يشهد الاقتصاد البريطاني تحولاً هيكلياً متسارعاً، حيث تنمو قطاعات التكنولوجيا والعلوم بشكل غير مسبوق، بينما تواجه قطاعات أخرى، مثل التصنيع والضيافة، تحديات كبيرة وتراجعاً ملحوظاً. هذا التباين الواضح في أداء القطاعات الاقتصادية يثير تساؤلات حول مستقبل الاقتصاد البريطاني وهل سيصبح رهينة لنجاح قطاع التكنولوجيا فقط؟
منذ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وجائحة كورونا، أصبحت التكنولوجيا المحرك الرئيسي للنمو الاقتصادي، حيث ساهمت بشكل كبير في إجمالي الناتج المحلي. والسؤال المطروح.. هل يمكن لبريطانيا أن تبني اقتصاداً مستداماً وقوياً يعتمد على قطاع التكنولوجيا فقط، أم أنها بحاجة إلى تنويع مصادر النمو الاقتصادي وإعادة إحياء القطاعات التقليدية؟
ويكشف تحليل البيانات القطاعية أن القطاعات القائمة على التكنولوجيا والعلوم تساهم بنسبة 90 بالمئة من النمو، حيث تم دفع معظم نمو بريطانيا في السنوات الخمس الماضية بواسطة قطاعين رئيسيين فقط، مما يكشف عن المهمة التي تواجه رئيس الوزراء كير ستارمر لإحياء قطاعات واسعة من الاقتصاد، بحسب تقرير نشرته وكالة "بلومبرغ" واطلعت عليه سكاي نيوز عربية.
ويوضح التقرير أن المساهمة الكبيرة من الصناعات القائمة على التكنولوجيا والعلوم تخفي انتعاشاً ذو سرعتين، وتكافح قطاعات من الضيافة إلى التصنيع للتوسع، إذ أن ثلث القطاعات التي تمثل نحو 20 بالمئة من القيمة المضافة الإجمالية لا تزال دون مستويات إنتاجها في عام 2019 بعد ما يقرب من خمس سنوات من الإصابة بكوفيد، بينما يكاد يكون غيرها، بما في ذلك العقارات والإنشاءات، أعلى قليلاً. بدلاً من ذلك، اعتمدت بريطانيا على اثنين - المعلومات والاتصالات والأنشطة المهنية والعلمية والتقنية - لتشغيل أدائها الجزئي على خلفية موجة من الابتكار.
وذكر التقرير أن "الأرقام توضح الجبل الذي يجب على كير ستارمر رئيس الوزراء البريطاني الجديد تسلقه لتحقيق وعده بجعل بريطانيا أسرع اقتصاد نمواً في مجموعة السبع. يتوقف ذلك على استمرار ازدهار أقوى اللاعبين، وتكتسب العديد من القطاعات المتعثرة الزخم".
ميزانية للنمو الاقتصادي
ووعدت وزيرة الخزانة راشيل ريفز في مؤتمر حزب العمال هذا الأسبوع بتقديم "ميزانية للنمو الاقتصادي" في 30 أكتوبر. ومنذ نهاية عام 2019، تجاوز الاقتصاد البريطاني كل اقتصاد آخر في مجموعة السبع باستثناء ألمانيا. ومع ذلك، فهي تواجه انتعاشاً يفقد الزخم، جزئياً بسبب تحذيرات حزب العمال القاتمة بشأن المالية العامة واحتمالية رفع الضرائب.
ونما اقتصاد بريطانيا بنسبة 0.6 بالمئة في الربع الثاني وتوقع بنك إنجلترا (البنك المركزي) أن يتباطأ النمو إلى 0.3 بالمئة في الربع الثالث من العام الجاري.
وأشار التقرير إلى أن التحليل القطاعي للبيانات يشمل فترة مضطربة لبريطانيا عندما أضر البريكست وكوفيد ونقص العمالة وأسوأ موجة من التضخم في عقود عديدة ببعض الشركات، لكن التطورات التكنولوجية رفعت أخرى.
وساهمت أنشطة المعلومات والاتصالات والمهنية والعلمية والتقنية بما يقرب من 90 بالمئة من التوسع الإجمالي البالغ 2.8 بالمئة في القيمة المضافة الإجمالية منذ نهاية عام 2019، مع نمو القطاع السابق بأكثر من 20 بالمئة. كان هناك قوة خاصة في الاتصالات السلكية واللاسلكية، وبرمجة الكمبيوتر، والبحث والتطوير العلمي، وبعض الخدمات المهنية، مثل القانون والمحاسبة.
