يشهد الاقتصاد البريطاني تحولات جوهرية منذ تولي حزب العمال مقاليد الحكم، فبعد فترة من نمو اقتصاد البلاد الذي تفوق على نظرائه بمجموعة السبع في النصف الأول من العام، أظهرت أحدث البيانات الصادرة عن مكتب الإحصاءات الوطنية توقفاً مفاجئاً في النمو الاقتصادي، وتحديداً في الربع الثالث.
وأثار هذا التباطؤ، الذي كان أشد حدة مما كان متوقعاً، تساؤلات حول أسباب هذا التحول المفاجئ ومدى تأثير سياسات الحكومة الجديدة على أداء الاقتصاد، إذ تشير البيانات إلى أن العديد من القطاعات الاقتصادية، لا سيما قطاع الخدمات، قد شهدت تباطؤاً ملحوظاً.
هذه التطورات تضع حزب العمال في موقف صعب، حيث يتعارض الواقع الاقتصادي مع الوعود التي قطعها الحزب بزيادة النمو وتحسين مستوى المعيشة للمواطنين، فهل تشير هذه البيانات إلى فشل السياسات الاقتصادية الجديدة، أم أن هناك عوامل أخرى تؤثر على أداء الاقتصاد؟
مكتب الإحصاءات الوطنية صرح، الإثنين، بأن الناتج المحلي الإجمالي لم يتغير في الأشهر الثلاثة حتى سبتمبر، وهو ما يمثل خفضاً من تقديراته السابقة للنمو بنسبة 0.1 بالمئة. وكان خبراء الاقتصاد لا يتوقعون أي تعديل، كما كان الربع الثاني أضعف مما كان متوقعاً بنمو بلغ 0.4 بالمئة بدلاً من 0.5 بالمئة، بحسب تقرير نشرته وكالة "بلومبرغ" واطلعت عليه سكاي نيوز عربية.
وأوضح التقرير أن هذه الأرقام تمثل ضربة لرئيس الوزراء كير ستارمر، الذي وصل إلى السلطة بوعده بزيادة النمو ومعيشة المواطنين. بدلاً من ذلك، تراجع الاقتصاد بعد أن تفوق على نظرائه في مجموعة السبع في النصف الأول، حيث ألقت الشركات والمستهلكون باللوم على الخطاب القاتم حول حالة المالية العامة وزيادات الضرائب الكبيرة التي تم الإعلان عنها في ميزانية 30 أكتوبر.
وأشار إلى أنه على أساس الفرد، انخفض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 0.2 بالمئة في الربع الثالث. وشهد الجنيه الإسترليني تغيرات طفيفة مقابل الدولار بعد الإصدار عند مستوى 1.2565 دولار.
ويتوقع بنك إنجلترا أن يسجل الاقتصاد نمواً صفرياً في الأشهر الثلاثة الأخيرة من العام، كما ترسم مسوح مديري المشتريات صورة قاتمة. وحذر اتحاد الصناعات البريطانية من انخفاض حاد في النشاط الخاص في الأشهر الثلاثة المقبلة، مشيراً إلى تأثير زيادة الضرائب على أجور الموظفين البالغة 26 مليار جنيه إسترليني (32.7 مليار دولار).
وقال بول ديلز، كبير الاقتصاديين في "كابيتال إيكونوميكس": "بعد النصف الأول المزدهر من العام، توقف الاقتصاد عن النمو في النصف الثاني من العام بسبب مجموعة من العوامل، بما في ذلك الاستمرار في سحب معدلات الفائدة المرتفعة، وضعف الطلب الخارجي، وبعض المخاوف بشأن السياسات الواردة في الميزانية، وتشير البيانات الأكثر حداثة إلى أن الاقتصاد لا يمتلك الكثير من الزخم مع اقتراب العام من نهايته".
في بيان صدر عقب صدور أرقام الناتج المحلي الإجمالي، ألقت وزيرة الخزانة راشيل ريفز باللوم على الحكومة المحافظة السابقة. وقالت: "التحدي الذي نواجهه لإصلاح اقتصادنا وتمويل مواردنا العامة بشكل صحيح بعد 15 عاماً من الإهمال هائل".
