في الوقت الذي كانت فيه ردود الأفعال على التوترات الأخيرة في منطقة الشرق الأوسط طفيفة، إلا أن الاقتصاد العالمي ليس بالقوة التي تمكّنه من مواجهة أزمة جديدة.
هذا ما أكده المفكر الاقتصادي رئيس كلية كوينز بجامعة كامبريدج، محمد العريان، في مقال له بصحيفة "فاينانشال تايمز" البريطانية، تحت عنوان "الأسواق ضفدع مغلي في إناء إيران وإسرائيل".
ونظرية الضفدع المغلي، التي يشير إليها العريان في مقاله، هي استدلال شائع الاستخدام، لتصوير أثر التغيرات البطيئة والتدريجية مقارنة بالتغيرات المفاجئة والسريعة.
تفترض تلك النظرية بأنه عند وضع ضفدع في ماء مغلي، فإنه سوف يقفز فوراً (محاولاً الهرب)، بينما إذا تم وضعه في الماء بدرجة حرارة مناسبة ثم تسخين الماء ببطء، فإن الضفدع لن يقفز حتى بعدما يصير الماء مغلياً بعد تسخينه ببطء، إلى أن يموت.
في تصور العريان، فإنه "عند مقارنة ردود فعل الأسواق بوجهات نظر غالبية خبراء الأمن القومي، فلا يسعني سوى تذكر قصة الضفدع في الماء المغلي".
وثمة اختلاف بين خبراء الأمن القومي والأسواق المالية في ماهية ما سيحدث تباعاً على صعيد التصعيد الأخير للتوترات بين إيران وإسرائيل.
بينما التساؤل عمن يكون المُصيب في نهاية المطاف بتداعيات بالغة، ليس فقط على الشرق الأوسط غير المستقر بالفعل، وإنما أيضاً على رفاهة الاقتصاد العالمي، واستقرار نظامه المالي.
- تخطى كلا الجانبين (إيران وإسرائيل) الكثير من الخطوط. وهاجم البلدان بعضهما بعضاً مباشرة للمرة الأولى في التاريخ، بدلاً من مجرد استخدام العملاء بالوكالة وضرب أهداف في بلدان ثالثة.
- فعلت طهران ما لم يكن من الممكن تصوره، فوجّهت عدداً كبيراً من الصواريخ والطائرات المسيرة نحو إسرائيل، رداً على الهجوم الإسرائيلي في دمشق الذي راح ضحيته عدداً من المسؤولين الإيرانيين.
- الرد الانتقامي الإسرائيلي جاء يوم الجمعة، بعد تحذيرات صريحة من جانب وزير الخارجية الإيراني من أن بلاده سترد على الفور إذا ما هوجمت بصورة مباشرة.
رد فعل الأسواق
يقول العريان، إنه على الرغم من كل هذا، كان رد فعل الأسواق هادئاً ومضبوطاً نسبياً. وبدلاً من تسعير التداعيات السوقية الناجمة عن تصعيد طويل المدى للتهديدات الجيوسياسية والمخاطر الأكبر غير المُتوقعة، المتمثلة في ارتفاع كبير وطويل الأمد بأسعار النفط، سارع المتداولون إلى تهدئة التحركات الأولية في الكثير من أسعار الأصول.
يشمل هذا النفط، وهو السعر الدولي الأكثر حساسية حتى الآن، فاختتم تعاملات يوم الجمعة الماضي دون المستويات المُسجلة قبل الرد الانتقامي الإيراني الأول على هجوم تل أبيب على القنصلية.
ولم تتمكن تلك الأسعار من الحفاظ على مكاسبها الأولية بسبب الأنباء الحديثة عن الاستجابة الإسرائيلية.
- يمكن لعواقب هذا التناقض بين وجهات نظر السوق والخبراء أن تتخطى الاستقرار الإقليمي.
- يرتبط الأمر مباشرة بأربع مسائل تحدث عنها صندوق النقد الدولي هذا الأسبوع، معتبراً إياها مهمة للرفاهة الاقتصادية العالمية والاستقرار المالي. وتتمثّل هذه المسائل في الآتي: النمو غير الكافي، وثبات التضخم، وغياب مرونة السياسة، والضغوط المرتبطة بالتباين الدولي الأكبر في النواتج الاقتصادية ووضع السياسات.
- في حين يستطيع الاقتصاد العالمي مجابهة عثرة مؤقتة، إلا أن هشاشته لن تمكّنه من التعاطي مع وصدمة اقتصادية كبيرة جديدة.
- جولة إضافية من التصعيد العسكري بين إيران وإسرائيل من شأنها تقويض النمو العالمي المنخفض والهش بالفعل، ما سيدفع بتضخم السلع إلى الارتفاع في وقت يظل فيه تضخم الخدمات مرتفعاً للغاية.