انتعاش غير متساو
وقال مارتن سارتوريوس، كبير الاقتصاديين في اتحاد صناعات بريطانيا: "شهد قطاع التكنولوجيا طلباً قوياً على خدمات مثل الذكاء الاصطناعي والتشغيل الآلي وتحليل البيانات والحوسبة السحابية وأمن الإنترنت، لقد كانت الشركات في مختلف الصناعات تستثمر في هذه التقنيات لتحسين الكفاءة والأمان وصنع القرار."
بدوره، قال سورين ثيرو، مدير الاقتصاد في معهد المحاسبين القانونيين في إنجلترا وويلز: "نرى انتعاشاً غير متساو، مع الاعتماد المفرط على الخدمات لدفع النشاط الاقتصادي العام، بينما تكافح القطاعات الأخرى، وأدت العوامل العالمية دوراً أيضاً مع وجود طلب دولي قوي على الخدمات المهنية، بينما تستمر الشركات التي تصدر السلع إلى الاتحاد الأوروبي في مواجهة احتكاك التجارة بعد البريكست".
عوامل تراجع الصناعات والاقتصاد عموماً
ومن لندن أكد الخبير الاقتصادي الدولي الدكتور ممدوح سلامة في حديث خاص لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" أن الصناعات التكنولوجية في بريطانيا تزدهر مثلها مثل باقي دول العالم، ومع ذلك أشار أن الاقتصاد البريطاني في تراجع حيث إن العديد من الصناعات التقليدية لم تشهد التطوير الكافي لمواكبة التغيرات الاقتصادية العالمية.
وأشار الدكتور سلامة إلى أن هناك عدة عوامل تساهم في هذا التراجع. منها ما يتمثل في أن الاقتصاد البريطاني لا ينمو بشكل سريع حالياً، حيث إن ديون بريطانيا تتجاوز الآن ناتجها المحلي الإجمالي. هذه الديون الضخمة تحد من قدرة الحكومة على الاستثمار أو الحصول على قروض جديدة، مما يعرقل قدرتها على دعم الاقتصاد الداخلي بمزيد من الاستثمارات.
وأوضح أن الاقتصاد البريطاني مر بمراحل متعددة أدت إلى تراجعه، بدءاً من أزمة السويس عام 1956، التي كانت بداية لتقلص النفوذ الاقتصادي للمملكة المتحدة. وفيما يخص اكتشاف النفط في بحر الشمال، أشار إلى أن الإيرادات الضخمة التي تم تحقيقها من هذا المورد استُخدمت في سد العجز في الاقتصاد البريطاني، بدلاً من توجيهها لتطوير الصناعات والاقتصاد بشكل عام.
أزمة أخرى أثرت على الاقتصاد البريطاني حديثاً وهي البريكست، حيث أدى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إلى فقدانها لجزء كبير من السوق الأوروبية، مما أدى إلى ارتفاع تكلفة المعيشة وزيادة معدلات البطالة والتضخم. كما أن خروج الاستثمارات الأوروبية الكبيرة التي كانت تتدفق إلى بريطانيا قبل البريكست قد ساهم في هذا التراجع، بحسب تعبيره.
كما أشار الدكتور سلامة إلى أن بريطانيا اتخذت سياسات أدت إلى تقليص إنتاج الفحم، والذي كان يعد مصدراً رئيسياً لتوليد الكهرباء بأسعار منخفضة. ومع ارتفاع أسعار الطاقة والنفط والغاز لفترة معينة، ارتفع التضخم وتباطأ النمو الاقتصادي بشكل ملحوظ.
وفيما يتعلق بموارد الطاقة، أضاف سلامة أن بريطانيا أصبحت الآن مستوردة للغاز والنفط بشكل كبير، بسبب الانخفاض المستمر في إنتاج بحر الشمال. ففي حين كانت بريطانيا تعتمد سابقاً على اكتفاء ذاتي في الطاقة وتصدير كميات كبيرة من النفط، تراجعت صادراتها بشكل كبير لتصل إلى ما بين 300 إلى 400 ألف برميل يومياً فقط، مقابل استيراد ما تحتاجه من كميات وهذا العجز في ميزان الطاقة أدى إلى تفاقم التحديات الاقتصادية.
