تعمل الدول الغربية على توجيه وكالات تمويل التنمية وائتمان الصادرات لديها للعمل مع القطاع الخاص لدعم مشاريع المعادن الحيوية، وذلك في مسعى لكسر قبضة الصين الخانقة على قطاع ضروري للصناعات عالية التقنية.. فما مدى قدرتها على النجاح في تحقيق ذلك الهدف؟
في هذا السياق، تكشف شراكة أمن المعادن -وهي تحالف يضم 14 دولة والمفوضية الأوروبية- عن شبكة تمويل جديدة في محاولة لتعزيز التعاون الدولي والتعهد بالدعم المالي لمشروع ضخم للنيكل في تنزانيا، بدعم من شركة التعدين BHP.
وبحسب بيان مشترك، فإن الشبكة "ستعزز التعاون وتشجع تبادل المعلومات والتمويل المشترك". ويسرد البيان عشرة مشاريع معدنية بالغة الأهمية اجتذبت بالفعل الدعم من الحكومات الشريكة في برنامج الشراكة بين الحكومات، بحسب تقرير لصحيفة فاينانشال تايمز البريطانية.
وفي سياق متصل، قال وكيل وزارة الخارجية الأميركية للنمو الاقتصادي، خوسيه فرنانديز، إن برنامج التعدين في جنوب أفريقيا يقوم حاليا بتقييم 30 مشروعا إضافيا لتعدين المعادن المهمة، في الوقت الذي تتسابق فيه الحكومات الغربية لتأمين المواد الخام اللازمة لصنع كل شيء بدءا من المركبات الكهربائية إلى الأسلحة المتقدمة.
وأضاف فرنانديز، الذي اتهم بكين بالانخراط في "الإفراط في الإنتاج والتسعير الجائر" للاحتفاظ بقبضتها على الإمدادات العالمية من المعادن الحيوية، إن "ما تفعله الصين هو اتباع دليل الاحتكار لطرد المنافسة"، قائلاً في التصريحات التي نقلتها الصحيفة: "نحن ندرك أننا لا نستطيع حل هذه المشكلة مع أي دولة بمفردها، نحن أقوى معًاً".
انخرطت الولايات المتحدة والصين في حرب تجارية متبادلة فرضت فيها واشنطن قيودًا على الصادرات وقيودًا أخرى على أشباه الموصلات وغيرها من التقنيات المتقدمة.
وردت الصين بتقييد صادراتها من بعض المعادن، بما في ذلك الإثمد، وهو معدن غامض يستخدم في الذخيرة الخارقة للدروع ونظارات الرؤية الليلية.
سيطرة صينية
ووفق تقرير الصحيفة، تسيطر الشركات الصينية على 90 بالمئة من القدرة العالمية على معالجة المعادن النادرة وأكثر من نصف القدرة على معالجة معادن الكوبالت والنيكل والليثيوم المستخدمة في صنع بطاريات السيارات الكهربائية.
وقالت المديرة التنفيذية لمركز SAFE لاستراتيجية المعادن الحيوية، وهي منظمة غير حكومية دخلت في شراكة مع وزارة الخارجية الأميركية لتعزيز الاستثمار في سلسلة توريد المعادن الحيوية، أبيجيل هانتر: " إن الهدف هو إعطاء البلدان ذات الدخل المنخفض على وجه الخصوص بديلاً للصين عندما يتعلق الأمر بالتمويل".
- من المقرر أن تنشر مؤسسة التمويل الإنمائي الدولية الأميركية خطاب اهتمام بتوفير تمويل الديون لمشروع تعدين في تنزانيا من شأنه أن يخفف قبضة الصين وإندونيسيا على إمدادات النيكل، وهو أحد المكونات الرئيسية للبطاريات.
- يتم تطوير مشروع النيكل في كابانجا من قبل شركة Lifezone Metals، وهي شركة مقرها جزيرة مان والتي تمتلك شركة BHP 17% منها.
- يشكل المشروع تحدياً للاستثمار المدعوم من الصين في إندونيسيا والذي أعاد تشكيل سوق النيكل، وحول الدولة الواقعة في جنوب شرق آسيا إلى احتكار فعال بحصة عالمية تبلغ 55 بالمئة من الإنتاج، ارتفاعا من 16 بالمئة في العام 2017.