- ليس ذلك فحسب، بل ستفرض مطالبات على السلطات المالية والنقدية، التي استنفدت بالفعل قدراً كبيراً من مرونتها السياسية ويتوفر لديها مجال محدود للتحرك.
الركود التضخمي
ويضيف العريان في مقاله بصحيفة فاينانشال تايمز البريطانية: في الوقت ذاته، فإن توزيع صدمة الركود التضخمي هذه سيفاقم من التباينات الاقتصادية والمالية، التي تسفر بالفعل عن قدر من الضغوط على النظام العالمي.
ورسم السيناريوهات المتوقعة في هذا السياق، على النحو التالي:
- سيتعرض اثنان من المحركات المُحتملة للنمو العالمي، وهما الاقتصادات الأوروبية والاقتصاد الصيني المُجهدين بالفعل، لصدمة كبيرة نسبياً، بالنظر إلى اعتماديتهما الكبيرة على الطاقة المُستوردة.
- سيزداد تراجع تضخم الولايات المتحدة صعوبة بوقت يتسم فيه التقدم نحو تقليص ضغوط الأسعار بأنه مخيب للآمال هذا العام، ما سيكون مثبّطاً أكبر لتخفيض الاحتياطي الفيدرالي المبكر لأسعار الفائدة.
- سيتمتع الدولار الأميركي القوي بمزيد من المكاسب، مما يقوّض الوساطة التجارية والمالية.
- تزداد علاوات المخاطرة في ظل تدهور الأوضاع الاقتصادية والجيوسياسية. يؤدي هذا بدوره إلى ارتفاع تكاليف الاقتراض عما كانت لتكون عليه الأمور لولا هذه التطورات.
تتصف هذه الاعتبارات بأهمية أكبر عند الوضع في الاعتبار ما لم يحدث في المناوشات المتبادلة الأخيرة بين إيران وإسرائيل.
ويستطرد: سواء كان ذلك مقصوداً من عدمه، لم يتكبّد أي من الطرفين أضرار كبيرة على المستويين البشري والمادي. علاوة على ذلك، لم تستغل إيران كثيراً عملائها بالوكالة في المنطقة، وفي هذه الحال كان ليكون هجوماً أكثر شمولاً على إسرائيل. وفي الوقت ذاته، لم تهاجم إسرائيل المواقع النووية الإيرانية في ضربتها، ولم تستجب أيضاً للضغوط من أقرب حلفائها، خاصة الولايات المتحدة وبريطانيا، لتبني درجة أكبر من ضبط النفس وتخفيف التصعيد.
اختلال التوازن النسبي
ينبئ كل هذا بتحوّل هائل في الديناميكيات بين هذين البلدين. والأكثر أهمية من ذلك، فقد غيّر هذا من اختلال التوازن النسبي المستقر، الذي عزف فيه كلا الجانبين عن شن هجمات مباشرة، وتحوّلا عوضاً عن ذلك إلى اختلال توازن غير مستقر ولا يمكن التنبؤ به، طرأت فيه سوابق وخيمة وصارت لدى كل طرف منهما مزيد من الأسباب لتصعيد التوترات.
وعند مقارنة رد فعل الأسواق بوجهات نظر غالبية خبراء الأمن القومي، فلا يسعني سوى تذكر قصة الضفدع في الماء المغلي.
ويختتم العريان حديثه، قائلاً: لا شك في أن الجولة الأخيرة من المناوشات بين إيران وإسرائيل تخطت الكثير من الخطوط وعززت من حرارة التوترات الجيوسياسية في المنطقة لأمد طويل. ومع ذلك، فيبدو أن الأسواق حريصة على تجاهل هذا الأمر، إذ تشعر بارتياح تجاه عدم وصول الأمور بعد إلى درجة الغليان، وتتمثل هذه في وقوع خسائر بشرية كبيرة وأضرار مادية في الجولات الانتقامية تلك، وهي نقطة كانت لتسبب اختلالات اقتصادية ومالية بالغة. من الممكن أن رد الفعل هذا كان شديد الهدوء عند الوضع في الاعتبار أنها منطقة عُرضة للوقوع ضحية للأخطاء في الحكم، وعدم كفاية فهم الخصوم، فضلاً عن حوادث التطبيق.
تفسيرات مختلفة
من لندن، قال خبير اقتصاديات الطاقة، نهاد إسماعيل، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن هناك عدة تفسيرات مختلفة وراء تجاهل الأسواق موجة التصعيد الأخير المتمثل في الهجوم الإيراني والرد الإسرائيلي عليه، ومنها تبدد المخاوف من التصعيد، وأن كلا الطرفين قاما بالتقليل من حجم الضربات (..).