دخل الفرد لم ينمُ للمرة الأولى منذ عام
كما ذكر مكتب الإحصاءات الوطنية أن الدخل الحقيقي للأسر المعيشية للفرد كان ثابتاً في الربع الثالث، ولم ينم للمرة الأولى منذ عام. وانخفض معدل الادخار - وهو مقدار الدخل المتاح الذي يختار الناس عدم إنفاقه - من أعلى مستوى له منذ ثلاث سنوات عند 10.3بالمئة في الربع الثاني إلى 10.1 بالمئة. ولا يزال هذا أعلى بكثير من المستويات التي شوهدت قبل الوباء.
وقد وعد حزب العمال بتحقيق أسرع نمو مستدام في مجموعة السبع - وهو تعهد يعتبره الاقتصاديون طموحاً. وتظهر البيانات التي تم إصدارها سابقاً انكماش الاقتصاد في شهري سبتمبر وأكتوبر، وقد تهب عاصفة اقتصادية اقوى في عام 2025 نظراً لتهديد الحرب التجارية التي أشعلها الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب وتداعيات الميزانية، وفقاُ لتقرير الوكالة الأميركية.
ذكر مكتب الإحصاءات الوطنية أنه لم يكن هناك نمو في قطاع الخدمات في الربع الثالث وانخفاض بنسبة 0.4 بالمئة في الإنتاج الصناعي، مما يعوض زيادة بنسبة 0.7 بالمئة في قطاع البناء. وقالت ليز مكيون، مديرة الإحصاءات الاقتصادية في مكتب الإحصاءات الوطنية، إن الحانات والمطاعم والمكاتب القانونية والإعلانية حققت أداء أقل مما كان متوقعاً.
ونوه التقرير بأن إنفاق المستهلكين قد يصبح عائقاً أكبر أو يوفر دفعة للاقتصاد البريطاني في عام 2025، اعتماداً على ما إذا كانت الأسر المعيشية تقرر إنفاق المدخرات الزائدة الكبيرة. وفي حين أن انخفاض أسعار الفائدة قد يقنع الكثيرين بإنفاق المزيد، فإن علامات على عام آخر مضطرب في السياسة الداخلية والخارجية قد ترسخ الحذر.
الميزانية الأخيرة أثرت بشكل كبير على إنفاق المستهلك
وفي حديث خاص لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" قال علي حمودي الخبير الاقتصادي، المختص في الشأن البريطاني "كان للميزانية الأخيرة للمملكة المتحدة تأثير كبير على مؤشر المستهلك، إذ أن المبيعات لم تتمكن من مواكبة التكاليف المتزايدة التي أنتجتها الميزانية، مما يعني أن تجار التجزئة لن يكون لديهم خيار سوى رفع الأسعار أو خفض التكاليف - إغلاق المتاجر ووقف التوظيف، إن التوقعات القاتمة ستزيد من المزاج الكئيب في حكومة العمال حيث يفكر الوزراء في انهيار تقييمات استطلاعات الرأي لحزب العمال"
وتظهر الأرقام أن الاقتصاد كان أضعف في الربعين الثاني والثالث من هذا العام مما اقترحته تقديراتنا الأولية مع أداء أقل جودة في قطاعات الأغذية والضيافة والمطاعم والشركات القانونية والإعلان على وجه الخصوص، بحسب حمودي، الذي يرى أن حكومة العمال يجب أن تعيد النظر الآن بشكل عاجل في ميزانيتها الكارثية ومواءمة السياسة الاقتصادية مع النمو وليس مع تباطؤ الاقتصاد، مشيراً على أن كل لحظة تأخير تلحق المزيد من الضرر بثقة الأعمال والإنتاج والعمالة.
ونوه بأن إنفاق المستهلك قد يصبح عبئاً أكبر أو يوفر دفعة للاقتصاد البريطاني في عام 2025، اعتماداً على ما إذا كانت الأسر تقرر إطلاق العنان لمدخرات فائضة كبيرة. في حين أن انخفاض أسعار الفائدة قد يقنع الكثيرين بإنفاق المزيد، فإن علامات عام مضطرب آخر للسياسة في الداخل والخارج قد ترسخ الحذر.