ورفضت مؤسسة تمويل التنمية الدولية الإفصاح عن حجم القرض الذي ستقدمه للمشروع. وقال الرئيس التنفيذي للمؤسسة، سكوت ناثان: "إن ما نركز عليه هو التأكد من أن القطاع الخاص يتمتع بفرصة عادلة ويمتلك الأدوات اللازمة لتوفير التمويل والاستثمار لتحفيز نمو هذه الصناعة".
مشاريع حيوية
ويشير تقرير الصحيفة إلى أن الصين سبقت الغرب في تنفيذ مشاريع معدنية حيوية، مستفيدة من الدعم، وسهولة الوصول إلى التمويل، وتكنولوجيا المعالجة المتفوقة، والتكاليف المنخفضة، والتسامح مع المعايير البيئية الأكثر تساهلاً.
ويعتقد المستثمرون من القطاع الخاص أن الطلب المتزايد على المواد الخام اللازمة لدفع عملية التحول في مجال الطاقة من شأنه أن يخلق سوقًا مربحة وأكثر استقرارًا. لكنهم يقولون إن المزيد من الدعم والتعاون بين القطاعين العام والخاص ضروريان لاستقطاب كميات أكبر من رأس المال.
وقال دومينيك راب، نائب رئيس الوزراء البريطاني السابق ورئيس الشؤون العالمية في شركة أبيان كابيتال أدفايزوري، وهي مستثمر رئيسي في المعادن الحيوية: "لن ينظر المستثمرون إلى هذه الأشياء إذا لم تكن هناك عوائد محتملة، لكن الأمر صعب. والسؤال هو ما إذا كان بوسعنا تحقيق ذلك".
وأضاف: "أعتقد بأننا بدأنا في وضع أسس الخطة. ولكننا لم نتوصل بعد إلى حجمها. ويتعين علينا أن نثبت قدرتنا على الاستمرار".
بدائل الغرب
في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، أكد خبير اقتصاديات الطاقة، نهاد إسماعيل، من لندن، أن كسر هيمنة الصين على سوق المعادن النادرة ممكن وقابل للتحقق، شريطة توفر الاستثمارات والدعم المالي من الحكومات للشركات المتخصصة والمثابرة في هذا المجال.
وأوضح إسماعيل أن عمليات استخراج المعادن وفرزها ومعالجتها وتكريرها، بالإضافة إلى التحديات اللوجستية، ترفع من التكلفة بشكل كبير. وعلى الرغم من امتلاك الشركات للتقنيات اللازمة، إلا أنها تحتاج إلى حوافز اقتصادية ودعم دولي، خصوصًا من مجموعة السبع. كما أن القضايا البيئية، التحديات اللوجستية، وقواعد الحوكمة والتشريعات تضيف إلى التعقيدات.
وأشار إلى أن الصين تواجه اتهامات متزايدة بالتلاعب في الأسعار لتعزيز سيطرتها على السوق، حيث تتبع سياسات غير مرنة واستراتيجيات تهدف إلى استغلال حالة عدم اليقين الاقتصادي والجيوسياسي حول العالم.
وأضاف إسماعيل أن الصين تدرك جيدًا أهمية المعادن النادرة في الصناعات التكنولوجية الحديثة، مثل الأجهزة الحاسوبية، الهواتف الذكية، توربينات الرياح، وبطاريات السيارات الكهربائية. لكنه شدد على أن العالم بحاجة إلى تطوير الصناعات الإلكترونية والدفاعية والعسكرية، مما دفع الدول الغربية في العامين الماضيين إلى تكثيف جهودها في اكتشاف وتعدين ومعالجة المعادن النادرة، خصوصًا بعد القيود الصارمة التي فرضتها الصين على تصدير الغرافيت وغيره من المعادن.
