تشهد الساحة المالية العالمية معركة محتدمة على لقب عاصمة العملات المشفرة، فبينما تسعى الولايات المتحدة، نتيجة قوتها الاقتصادية والتكنولوجيا المتقدمة لديها، لتثبيت أقدامها كمركز عالمي لهذه الصناعة الناشئة، تطمح المملكة المتحدة، بدورها، إلى استغلال تاريخها العريق في المجال المالي وبنيتها التحتية المتطورة لخطف الأضواء.
هل ستنجح لندن في منافسة واشنطن، أم ستظل الأخيرة هي المهيمنة؟.. هذا التنافس سيحدد مصير العملات المشفرة، ويشكل مستقبل الصناعة المالية العالمية بشكل كبير.
وتواجه بريطانيا طريقاً صعباً في إطار سعيها لتصبح مركزاً عالمياً للعملات الرقمية، وسط انتقادات من رواد الأعمال المحليين والمنافسة الأميركية تحت قيادة الرئيس المنتخب دونالد ترامب، بحسب تقرير نشرته شبكة "سي إن بي سي"، واطلعت عليه سكاي نيوز عربية.
وأشار التقرير، إلى التزام حكومة حزب العمال البريطانية بجعل البلاد بيئة مستعدة للأعمال التجارية العاملة في مجال العملات الرقمية وتكنولوجيا "البلوك تشين"، حيث قالت توليب صديق، وزيرة الدولة للشؤون الاقتصادية في المملكة المتحدة، في خطاب ألقته أخيراً: "إن الحكومة تهدف إلى إشراك الشركات في صياغة أحكام قانونية للأصول الرقمية، بما في ذلك العملات المستقرة - وهي رموز مرتبطة بقيمة العملات السيادية - في أقرب وقت ممكن في العام المقبل".
كما قالت إن الحكومة لن تعامل خدمات إقراض العملات الرقمية، التي تقدم مكافآت لحاملي الرموز، على أنها مخططات استثمار جماعي. حيث كان قادة صناعة العملات الرقمية قلقين من أن مثل هذا التصنيف قد يخلق متطلبات تنظيمية مرهقة.
بينما قالت بوبي غوستافسون، وزيرة الاستثمار البريطانية، الأسبوع الماضي في حدث نظمه فرع المملكة المتحدة لمجموعة "الدفاع عن العملات الرقمية" إن "هذا القطاع ذو إمكانات هائلة ويلعب بالفعل دوراً محورياً في المشهد التكنولوجي النابض بالحياة في المملكة المتحدة، إن الحكومة "ملتزمة بتعزيز ودعم "البلوك تشين" وتتخذ بالفعل خطوات حاسمة لهذا الدعم".
وأشارت إلى إطلاق "صندوق الرموز الرقمية"، وهو مختبر لاختبار حلول جديدة تعتمد على تكنولوجيا دفتر الأستاذ الموزع لإصدار وتداول وتسوية الأوراق المالية في بيئة منظمة حية.
ولفت تقرير الشبكة الأميركية إلى أنه "على الرغم من أن بريطانيا تدفع قدماً بعدد من المقترحات التنظيمية بشأن العملات الرقمية، إلا أن الجميع غير مقتنعين بأنها يمكن أن تصبح مكاناً عالمياً مهماً لهذه التكنولوجيا".
وفي هذا السياق، قال ستيفن بارتليت، وهو رجل أعمال بريطاني مشهور بسلسلة بودكاست "يوميات الرئيس التنفيذي"، في نقاش جانبي في حدث "الدفاع عن العملات الرقمية"، "لا أعرف ما إذا كان لدينا صناع السياسة أو الحكومة أو الرغبة في المخاطرة أو الموقف المؤيد لريادة الأعمال للاستفادة حقاً من هذه الفرصة".
وتشير البيانات الصادرة عن هيئة السلوك المالي في المملكة المتحدة إلى وجود طلب متزايد على منتجات العملات الرقمية في البلاد - ارتفعت القيمة المتوسطة للعملات الرقمية التي يحوزها البريطانيون إلى 1842 جنيهاً إسترلينياً (2337 دولاراً) هذا العام من 1595 جنيهاً قبل عام، وفقاً لمسح أصدرته الهيئة التنظيمية الشهر الماضي.
