سجّلت أسعار الذهب ارتفاعات غير مسبوقة خلال عام 2024، محطمة أرقاماً قياسية مع اقتراب الأونصة من مستوى 2800 دولار في نهاية شهر أكتوبر، قبل أن تعود وتنخفض إلى نحو 2631 دولار حالياً.
وتقليدياً، يزدهر الذهب خلال أوقات التوترات الجيوسياسية أو عدم الاستقرار الاقتصادي، نظراً للسمات المميزة التي يمتلكها هذا المعدن، والتي تجعل منه ملاذاً آمناً خلال حالات عدم اليقين، حيث إن الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا، والتوترات في الشرق الأوسط غذت كثيراً ارتفاع أسعار الذهب في بداية 2024.
وفي النصف الثاني من 2024، ساهمت تطورات المشهد الاقتصادي العالمي مع التوقعات بحدوث تراجع اقتصادي محتمل في الولايات المتحدة، إضافة إلى تأكد الأسواق من أن الفيدرالي الأميركي سيبدأ مسيرة خفض أسعار الفائدة، في ازدياد الطلب على المعدن الأصفر الذي واصل تحقيق مكاسب ساحرة للمستثمرين.
مشتر غامض يقود السوق
ولكن وبحسب تحقيق أعدته "بلومبرغ" واطلع عليه موقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، فإن طبيعة ارتفاع أسعار الذهب خلال 2024 خالفت كل القواعد، الأمر الذي أثار تساؤلات حول إمكانية وجود مشتر غامض كبير يقوم بقيادة السوق، ليتبين أن من يقف وراء هذا المسار الجامح للمعدن الأصفر، كانت قاعدة المستهلكين الضخمة في الصين، حيث لجأ المشترون الصينيون إلى السبائك الذهبية كدرع يحميهم من حالة عدم اليقين.
وفي الواقع، كانت مشتريات البنوك المركزية من الذهب المحرك المهيمن للتحرك الصاعد لأسعار المعدن الأصفر منذ عام 2022، وعلى رأسهم بنك الشعب الصيني الذي شرع في جولات شراء متعددة استمرت لمدة 18 شهراً بين عامي 2023 و2024، لينضم المستهلكون الصينيون إلى اندفاعة شراء الذهب في وقت سابق من هذا العام، مما ساعد في دفع قيمة الذهب إلى مستوى قياسي مرتفع.
وأصبحت الصين الآن أكبر مشتري تجزئة للذهب في العالم، حيث ارتفعت مبيعات السبائك والعملات المعدنية في البلاد، بنحو 30 في المئة عام 2024، مع اتجاه الأفراد الصينيين لحماية مدخراتهم بملاذ قوي، فالطلب الصيني القوي على الذهب لم يكن مدفوعاً بتوافر أموال إضافية بين أيدي المستهلكين، بل سببه سوق الأسهم المحلية المتأرجحة التي حدّت من خيارات الاستثمار في البلاد، وأيضاً أزمة العقارات المستمرة التي تثقل كاهل الاقتصاد الصيني، فبعد أن كان الصينيون يعتبرون أن شراء المنازل يمثل مخزناً رئيسياً لقيمة أموالهم، تسبب تعرض سوق العقارات في البلاد لأزمة، بخسائر أدت إلى فقدان الأسر الصينية لمليارات الدولارات.
استثمارات قياسية بالسبائك والعملات
وتُظهر بيانات World Gold Council التي اطلع عليها موقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، أن حجم استثمار السبائك والعملات المعدنية في الصين، بلغ 253 طناً خلال الأرباع الثلاثة الأولى من عام 2024، وهو أعلى مستوى له في 11 عاماً.
وبلغ إجمالي الطلب الصيني على الذهب والذي يشمل استهلاك المجوهرات الذهبية، والاستثمار في السبائك والعملات المعدنية، إضافة إلى الطلب الصافي على صناديق الاستثمار المتداولة في الذهب، ومشتريات البنك المركزي 741 طناً خلال الأرباع الثلاثة الأولى من 2024، بانخفاض بنسبة 19 في المئة على أساس سنوي، حيث يعود هذا التراجع إلى تباطؤ المشتريات المبلّغ عنها من بنك الشعب الصيني، الذي أنهى سلسلة شراء الذهب في مايو 2024.
علامات تحوّل في السوق
وبحسب تقرير "بلومبرغ" فإنه بحلول شهر أكتوبر 2024، بدأت سوق الذهب في الصين تُظهر علامات تحول، حيث إن اقتراب سعر أونصة الذهب لمستويات قياسية قريبة من 2800 دولار، دفع مشتري المعدن الأصفر في الصين، للقول "كفى" وهو ما جعل المبيعات سيئة للغاية في ذلك الشهر.
ولكن الذهب عكس اتجاهه الصعودي في شهر نوفمبر 2024، وتحديداً بعد فوز دونالد ترامب بفترة ولاية ثانية، وذلك بفعل انتقال بعض من رأس المال بعيداً عن المعدن الأصفر باتجاه العملات المُشفّرة التي يدعمها ترامب.
