لم يكن المشهد السوري ليزداد قتامة بعد سقوط نظام بشار الأسد لولا تداعيات العقوبات الأميركية والأوروبية التي ألقت بثقلها على مفاصل الاقتصاد السوري كافة.
استهدفت العقوبات منذ سنوات طويلة قطاعات حيوية مثل الطاقة والتجارة والمالية، مخلفة اقتصاداً هشاً عاجزاً عن التعافي في ظل قيود مشددة تمنع الوصول إلى الأسواق الدولية وتحد من تدفق الاستثمارات والمساعدات.
ومع تصاعد التحديات الإنسانية، تبدو آثار هذه العقوبات أعمق من مجرد أرقام اقتصادية، إذ تمس حياة المواطنين اليومية بشكل مباشر، من شح الموارد الأساسية إلى ارتفاع غير مسبوق في أسعار السلع والخدمات، وهو ما عبر عنه وزراء الحكومة المؤقتة في البلاد في تصريحات متفرقة لهم بالأيام الأخيرة.
وفي ظل هذا الواقع المأزوم، يجد الحكام الجدد لسوريا أنفسهم في مواجهة معركة إعادة بناء البلاد، ساعين إلى إقناع العالم بأن مرحلة جديدة قد بدأت، وأن رفع العقوبات الدولية أصبح ضرورة لإنقاذ الاقتصاد المتداعي.
ومع ذلك، فإن هذه المهمة تبدو شاقة في ظل الإرث الثقيل من الفساد والخراب الذي خلفه النظام السابق، ما يجعل التعافي الاقتصادي مرهوناً بقدرة هؤلاء القادة على تقديم رؤية واضحة للإصلاح.
الموقف الأميركي
وفي خطوة إيجابية مبدئية أصدرت الولايات المتحدة الأميركية، الاثنين السادس من يناير، إعفاء من العقوبات على المعاملات مع المؤسسات الحاكمة في سوريا لمدة ستة أشهر، وذلك في محاولة لتسهيل تدفق المساعدات الإنسانية.
يسمح الإعفاء كذلك ببعض معاملات الطاقة والتحويلات المالية الشخصية إلى سوريا حتى السابع من يوليو.. لكن هذا الإجرءا لم يرفع أي عقوبات.
وقالت وزارة الخزانة الأميركية إن هذه الخطوة تهدف إلى "المساعدة في ضمان عدم عرقلة العقوبات للخدمات الأساسية واستمرارية وظائف الحكم في جميع أنحاء سوريا، بما في ذلك توفير الكهرباء والطاقة والمياه والصرف الصحي".
ويشير تقرير لـ "رويترز" في هذا السياق إلى معاناة سوريا من نقص حاد في الكهرباء، حيث لا تتوفر الكهرباء التي توفرها الدولة إلا لمدة ساعتين أو ثلاث ساعات يومياً في أغلب المناطق. وتقول الحكومة المؤقتة إنها تهدف إلى توفير الكهرباء لمدة تصل إلى ثماني ساعات يومياً في غضون شهرين.
وكانت واشنطن قد سمحت في وقت سابق بتقديم الدعم الإنساني للشعب السوري من خلال منظمات الإغاثة والأمم المتحدة والحكومة الأميركية، فضلاً عن بعض الأنشطة الاقتصادية في مناطق معينة لا تسيطر عليها حكومة الأسد.
وفي حين أن الخطوة التي اتخذت يوم الاثنين "تسمح بالمعاملات مع المؤسسات الحاكمة في سوريا" فإنها لا تسمح بأي معاملات تشمل وكالات عسكرية أو استخباراتية.
- حددت وزارة الخزانة المؤسسات الحاكمة في سوريا بأنها الإدارات والوكالات ومقدمي الخدمات العامة التي تديرها الحكومة - بما في ذلك المستشفيات والمدارس والمرافق العامة.
- ويسمح القرار أيضاً بإجراء معاملات لدعم بيع أو توريد أو تخزين أو التبرع بالطاقة، بما في ذلك البترول والكهرباء، إلى سوريا أو داخلها.
وكانت الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد الأوروبي وحكومات أخرى قد فرضوا عقوبات صارمة على سوريا بعد تفاقم الأزمة بالبلاد في العام 2011.
اهتمام أميركي
من جانبه، يقول الكاتب الصحافي والمحلل السوري شريف شحادة، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن الوضع في بلاده يشهد تطورات متسارعة منذ سقوط النظام، حيث بدأت الولايات المتحدة الأميركية تُظهر اهتماماً متزايداً بالشأن السوري، موضحاً أن أول اجتماع رسمي عُقد بين وفد أميركي وأحمد الشرع داخل سوريا، تم خلاله مناقشة كافة الأمور المتعلقة بالأوضاع الراهنة.