الوقت لم يعد في صالح حزب العمال لتبرير فشلهم
وأضاف الخبير الاقتصادي، المختص في الشأن البريطاني "من الواضح أن المملكة المتحدة تقف في تناقض صارخ مع الولايات المتحدة، حيث أدى استعداد المستهلكين لاستنزاف مدخراتهم الاحترازية إلى أقوى نمو اقتصادي في مجموعة الدول السبع. يبلغ إنفاق المستهلك في الولايات المتحدة الآن حوالي 14 بالمئة فوق مستويات ما قبل الوباء. بينما في المملكة المتحدة، لا يزال بالكاد يتحرك".
وختم حمودي بقوله" الميزانية الأخيرة تسببت في عدم تحقيق الاقتصاد النمو المنشود، إذ تضمنت ضرائب أكثر وضرائب اجتماعية أكثر، وهو ما أثر كما ذكرنا على شهية الإنفاق لكن من غير الواضح أن هذا الوضع سيستمر إلى عام 2025، حزب العمال استلم الحكم منذ ستة أشهر وكلما مر الوقت سيقل تبرير فشلهم اقتصادياً، بأنهم ورثوا إرثاً سيئاً من حكومة المحافظين، ويجب أن يتداركوا الموقف وأن يرى الاقتصاد حركة إيجابية".
الاقتصاد يعاني من أزمة ديون ضخمة
ومن لندن، قال الدكتور ممدوح سلامة خبير الاقتصاد والطاقة العالمي في حديث لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية": "إن الاقتصاد البريطاني يواجه تحديات غير مسبوقة في الوقت الراهن. وأضاف أن الاقتصاد لم يسجل أي نمو خلال الأرباع الثلاثة الأولى من عام 2024، مما يضعه في حالة انحسار اقتصادي".
وأشار الدكتور سلامة إلى أن الاقتصاد البريطاني يعاني من أزمة ديون ضخمة، حيث أصبحت الحاجة إلى الاقتراض المتكرر وبكميات كبيرة أمراً ضرورياً لموازنة الميزانية ودعم الإنفاق الحكومي. وأوضح أن هذه الأزمة اتخذت طابعاً مزمناً، إذ بات حجم الدين الوطني يعادل تقريباً حجم الناتج المحلي الإجمالي للبلاد.
أعضاء حكومة حزيب العمال يفتقرون إلى الخبرة في الحكم
وفي سياق متصل، لفت الدكتور سلامة إلى التحديات التي تواجهها حكومة حزب العمال الجديدة، حيث أن أعضاءها يفتقرون إلى الخبرة في الحكم، ما يدفعهم إلى تجربة سياسات وأساليب متعددة لمحاولة الخروج من الأزمة الاقتصادية. وأكد أن نجاح هذه الجهود من عدمه سيعتمد على ما ستكشفه الأيام المقبلة.
وأضاف "إن بريطانيا لاتزال ترزح تحت وطأة تداعيات البريكست، إذ تواجه صعوبات في توقيع اتفاقيات تجارية رئيسية مع الولايات المتحدة، والصين، وحتى مع الاتحاد الأوروبي". وأوضح أن هذه المحاولات للتقارب مع الاتحاد الأوروبي تأتي في وقت يعاني فيه الأخير من أزمة اقتصادية خانقة، حيث سجل الاقتصاد الأوروبي نمواً متواضعاً بنسبة 0.5 بالمئة فقط خلال عام 2024، مع توقعات باستمرار هذا التباطؤ في عام 2025.
وختم الدكتور سلامة تصريحه بأن هذه الأزمات المتشابكة تُلقي بظلالها القاتمة على الاقتصاد البريطاني، مشدداً على أن نجاح حزب العمال في مواجهة هذه التحديات وتحقيق التعافي الاقتصادي سيتحدد بمرور الوقت.