنتيجة هي انه على مدى السنوات الثماني الماضية، ومع تحول مركز التجارة العالمية بعيداً عن الولايات المتحدة نحو الشرق الأوسط وأوروبا وآسيا، سجلت الدول التي حققت مكاسب كبيرة في حصتها مكاسب كبيرة، بما في ذلك الإمارات العربية المتحدة وبولندا، وقبل كل شيء الصين.
ومن بين أسرع عشرة ممرات تجارية نمواً، هناك خمسة منها لها محطة واحدة في الصين؛ واثنان فقط لها محطة في الولايات المتحدة.
ويضيف الكاتب: يقول ترامب إن الرسوم الجمركية سوف تجلب الاحترام، وتساعد في استعادة قوة الولايات المتحدة. ولكن هناك خطر آخر يستحق النظر فيه.. إن نموذج الرئيس الجديد من الشعبوية يتعهد بتحرير الولايات المتحدة من التدخل الحكومي الثقيل من خلال الضرائب واللوائح، ولكن الرسوم الجمركية تشكل شكلاً آخر - وهي خاضعة بنفس القدر لقوانين العواقب غير المقصودة.
حتى الآن، لم يلحق نظام التعرفات الجمركية "أميركا أولا" الضرر بهدفه الرئيسي، الصين، بقدر ما كان سببا في إجبار حلفاء الولايات المتحدة على البحث عن أماكن أخرى للتجارة. وعلى هذا فإن خطر فرض تعريفات جمركية أوسع نطاقا ربما لا يتعلق بإشعال فتيل حروب تجارية بقدر ما يتعلق بتقويض أهمية الولايات المتحدة كقوة تجارية، وفي نهاية المطاف استنزاف قوتها الاقتصادية.
"توترات" تجارية
من جانبه، يقول كبير الاقتصاديين في شركة ACY، الدكتور نضال الشعار، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إن التوترات التجارية العالمية والتكهنات حول ردود أفعال الدول تجعل من الصعب التنبؤ بنتائج وتصورات حاسمة لما قد يبدو عليه المشهد على المدى القريب، موضحاً أن:
- ثمة إمكانية نظرية لاستغناء بعض الدول عن التجارة مع دول أخرى، لكن الولايات المتحدة الأميركية تظل حالة استثنائية نظراً لخصوصيتها الاقتصادية والتكنولوجية، والتي تختلف عن أية دولة أخرى بما فيها الصين.
- رغم قدرة بعض الدول على تقليل اعتمادها على واردات معينة كالسلع الأولية والمواد الزراعية والآلات والسيارات، إلا أن التكنولوجيا الأميركية تبقى لا غنى عنها.
ويضيف: "التكنولوجيا الأميركية ما زالت متقدمة للغاية وتتميز بدرجة عالية من الابتكار والتفرد، بما يجعل من الصعب على العالم التخلي عنها، وقد شهدنا بالفعل المعارك التكنولوجية بين الصين والولايات المتحدة ومحاولات الصين تقليد وسرقة التكنولوجيا الأميركية".
ويؤكد على أن السياسة الأميركية، سواء كانت ظاهرة أو مبطنة، تعتمد على ربط المنتجات الأميركية ببعضها، بحيث يصعب على الدول الاستمرار في استيراد التكنولوجيا دون استيراد منتجات أخرى، مردفاً: "الدولة التي توقف استيراد المنتجات الأميركية قد تواجه وقف تصدير التكنولوجيا إليها، وهذه سياسة تتبعها الولايات المتحدة منذ عقود".
وعن سيناريوهات المستقبل من وجهة نظره، يقول الشعار إنه من غير المتوقع أن تقوم دول كالصين أو كندا أو المكسيك بالاستغناء عن التعامل التجاري مع الولايات المتحدة بشكل كامل، رغم بعض العثرات التي قد تؤثر على حجم التجارة بسبب ارتفاع الرسوم الجمركية.
ويختتم الشعار حديثه بالإشارة إلى وجود نوع من المرونة في السياسات الأميركية، قائلاً: "رأينا في الأسبوع الماضي مرونة من الرئيس ترامب، حيث يبدو أنه قد يتراجع عن بعض سياساته الحمائية الشديدة التي أعلنها خلال حملته الانتخابية.. أعتقد بأن الحوار والتفاوض سيكونان السبيل لحل هذه القضايا التجارية، مما يضمن استمرار المصالح المشتركة بين الدول". ويشير إلى أن مثل هذه السياسات الحمائية لا تخدم مصلحة أي دولة وتضر بالتجارة العالمية بشكل عام.