ويشير شحادة إلى أن الولايات المتحدة الأميركية تسعى لفتح الطريق أمام الدول الأخرى للتعامل مع سوريا، واستكشاف طبيعة الحكم الجديد ومناقشة مواضيع مختلفة، لافتاً إلى أن الموقف الأوروبي، رغم تدخله في سوريا، كان أقل تقبلاً للفكرة نظراً لاعتباره أن قادة الحكم مرتبطون بتنظيمات متطرفة، مما جعل الموقف الأوروبي حتى الآن تجاه العقوبات الاقتصادية على سوريا ثابتاً دون تغيير عملي يُذكر.
أما الدول العربية، فقد فتحت الأبواب لإرسال مساعدات إنسانية إلى سوريا، في حين بدأت الولايات المتحدة تُعطي إشارات إيجابية فيما يخص دعماً اقتصادياً محدودًا في مجالات محددة. ورغم ذلك، يرى شحادة أن هذه التحركات الاقتصادية لن تكون كافية لتغيير الوضع جذرياً، حيث يرتبط الأمر بتجربة الحكم الجديد ومعالجة قضايا مثل الانتخابات والمشاركة السياسية والطوائف.
ويؤكد أن الولايات المتحدة الأميركية تتبع سياسة حذرة، إذ تهتم بمصالحها الخاصة وتفضل دراسة الوضع بشكل معمّق قبل اتخاذ قرارات كبرى، مختتماً حديثه بالإشارة إلى أن فتح الاقتصاد السوري على الخارج قد يؤدي إلى تحسين ملحوظ في مستوى معيشة المواطن السوري، لكنه يشدد على أن الولايات المتحدة ليست في عجلة من أمرها، حيث ستواصل دراسة القضايا المتعلقة بالدستور والحكم والمشاركة السياسية قبل اتخاذ خطوات أوسع.
الموقف الأوروبي
بالنسبة للموقف الأوروبي، فقد عبر عنه أكثر من مسؤول، من بينهم وزيرة الخارجية الألمانية، أنالينا بيربوك، والتي قالت -بعد زيارة إلى دمشق ولقاء مع أحمد الشرع- إن رفع العقوبات يتوقف على التقدم السياسي المحرز بالبلاد، مشيرة في الوقت نفسه إلى "بعض الإشارات الإيجابية"، بينما تعتبر أنه من السابق لأوانه اتخاذ أي إجراء. وأضافت "لقد أظهرت الأسابيع القليلة الماضية مدى الأمل هنا في سوريا بأن المستقبل سيكون مستقبل الحرية.. الحرية للجميع، بغض النظر عن أصلهم العرقي أو جنسهم أو دينهم. ولكن من غير المؤكد أن هذا سيحدث".
وفي وقت سابق، ذكرت مسؤولة السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي كايا كالاس، أن رفع العقوبات الأوروبية عن سوريا "أمر سابق لأوانه".
تخفيف العقوبات
مستشار المركز العربي للدراسات والبحوث، أبو بكر الديب، يشير في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إلى أن قرار تخفيف العقوبات الأميركية على سوريا يُعتبر خطوة إيجابية جاءت في توقيت بالغ الأهمية، مشيراً إلى أن أثره يُنتظر أن يظهر بوضوح على المواطن السوري. كما يوضح أن القرار يسمح باستيراد النفط ومشتقات الطاقة، والتبرع بها لسوريا، ما يعزز توفير الطاقة الضرورية لتحسين وضع الكهرباء والتدفئة. كما يشمل السماح بالتحويلات البنكية الشخصية عبر البنك المركزي، مما سيتيح للمغتربين إرسال المساعدات الشخصية لأقاربهم داخل البلاد.
لكن الديب يلفت إلى أن القرار لا يغطي التحويلات التجارية، مما يعني أنه لن يسهم في تيسير أعمال رجال الأعمال والاقتصاديين، حيث لم يشمل استيراد الآلات الصناعية.
وفيما يتعلق بإعادة إعمار سوريا ومدى أهمية رفع العقوبات لمساعدة البلد على القيام بتلك المهمة، يؤكد أن فاتورة إعادة الإعمار لن تقل عن تريليون دولار، متوقعاً أن يستغرق ذلك 10 سنوات على الأقل. كما يشير إلى أن هذه التكلفة تشمل إعادة البناء فقط ولا تأخذ بعين الاعتبار تكلفة الفرصة البديلة، أي الخسائر الاقتصادية التي تكبدتها سوريا بسبب الحرب.
