تستمر دول العالم في التسابق لتبني تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي التوليدي، التي تعتبر عصب التقنية الحديثة، حيث تسعى الدول الكبيرة مثل أميركا والصين وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، إلى تحقيق الريادة في هذا المجال، لأسباب اقتصادية واستراتيجية، فمن يتفوق ويسبق في تطوير الذكاء الاصطناعي التوليدي سيكون قائد التحول الثوري الذي ينتظر العالم في السنوات القليلة المقبلة.
وفي وقت يسعى فيه الكبار إلى الإستئثار بهذه التكنولوجيا، تخطط جزيرة صغيرة في البحر الأبيض المتوسط، لكي تكون "الزعيم غير المتوقع" للذكاء الاصطناعي في العالم، إذ تهدف جزيرة مالطا إلى نشر هذه التكنولوجيا على نطاق واسع على أراضيها، باعتبارها علاجاً يساعدها في تخطي جميع المشاكل التي تعاني منها.
وقد لا تتبادر إلى أذهان الكثير، أن دولة صغيرة مثل مالطا، تمتلك قدرات كبيرة على صعيد التكنولوجيا، ولكنها بالفعل هي كذلك، حيث تشتهر هذه الجزيرة الصغيرة الواقعة في البحر الأبيض المتوسط، باللوائح المتساهلة التي تساعد شركات الإنترنت وخصوصاً التي توفّر خدمة ألعاب الميسر والمقامرة، على تجنب الضوابط التي تفرضها الدول الأخرى، كما حاولت مالطا في 2018 على أن تظهر نفسها مرتعاً للتكنولوجيا الصاخبة، عبر تصنيف نفسها على أنها "جزيرة بلوكتشين"، من خلال تقديم إطار تشريعي مبكر لتلك التكنولوجيا.
قفزت مبكراً إلى عربة الذكاء الاصطناعي
وقبل عدة سنوات من ظهور ChatGPT، قفزت مالطا في 2019 وركبت في عربة الذكاء الاصطناعي، حيث وضعت حكومة البلاد في عهد رئيس الوزراء السابق جوزيف موسكات، خريطة طريق طموحة تهدف إلى جعلها "منصة إنطلاق للذكاء الاصطناعي" بحلول عام 2030، ونصت الخطة على ضرورة الاستثمار في الشركات الناشئة، بالإضافة إلى الضغط على القطاعين العام والخاص، من أجل تبني أدوات الذكاء الاصطناعي.
ولكن ظهور وباء كوفيد-19 أوقف جهود الحكومة المالطية، الرامية إلى إدخال الذكاء الاصطناعي في قطاعات، مثل الرعاية الصحية والتعليم والتمويل، ومما زاد الأمور تعقيداً، استقالة رئيس الوزراء جوزيف موسكات في أوائل عام 2020، ليتولى روبرت أبيلا المنصب من بعده، ويضاعف منذ ذلك الحين احتضان البلاد للذكاء الاصطناعي.
ذكاء اصطناعي من أجل الصالح العام
وكشف أبيلا في تصريحات أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، أن بلاده يمكنها تسخير قوة الذكاء الاصطناعي من أجل الصالح العام، وليس من أجل الخوف منه ككارثة قادمة، مؤكداً للقادة الأوروبيين أن مالطا تقوم بذلك بالفعل.
قدرات مالطا في الذكاء الاصطناعي
وتحتضن مالطا حالياً أكثر من 50 شركة ناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي، وفقاً لشركةTracxn Technologies للأبحاث، وهو عدد ليس بالقليل بالنسبة لبلد يبلغ عدد سكانه حوالي 500 ألف نسمة.
وتشمل قائمة الشركات مؤسسات مثل Ebo، التي تصنّع وكلاء خدمة عملاء افتراضيين، وSmartCow، التي تقدم خدمات ذكاء اصطناعي يمكنها اكتشاف الحوادث والمخالفات المرورية.
وتحاول الشركات والمؤسسات والمدارس في جميع أنحاء مالطا، وبدعم من الحكومة ترسيخ مكانة البلاد كزعيم غير متوقع للذكاء الاصطناعي، على أمل أن تساعدها هذه التكنولوجيا في حل التحديات الوجودية التي تواجهها، مثل المخاطر الناتجة عن تغير المناخ، وحاجة البلاد إلى جذب المزيد من الاستثمار الأجنبي، إضافة إلى سد الفجوة الشديدة في المهارات.
كما لجأت مالطا إلى الذكاء الاصطناعي، لمحاولة الحفاظ على لغتها الفريدة، ومراقبة مياهها الساحلية بطائرات بدون طيار تعمل بالذكاء الاصطناعي، وهي قامت بتكييف المناهج الدراسية، بما يتماشى مع هذا التوجّه، في حين تعتمد شركة GO وهي شركة الاتصالات الرائدة في مالطا، وواحدة من أكبر الشركات العامة في البلاد، بشكل متزايد على الذكاء الاصطناعي للتعامل مع المهام اليومية، حيث تعمل أدوات الذكاء الاصطناعي الآن، على إنشاء حوالي 20 بالمئة من إجمالي المحتوى التسويقي للشركة، وحوالي 30 بالمئة من التعليمات البرمجية المكتوبة.