كما نشرت هيئة السلوك المالي خارطة طريق تفصيلية لخطة تنفيذها لتنظيم صناعة العملات الرقمية. ستطلق الهيئة الرقابية أوراق نقاش حول العملات المستقرة ومنصات التداول والإقراض والرهن على مدى العامين المقبلين، مع استعداد نظام تنظيمي كامل للبدء بحلول عام 2026.
ونقلت الشبكة الأميركية عن توم دوف غوردون، نائب رئيس السياسة الدولية في كوينبيس: "إن المملكة المتحدة يجب ألا تسمح بأن يتباطأ الزخم التنظيمي بشأن العملات الرقمية، بعد فوز ترامب بالانتخابات، توجد فرصة هائلة للمملكة المتحدة لتحقيق نجاح كبير في هذا المجال، لكننا نحتاج إلى وضوح تنظيمي".
ودافع السياسي الجمهوري عن منصة سياسية مؤيدة للعملات الرقمية بشكل صارخ، متعهداً بعدم بيع عملة البيتكوين التي تمت مصادرتها من قبل الحكومة الفيدرالية وأنه سيستبدل رئيس هيئة الأوراق المالية والبورصة الحالي غاري غينسلر، "الذي اتخذ نهجاً تنفيذياً عدوانياً ضد مختلف شركات العملات الرقمية أثناء قيادته.
ويؤكد ستيفن بارتليت أن المملكة المتحدة تتمتع بفرصة مذهلة للعمل بحزم حقيقي في اتجاه الابتكار، وقال: "إذا فعلنا ذلك بالطريقة التي تبدو عليها الولايات المتحدة بشكل طبيعي، فلن نجد أنفسنا مستفيدين من تكنولوجيا البلوك تشين أو الذكاء الاصطناعي - يمكننا أن نلعب دوراً مهماً حقاً في التأكد من أن قيمة هذه التقنيات تعود إلى هذا البلد. ولكن يجب أن يكون ذلك جذرياً".
بين الطموح والمنافسة العالمية
في حديث خاص لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، أكد الدكتور نضال الشعار، الخبير الاقتصادي وكبير الاقتصاديين في شركة "ACY"أن المملكة المتحدة كانت من بين أوائل الدول التي اعترفت بالعملات الرقمية وسمحت بتداولها ضمن قيود مريحة، مشيراً إلى أن الإفصاح يلعب دوراً جوهرياً في هذا المجال. وأضاف: "في عام 2023، اعتبرت الحكومة البريطانية العملات الرقمية ملكيات فردية دون منحها صفة العملات، وأصدرت في 2024 قانون الأصول الرقمية الذي رسخ هذا التصنيف."
ورغم إعلان الحكومة البريطانية في عام 2022 عن خطتها لجعل البلاد مركزاً عالمياً للعملات الرقمية، إلا أن التطورات على صعيد قواعد التداول الرقمي كانت محدودة خلال العامين الماضيين. وبيّن الدكتور الشعار أن التداول في بريطانيا ظل محصوراً في عدد من الشركات المحلية، بينما استحوذت الولايات المتحدة وبعض الدول الآسيوية على الحصة الأكبر من السوق.
وعلى صعيد المنافسة العالمية، أشار الخبير الاقتصادي الشعار إلى أن فكرة تحول بريطانيا أو دول أوروبية مثل فرنسا وألمانيا إلى مركز عالمي للعملات الرقمية تتعارض مع طبيعة هذه العملات، التي تتمثل في حريتها وقدرتها على التداول دون قيود جغرافية. وأضاف: "المنصات يمكن أن تكون في أي مكان، ولكن التداول الرقمي يعتمد على الحرية والسيولة الهائلة، وهو ما يمثل جوهر العملات الرقمية."
وفيما يتعلق بالمشهد الأميركي، لفت كبير الاقتصاديين في شركة “ACY" إلى أن إدارة الرئيس دونالد ترامب، التي تتبنى الآن موقفاً داعماً للعملات الرقمية وسلاسل الكتل (البلوك تشين)، قد تغير ديناميكيات السوق العالمية. وأضاف أن اختيار إيلون ماسك، مالك شركة "تسلا"، ليكون مستشاراً لترامب في مجالي التكنولوجيا وكفاءة الدولة، قد يعزز من زخم الولايات المتحدة لتصبح مركزاً لهذه التقنيات.