ويتابع: الاقتصاد السوري يعاني من غياب مقومات النهوض دون الحصول على مساعدات دولية، حيث تقلصت قوة العمل وهاجرت الكفاءات، وانتشر الاقتصاد غير الرسمي والأنشطة غير الشرعية، في ظل ضعف القطاع الخاص وهروب رؤوس الأموال، بالإضافة إلى انهيار قدرة الدولة على جمع الضرائب، وارتفاع معدلات التضخم وانهيار العملة.
تركة من الفساد
وتواجه الحكومة الانتقالية السورية، تركة ثقيلة من الفساد والانقسام الطائفي. ويرى وزير الخارجية في الحكومة أسعد الشيباني أن العقوبات الاقتصادية تمثل عقبة رئيسية أمام إنعاش الاقتصاد السوري.
وقد عبر أكثر من وزير في حكومة تصريف الأعمال الحالية عن حجم الصعوبات التي تواجهها سوريا في شتى القطاعات جراء العقوبات، كان آخرهم وزير التجارة الذي قال إن بلاده "عاجزة عن استيراد القمح والوقود بسبب العقوبات الأميركية".
وفي هذا السياق، تسعى الحكومة الانتقالية لتعزيز العلاقات مع دول الجوار كالإمارات وقطر والأردن بهدف استقطاب الدعم الاقتصادي والدبلوماسي.
إشارات ورسائل
خبير الاقتصاد الدولي، الدكتور علي الإدريسي، يقول في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن ثمة مجموعة من الإشارات والرسائل من الموقف الأميركي والأوروبي أخيراً بخصوص سوريا.
فيما يتعلق بالرسائل الأميركية، فقد أوجزها في عدد من النقاط الرئيسية، على النحو التالي:
- الموقف الأميركي مؤخراً يبرز استعداداً للتخفيف المؤقت لبعض العقوبات، خاصة تلك المرتبطة بالمساعدات الإنسانية.
- إصدار تراخيص خاصة مثل التراخيص العامة للسماح بإدخال مساعدات غير مشروطة، يعكس توجهاً نحو إبراز البعد الإنساني.
- مع ذلك، واشنطن ما زالت متمسكة بعدم رفع العقوبات كلياً إلا بوجود خطوات ملموسة (فيما يخص سلوك الإدارة الحالية).
وفيما يتعلق بالموقف الأوروبي، يقول:
- بعض الدول الأوروبية تبدي مرونة تجاه تسهيل التجارة الإنسانية، لكنها ما زالت مرتبطة بالموقف الأميركي من حيث الإصرار على أن أي رفع كامل للعقوبات يجب أن يرافقه إصلاح سياسي شامل.
- دول مثل فرنسا وألمانيا تحذر من تقديم تنازلات كبيرة دون تحقيق تقدم في الملف الحقوقي والسياسي.
ويضيف: بالنسبة لرفع العقوبات بشكل كامل أو حتى جزئي يعتمد على عدد من العوامل الرئيسية، بما في ذلك التطورات السياسية (مدى إحراز تقدم في العملية السياسية)، وكذلك الوضع الإنساني.
ويشدد على أنه في ظل المعطيات الحالية، من غير المتوقع رفع العقوبات بالكامل قريباً، لكن من الممكن تمديد إجراءات تخفيفية تشمل بعض القطاعات مثل المساعدات الإنسانية والتجارة غير المحظورة.
ويتطرق إلى تأثير رفع العقوبات على الوضع الاقتصادي مستقبلاً، وبما يتضمن:
- انتعاش القطاعات الأساسية: رفع أو تخفيف العقوبات يعني تخفيف القيود على الواردات والصادرات، ما يعيد النشاط للقطاعات الحيوية كالصناعة والزراعة، ويخفف أعباء الأسعار على المواطنين.
- إعادة الإعمار: رفع العقوبات يفتح الباب أمام عودة الاستثمارات الأجنبية والمساعدات الدولية الموجهة لإعادة بناء البنية التحتية المدمرة.
- تعزيز العملة المحلية: رفع العقوبات يسهم في تحسين تدفق الأموال الأجنبية، ما يدعم استقرار سعر صرف الليرة السورية.
- تخفيف المعاناة الإنسانية: وصول الإمدادات الغذائية والطبية بشكل أفضل سيؤدي إلى تحسن الظروف المعيشية للسكان.
- عودة سوريا إلى الأسواق الإقليمية والدولية.