وقد كشف نيخيل باتيل، الرئيس التنفيذي لشركة GO، أن الذكاء الاصطناعي هو الوحيد القادر على مساعدة الشركة، في الهروب من لعنة فقدان المواهب، في إشارة إلى ظروف التوظيف في الجزيرة التي تفتقر إلى المحامين والمحاسبين والمبرمجين.
ميزة تنافسية استراتيجية
ويقول الكاتب والمحلل المختص بالتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي ألان القارح، في حديث لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن مالطا تسعى بالفعل لأن تكون نقطة لإنطلاق الذكاء الاصطناعي نحو العالم، وهي من أوائل الدول التي راهنت على ما تحمله هذه التكنولوجيا من مستقبل واعد، وذلك حتى قبل ظهور مفهوم الذكاء الاصطناعي التوليدي في نهاية عام 2022، فهي أقرت في عام 2019 "استراتيجية ورؤية الذكاء الاصطناعي"، مع هدف بتحقيقها كاملة في عام 2030، مشيراً إلى أن هذه الاستراتيجية تهدف إلى حصول مالطا، على ميزة تنافسية استراتيجية في الاقتصاد العالمي، وذلك اعتماداً على ثلاث عوامل تمكينية، تشمل تعزيز الاستثمار والابتكار والتبني.
هل يمكن لمالطا تزعّم الذكاء الاصطناعي؟
ويكشف القارح أن مالطا قامت أيضاً بإعداد البنية التحتية اللازمة، التي تؤمّن إنتشار تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في البلاد، وذلك فيما يتعلق بتعليم وإعداد القوى العاملة، تحضير الإطار القانوني والأخلاقي، إضافة إلى تحضير البنية التحتية للنظام البيئي المرتبط بهذه التكنولوجيا، ولكن ورغم ذلك فإن البلاد عانت من نكسات في أحلامها المتعلقة بالذكاء الاصطناعي، كونها لا تمتلك القدرات الكافية التي تتيح لها مواكبة التطورات السريعة التي تحصل في مجال الذكاء الاصطناعي، مقارنة بدول مثل أميركا والصين، مؤكداً أن ما هو محسوم أن مالطا لا يمكن أن تكون وبأي شكل من الأشكال "الزعيم غير المتوقع للذكاء الاصطناعي" فإمكاناتها أقل بكثير من ذلك.
قدرات غير كافية
يشرح القارح أن عصب تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي التوليدي، موجود حالياً في يد أميركا، حيث أن معظم الشركات الرائدة في تطوير هذه التكنولوجيا، هي أميركية من أوبن أيه آي ومايكروسوفت الى ميتا وغوغل، كما أن أميركا تسيطر على صناعة الرقائق المتطورة، التي بدورها تشغل تقنيات الذكاء الاصطناعي من خلال شركة إنفيديا، في حين أن مالطا لا تملك أي شركة يمكنها مجارات ما تحققه الشركات الأميركية في هذا المجال، مشدداً على أن الولايات المتحدة الأميركية من قطاع خاص وعام، تخصص مئات المليارات من الدولارات كاستثمارات لدعم تطوير تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، في حين أن المبالغ التي ترصدها مالطا، لا تشكل سوى جزءاً صغيراً في بحر الأموال، التي تم رصدها أميركياً أو حتى صينياً.
نقطة قوة
وبحسب القارح فإن القدرات التي تملكها مالطا من ناحية البنية التحتية، وإعداد الجيل الجديد للتعامل مع هذه التكنولوجيا وتحضير النظام البيئي، يمكن أن تجعلها من اسرع الدول تبنياً واستفادةً، من القدرات التي تتيحها تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي التوليدي، وهذه نقطة قوة تحسب للدولة الصغيرة، يبلغ عدد سكانها نحو 530 ألف نسمة فقط، لافتاً إلى أن وجود هذا العدد القليل من السكان، يجعل من الصعب جداً على الشركات الوصول إلى مجموعة متنوعة من المواهب الماهرة، ولذلك فإن دخول الذكاء الاصطناعي إلى سوق العمل في هذه الدولة، سيساعدها على تخطي عقبة اساسية، لناحية توسيع وتنمية قدراتها الاقتصادية والاستفادة مما تقدمه هذه التكنولوجيا في هذا المجال، والتي تطال مختلف أنواع الصناعات والخدمات وتؤمن بدائل للموظفين في سوق العمل.
من يتزّعم الذكاء الاصطناعي؟
ويؤكد القارح أن تزّعم الذكاء الاصطناعي عالمياً، سيكون محصوراً بين معسكرين، الأول بقيادة أميركا وبدعم من حلفائها، والمعسكر الثاني بقيادة الصين وحلفائها، مع ترجيح بأن تكون الغلبة لصالح المعسكر الأول الذي يسيطر على الكثير من نقاط القوة في هذا السياق.