ومنذ بداية عام 2024 وحتى الأسبوع الثالث من شهر ديسمبر، ارتفع الذهب بنسبة 28 في المئة من نحو 2044 دولارا للأونصة إلى أكثر من 2631 دولارا، ووفقاً لبيانات World Gold Council فإن العالم قد استخرج حتى الآن حوالي 212000 طن ذهب من الأرض، 45 في المئة منها تقريباً موجودة في المجوهرات، و22 في المئة موجودة في سبائك وعملات معدنية.
الذهب يتفوق على العقارات
ويقول المحلل المالي محمد سعد في حديث لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن الذهب برز كحارس للثروة ودرع في وجه المجهول في الصين، التي تعيش تداعيات أزمة عقارية خانقة منذ أكثر من 3 سنوات، وهذا ما دفع الأفراد هناك إلى تغيير بوصلتهم الاقتصادية من الاستثمار في المنازل، إلى الاعتماد على الذهب كملاذ آمن يحمي مدخراتهم، مشيراً إلى أن هذا التحول الاستراتيجي جعل السبائك والعملات الذهبية، رمزاً لاستقرارٍ لم تعد العقارات قادرة على توفيره بالنسبة للأفراد الصينيين.
ويكشف سعد أن السوق العقاري في الصين شهد تراجعاً حاداً في المبيعات خلال نوفمبر 2024، حيث انخفضت قيمة مبيعات أكبر 100 شركة عقارية هناك، بنسبة 6.9 في المئة على صعيد سنوي، مما يعكس استمرار الأزمة في هذا القطاع رغم محاولات الحكومة لدعمه، مؤكداً أن هذا التراجع سيدفع المزيد من الأفراد في الصين، إلى تحويل استثماراتهم نحو الذهب، وبالتالي، فإنه من المتوقع أن يستمر الذهب في جذب الاهتمام الصيني في 2025، على الرغم من أنه قد لا يشهد الارتفاعات الكبيرة التي تحققت في 2024 من ناحية مبيعات السبائك والعملات، كما أن الضغوط التجارية المتزايدة المتوقعة على الصين خلال عهد ترامب، وتهديداته بفرض تعريفات جديدة ستعزز من توجه الأفراد الصينيين نحو الذهب كملاذ آمن.
اتجاهات الذهب في 2025
من جهتها تقول الكاتبة الاقتصادية رلى راشد، في حديث لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إن الذهب يستعد لإنهاء عام 2024 بأداء استثنائي، محققاً أفضل مكاسب سنوية منذ أكثر من عقد، حيث ارتفع بنسبة تفوق الـ 28 في المئة حتى الآن وسجل 40 مستوى قياسياً جديداً منذ بداية 2024، في حين تجاوز الطلب الإجمالي على الذهب مبلغ الـ 100 مليار دولار في الربع الثالث من العام 2024، وذلك لأول مرة في التاريخ، لافتةً إلى أن التركيز الآن، ينصب حول تأثير ولاية ترامب الثانية على الاقتصاد الأميركي والعالمي، وكيفية تفاعل أسعار الذهب مع ذلك.
وتؤكد راشد أن تصرفات ترامب وسياسة بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، واتجاه الدولار الأميركي ومستويات التضخم، كلها عوامل ستلعب دوراً مهماً في تحديد مستقبل أسعار الذهب في 2025، ولكن يجب أن لا ننسى أن أداء المعدن الأصفر، يعتمد على عوامل أخرى، تشمل العرض والطلب العالمييْن، ومشتريات البنوك المركزية إضافة إلى الطلب الاستهلاكي الآسيوي وخصوصاً من قبل المستهلكين الصينيين، الذين كانوا بمثابة "تيار خفي" ساهم في تحديد مسار المعدن الأصفر في 2024، مشيرةً إلى أن التوقعات بدأت تُجمع على أن الذهب، سيرتفع إلى مستوى 3000 دولار للأونصة في نهاية 2025، مدفوعاً بخفض أسعار الفائدة وتصاعد حالة عدم اليقين في العالم.
وترى راشد أنه مع دخول ترامب إلى البيت الأبيض في بداية عام 2025، تلوح في الأفق اضطرابات كبيرة قد تعصف بالتجارة العالمية، وتوازنات القوى الجيوسياسية، مما يدفع البنوك المركزية، مثل تلك في الصين، إلى تعزيز حيازتها من الذهب، كوسيلة للتحوط وتنويع احتياطياتها بعيداً عن هيمنة الدولار، في حين يُرجّح أن تؤدي تعهدات ترامب المتشددة بشأن الضرائب والتعريفات الجمركية في نهاية المطاف، إلى ارتفاع العجز والتضخم، مما يعزز الاتجاه نحو شراء الذهب كتحوط ضد التضخم، لافتةً إلى أن جميع هذه التطورات ستجعل من الذهب خياراً استراتيجياً في 2025.