وأكد على وجود تعاون دولي بين شركات كندية، ألمانية، وأسترالية لتعزيز الأبحاث وتطوير حلول لاستخراج المعادن وإنتاجها. وأشار إلى أن شركة " Neo Performance Materials " الكندية تتعاون مع شركة " Vacuumschmelze " الألمانية لإنتاج المعادن النادرة، بينما تسعى شركة " Aclara Resources Chile" التشيلية لتوسيع نشاطها في البرازيل. من جهة أخرى، تخطط شركة " Lynas Rare Earth " الأسترالية لتأسيس منشأة صناعية لاستخراج المعادن النادرة في ولاية تكساس الأميركية بدعم مالي كبير من واشنطن.
واختتم إسماعيل حديثه بالتأكيد على أن الإرادة السياسية والدعم الاقتصادي متوفران لتطوير قطاع المعادن النادرة وتجاوز الهيمنة الصينية، لكنه شدد على أن هذا الأمر سيتطلب وقتًا واستثمارات كبيرة لتحقيق النجاح المطلوب.
احتياطي ضخم
وفي تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، أشار الكاتب المتخصص في الشؤون الصينية، حسين إسماعيل، إلى أن بكين تملك احتياطيات ضخمة من المعادن، خاصة المعادن النادرة، وتسيطر على إنتاجها بشكل واسع داخل أراضيها. وبيّن أن الدول الغربية لن تتمكن من مجاراة هذه الهيمنة إلا في حالة واحدة، وهي غزو الأراضي الصينية.
وأضاف أن لدى الدول الغربية عدة خيارات لمواجهة سيطرة الصين. الخيار الأول هو التوجه إلى الدول التي تمتلك احتياطيات معدنية، لكنها أقل وفرة من تلك الموجودة في الصين، مثل دول أفريقيا. وهنا يتوقف الأمر على مدى قدرتهم على الوصول إلى هذه الاحتياطيات.
وأشار إسماعيل إلى أن المسار الثاني أمام الدول الغربية يتمثل في عقد اتفاقيات مع الصين، قد تتضمن تخفيف بعض السياسات المفروضة عليها من قبل الدول الأوروبية، مثل القيود التجارية. كما يمكن أن يتوجه الغرب نحو إيجاد بدائل للمعادن في المنتجات الصناعية.
وأوضح أن البحث عن بدائل لهذه المعادن قد يتطلب تكنولوجيا متقدمة، على غرار الدور الذي لعبته التقنيات الحديثة في توفير بدائل للبترول، مثل الطاقة الشمسية ومصادر الطاقة المتجددة الأخرى. واختتم إسماعيل بأن الصين ستظل تهيمن على سوق المعادن في المستقبل القريب.
منجم ضخم
وإلى ذلك، قال الخبير الاقتصادي المتخصص في الشؤون الصينية، الدكتور جعفر الحسيناوي في تصريحات لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن القارة الإفريقية تعد بمثابة منجم ضخم لمختلف المعادن النفيسة، ما جعلها محط اهتمام الدول الصناعية. وأوضح أن الصين استغلت هذا الواقع بصمت، حيث تمكنت من الاستثمار في العديد من الدول الإفريقية المنتجة لعناصر التراب النادر المستخدمة في الصناعات الحيوية.
أضاف أن هذا التوجه جاء دون انتباه الاتحاد الأوروبي، مما أتاح للصين الهيمنة على تلك الموارد، وأصبحت أوروبا تعتمد بشكل كبير على واردات الصين. وأشار إلى أن إنتاج الصين من هذه المواد عالميًا ضخم للغاية.
وأكد الحسيناوي أن هذا التنافس دفع دول الاتحاد الأوروبي للبحث عن طرق للتوجه نحو إفريقيا، مستفيدة من علاقاتها التاريخية مع القارة. في المقابل، عززت الصين وجودها عبر استثمارات أوسع، مانحة الدول الإفريقية دورًا أكبر في عمليات التنقيب والاستخراج والتسويق.
وأشار إلى أن هذا الوضع أثار مخاوف كبيرة لدى أوروبا بشأن أمنها الاقتصادي، خاصة في ظل الإجراءات الحمائية التي اتخذتها الصين. حيث حظرت تصدير التقنيات التي تستخدم في استخراج وفصل المعادن النادرة، مما يضمن استمرار هيمنتها على هذه الصناعات.