وأكد أن الولايات المتحدة تولي أهمية أكبر لصناعة سلاسل الكتل كداعم رئيسي للعملات الرقمية، مشيراً إلى الجهود الجارية لوضع ضوابط وقواعد للإصدار والتداول، بما في ذلك تفكير الاحتياطي الفيدرالي بإنشاء عملة رقمية تخص البنك المركزي الأميركي.
وعلى الرغم من مكانة بريطانيا كواحدة من أهم الأسواق المالية العالمية، التي تشهد تداولات ضخمة مثل الذهب، يرى الشعار أن بريطانيا لن تكون منافسة لأي دولة أخرى، بل ستشارك في تطوير منصات التداول وإطلاق عملات جديدة، مستفيدة من مجالين رئيسيين هما التداول داخل المملكة ومن خلال تراخيص "الأوف شور" خارجها.
وختم الشعار بالتأكيد على أن العملة الرقمية ولدت واقعياً في الولايات المتحدة، ما يمنحها ميزة كبيرة في قيادة هذا المجال، بينما لا تزال طموحات بريطانيا لتحقيق ريادة عالمية في هذا القطاع بعيدة المنال في الوقت الراهن.
التدابير البريطانية تتسبب بهجرة شركات العملات المشفرة
من جهته، قال الخبير الاقتصادي والمالي، على حمودي، المختص بالشأن البريطاني، في حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية": "لا أعتقد في الوقت الحالي أن المملكة المتحدة تمثل أي تهديد للولايات المتحدة أو غيرها من مراكز العملات المشفرة مثل الإمارات العربية المتحدة وسنغافورة، وفي الاندفاع العالمي لاحتضان البتكوين، تنفذ المملكة المتحدة تدابير تتسبب عن غير قصد في هجرة الشركات المرتبطة بالعملات المشفرة. بينما تمضي الولايات المتحدة قدماً في التبني المؤسسي، مما يسمح لكيانات مثل بلاك روك بدعم منتجات البتكوين، فإن اللوائح الصارمة في المملكة المتحدة تخنق شركاتها".
وأضاف حمودي: "لقد رأينا شركات العملات المشفرة تبتعد بشكل متزايد عن المملكة المتحدة، مشيرة إلى العمليات التنظيمية المرهقة والمستهلكة للوقت كعامل رئيسي للابتعاد عن المملكة المتحدة، فقد انخفضت التسجيلات لبورصات الأصول المشفرة ومقدمي محافظ الحفظ المشفرة لدى هيئة السلوك المالي في المملكة المتحدة (FCA) بنسبة تزيد عن 50 بالمئة في السنوات الثلاث الماضية".
وأعربت العديد من الشركات عن مخاوفها من أن المملكة المتحدة تطبق أطر تنظيمية عفا عليها الزمن على صناعة سريعة التطور، مما يخنق الإبداع ويدفع الشركات إلى ولايات قضائية أكثر ملاءمة للعملات المشفرة مثل الولايات المتحدة. وليس من المستغرب أن يهدد هذا الاتجاه طموحات المملكة المتحدة لترسيخ نفسها كمركز عالمي للأصول الرقمية، بحسب حمودي الذي أوضح أنه من السابق لأوانه التأكيد لمن سيكون المركز الأول للعملات المشفرة عالمياً.
ونوه بأنه من الصحيح الاعتقاد بأن التنظيم الأخف في عهد ترامب سيكون جيداً لسعر البتكوين والعملات المشفرة الأخرى. وقد يشمل أيضاً مفاهيم مفادها أن الحكومة ستكون مستثمراً كبيراً في البتكوين، وهو ما سيكون نعمة ونقمة في نفس الوقت.
ويرى المختص في الشأن البريطاني أن زيادة إضفاء الطابع المؤسسي على أحد الأصول التي تتمثل أعظم فضيلتها في افتقارها المزعوم للمؤسسات سيكون مشكلة، في حين أن وجود لاعب كبير يقلل من تعويم البتكوين القابل للتداول بسهولة من المرجح أن يزيد من التقلبات ويجعل من الصعب استخدامه كوسيلة للتبادل مثل العملات الورقية العادية.