صعوبات التخلي عن أميركا
من جانبه، يشير الأكاديمي المتخصص في الاقتصاد الدولي، الدكتور علي الإدريسي، لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إلى أنه "من الصعب تقليص دور الولايات المتحدة الأميركية في التجارة العالمية"، إلا أنه يؤكد وجود توجه متزايد نحو تعزيز التجارة بين الدول بعيداً عن الولايات المتحدة. ويلفت إلى أن هذا التوجه جاء كرد فعل على السياسات التجارية التي يتبناها الرئيس دونالد ترامب، مثل فرض الرسوم الجمركية على الشركاء التجاريين التقليديين، بما في ذلك الصين والاتحاد الأوروبي.
ويضيف: "هذه السياسات (الحمائية) دفعت العديد من الدول إلى البحث عن شراكات تجارية جديدة أو تعزيز العلاقات الاقتصادية مع شركاء آخرين لتقليل الاعتماد على السوق الأميركية".
ويُبرز في هذا السياق جانباً من مظاهر التوجه البديل، بما في ذلك تعزيز الاتفاقيات التجارية الإقليمية، علاوة على التوجه نحو التنويع الاقتصادي، بالإشارة إلى جهود دول مثل الصين لتقليل اعتمادها على الولايات المتحدة من خلال توسيع نطاق تجارتها مع الدول النامية والأفريقية، خاصة عبر مبادرات مثل مبادرة الحزام والطريق.
كما يُبرز في الوقت نفسه التعاون بين العديد من الدول لتقليل الاعتماد على الدولار الأميركي في التجارة الدولية، مثل التحركات الأخيرة لدول بريكس لتعزيز التجارة بعملاتها المحلية.
لكن الإدريسي يشير إلى مجموعة من التداعيات المحتملة لذلك التوجه، من بينها: (تقليل هيمنة الولايات المتحدة على التجارة العالمية، وتعزيز دور الاقتصاديات الناشئة مثل الصين والهند والبرازيل، وزيادة المنافسة بين التكتلات الاقتصادية الكبرى مثل بريكس والاتحاد الأوروبي واتفاقية أمريكا الشمالية".
فيما يضيف قائلاً: "رغم هذه التحركات، تظل الولايات المتحدة لاعباً محورياً في الاقتصاد العالمي؛ نظراً لحجم سوقها وقوتها الاقتصادية وسيطرة عملتها على التجارة الدولية. ومع ذلك، يعكس هذا الاتجاه نحو تنويع الشراكات التجارية تحولاً تدريجياً في النظام التجاري العالمي، ما قد يعيد رسم خريطة التجارة الدولية في السنوات المقبلة."
التجارة الأميركية
ويشار إلى أن السياسة التجارية في الولايات المتحدة خضعت لتحولات كبيرة على مدى العقود الماضية، والتي غالباً ما تعكس تحولات أوسع في الجغرافيا السياسية العالمية.
ووفق تقرير لمعهد التجارة العالمية، اطلع عليه موقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إلى أن:
- على مدى عقود من الزمان، كانت الولايات المتحدة تدافع عن تحرير التجارة المتعددة الأطراف. وقد أظهر إنشاء مؤسسات مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والاتفاقية العامة للتعرفات الجمركية والتجارة (جات) بعد الحرب العالمية الثانية قيادتها في مجال التعددية.
- خلال الحرب الباردة، لعبت الولايات المتحدة دوراً محورياً في الدفع نحو التحرير، وهو ما مهد الطريق لإنشاء منظمة التجارة العالمية في عام 1995.
- على الرغم من هذا، ظهرت تدابير الحماية بشكل دوري نتيجة للضغوط السياسية داخل الولايات المتحدة نفسها، من تعرفات "حرب الدجاج" التي فرضها جونسون في الستينيات إلى ضرائب الاستيراد التي فرضها نيكسون في السبعينيات وتركيز ريغان على الواردات اليابانية في الثمانينيات.
- جلبت رئاسة ترامب تحولاً في السياسة التجارية الأميركية، التي اتسمت بالأحادية والتشكك في اتفاقيات التجارة التقليدية والتركيز على الحد من العجز التجاري.
- أبرز مسار السياسة التجارية الأميركية في عهد ترامب تعقيدات الموازنة بين المصالح الوطنية والترابط العالمي.
- وفي حين سعت إدارة بايدن في السابق إلى تثبيت التحالفات، فإن عودة ترامب تجلب حالة من عدم اليقين المتجدد. إذ تستخدم إدارته أدوات تتعلق بفرض رسوم جمركية أعلى، والانسحاب من منظمة التجارة العالمية وغيرها من المنظمات الدولية - وقد تتعارض التوترات التجارية، وخاصة تلك التي تركز على الصين وتدابير التجارة التي تركز على المناخ في الاتحاد الأوروبي، مع السياسات الأميركية.
- بالنسبة لأوروبا وغيرها من الجهات الفاعلة العالمية، فإن الاستعداد لاستمرارية الوضع أو الاضطراب أمر ضروري.