الصناعة والتصنيع كلمات من الطراز القديم
من جانبه، قال علي حمودي الخبير الاقتصادي، المختص في الشأن البريطاني في حديث خاص لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية": "قد يكون صحيحاً أن القطاع الصناعي في المملكة المتحدة آخذ في الانحدار، ولكن لا ننسى أن أكثر من 50 بالمئة من الاختراعات المهمة التي شكلت العالم الحديث نشأت في بريطانيا، من الكونكورد إلى التلقيح الاصطناعي، والطاقة النووية المدنية وماكينة الصراف الآلي، تم اختراعها جميعاً من قبل علماء ومهندسين في المملكة المتحدة، وأطلقوا العنان لها في الأسواق العالمية".
لكن الصناعة والتصنيع في المملكة المتحدة أصبحت كلمات من الطراز القديم، ولم يعد يُجمع الكثير من الأرباح منها، ولعدة سنوات كان الحديث في بريطانيا عن وجوب التخلي عن الصناعة، إذ أن الصين ستُصنّع كل ما يحتاجه العالم، وسيأتي نمو اقتصاد المملكة المتحدة من قطاعات الخدمات مثل القانون، والخدمات المالية، والاستثمار والتأمين، بحسب تعبيره.
لكنه يرى أن الاعتماد على قطاع التكنولوجيا وحده لدفع النمو الاقتصادي ليس سياسة حكيمة أبداً، إذ أظهرت الأزمات الاقتصادية السابقة أن الاقتصادات التي تعتمد بشكل كبير على قطاعات محددة يمكن أن تعاني من صعوبات اقتصادية أكبر عندما تواجه هذه القطاعات فترات ركود.
ويشرح حمودي أن قطاع التكنولوجيا يتمتع بالقدرة على دفع النمو الاقتصادي الكبير، وخلق فرص العمل، وزيادة الإنتاجية، وإذا نجح هذا القطاع فقد يؤدي ذلك إلى زيادة الاستثمار في البنية الأساسية والتعليم والابتكار عبر القطاعات الأخرى، ولكن مع ذلك، إذا تم التركيز بشكل مفرط على التكنولوجيا، فهناك خطر إهمال قطاعات مهمة أخرى، مما يؤدي إلى اختلال التوازن في الاقتصاد وفرص العمل.
المنافسة العالمية
وأضاف المختص في الشأن البريطاني أنه "لا ينبغي لنا أن ننسى أيضاً أن قطاع التكنولوجيا في المملكة المتحدة ينافس على نطاق عالمي. لن يعتمد نجاح قطاع التكنولوجيا على الاستثمارات المحلية فحسب، بل على الشراكات الدولية والقدرة التنافسية. إذا أحرزت بلدان أخرى خطوات أكبر في مجال التكنولوجيا، فقد تتخلف المملكة المتحدة".
وعلاوة على ذلك، أثر خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي على علاقاتها داخل أوروبا وقد يؤثر على المشهد التكنولوجي اعتماداً على الأطر التنظيمية والاتفاقيات التجارية، وفقاً لحمودي الذي يرى أنه يجب على الحكومة الجديدة أن تضع سياسات تؤدي دوراً حاسماً في تحديد مدى تأثير نجاح قطاع التكنولوجيا على الاقتصاد الكلي، كما يمكن للحوكمة الفعالة أن تضمن دعم قطاع التكنولوجيا للأهداف الاقتصادية الأوسع بدلاً من أن يصبح نقطة محورية معزولة للنمو.
ويختم الخبير الاقتصادي حمودي بقوله: "في حين أن قطاع التكنولوجيا لديه القدرة على دفع النجاح الاقتصادي الكبير، فمن الضروري للحكومة والشركات والمستثمرين والمجتمع ضمان اتباع نهج متوازن. وسوف يستفيد الاقتصاد البريطاني بشكل أكبر من مجموعة متنوعة من القطاعات المزدهرة بدلاً من الاعتماد بشكل مفرط على قطاع واحد، فالاستثمار الاستراتيجي ودعم السياسات والتركيز على تنمية المهارات أمر بالغ الأهمية لخلق مستقبل اقتصادي مرن. وبالتالي يمكن للمملكة المتحدة الاستفادة من التقدم التكنولوجي مع الحفاظ على صحة الصناعات الحيوية الأخرى".