وذكر أن أسواق النفط في نهاية تعاملات الأسبوع الماضي يوم الجمعة الماضي ارتفعت 3 دولارات للبرميل لخام برنت إلى 89.55 دولار، عقب الضربة الإسرائيلية في إيران، وبعد تقليل طهران لخطورة الضربة الإسرائيلية تراجعت الأسعار وخسرت المكاسب أي تقلصت علاوة المخاطرة، وأغلقت العقود الآجلة لخام برنت القياسي على 87 دولاراً للبرميل وكذلك أغلق خام غرب تكساس الوسيط عند التسوية عند 83 دولاراً، موضحًا أن علاوة المخاطر الجيوسياسية تتأرجح بين 5 و 10 دولارات.
واستبعد حدوث تصعيد كبير بين إيران وإسرائيل، وكذلك ارتفاع الأسعار إلى 100 دولار للبرميل، ولكن قال "إذا فعلاً حدث تطور دراماتيكي وقامت إسرائيل مثلا بضرب منشآت ومرافق نفط وغاز إيرانية قد تتفاعل الأسواق وتتجه أسعار النفط شمالا إلى أعلى من 100 دولار".
ورأى أن السيناريو الأشد خطراً هو أن تقوم إيران باستهداف ناقلات النفط التي تشحن نفط العراق والكويت والسعودية والإمارات إلى أسواق آسيا وأوروبا والتي تعبر مضيق هرمز، متوقعاً أنه آنذاك قد تصعد الأسعار إلى 120 دولاراً أو 130 دولاراً للبرميل.
وأكد أن إغلاق مضيق هرمز الذي يبحر خلاله 21 مليون برميل يوميا أي 20 بالمئة من الاستهلاك اليومي العالمي للنفط سيكون تطوراً خطيراً جداً مما سيؤدي إلى رد فعل أميركي. لكنه استبعد هذا السيناريو كون إيران لن تستطيع أن تغامر بإغلاق المضيق وتدرك عواقبه الوخيمة.
وعدد العواقب الاقتصادية لمثل هذه التصعيدات، ومن بينها: ارتفاع التضخم وتباطؤ النمو الاقتصادي الأوروبي والأميركي، ووقوع أزمات طاقة في آسيا خاصة في الصين التي تستورد ما يزيد عن 11 مليون برميل يوميا معظمه من دول أوبك العربية وأيضا من إيران.
ارتفاع الأسعار
وإلى ذلك، أكد كبير الاقتصاديين في شركة ACY المالية في أستراليا، نضال الشعار، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، أن أي صدام عسكري مباشر في منطقة مليئة بمنتجي ومصدري البترول من شأنه أن يكون له تأثير على أسعار النفط.
وأوضح أن التأثير على أسعار النفط في هذا الحال يكون بشكل غير مباشر لناحية ارتفاع تكاليف الشحن والتأمين، وليس من ناحية الإنتاج والتصدير كما حدث في العام 1973 أثناء المقاطعة العربية، إضافة إلى ذلك أن إنتاج إيران البترول القابل للتصدير يمكن بسهولة تعويضه من دول أخرى.
وفي سياق متصل، أشار الشعار إلى أن العالم يعلم أنه ليس من مصلحة إيران أن تكون في مواجهة مباشرة، في ظل تشتت قواتها في صراعات جانبية مثل العراق وسوريا واليمن، وأنها أضعف من أن تخوض صراعاً عسكرياً مباشراً مع دولة قوية عسكرياً مدعومة من الغرب مثل إسرائيل، فهي حتما غير قادرة على ذلك وهي تعلم أنها ستكون وحيدة في هذا الصراع فلن تقف معها روسيا أو الصين أو دول أخرى.
وأضاف: المجتمع الدولي يستبعد هذا الصراع بشكل خاص بعد الدروس الواضحة التي تعلمها من الحرب في أوكرانيا، والتي أدت إلى خسائر للاقتصاد الروسي وهي دولة أكبر وأقوى بكثير من إيران وتواجه خصما أضعف بكثير من إسرائيل، فهناك نوع من الحكمة تشكلت تمنع من حدوث صدام كبير نظراً لتقدير الدول قوة التأثيرات الكارثية على هكذا الصراع.
وشدد كبير الاقتصاديين في شركة ACY المالية في أستراليا على أنه:
- في كل مرة نشهد فيها مواجهة جانبية كالتي نشهدها حاليا سوف تحدث ارتفاعات وانخفاضات في أسعار المواد البترولية والذهب.
- التخوف من هذه المواجهات هو عنصر أساسي من عناصر الاقتصادات كلها.. والانخفاضات والارتفاعات هنا تمثل أمراً طبيعياً، بما يتناسب مع حجم الصراعات وتقدير الدول لها.
- مع استبعاد الحرب المباشرة وانخراط أطراف كثيرة في حربٍ عالمية من المستبعد أن نشهد تقلبات حادة طويلة الأجل في أسعار النفط.
- دول العالم أغلبها حاليا غير جاهزة للدخول في صراع كما حدث في أربعينات القرن الماضي.
- الدول حاليا أكثر حكمة ومصالحها الاقتصادية أكبر من الدخول في صراعات عسكرية، خاصة وأنها صراعات شبه سياسية ليست على أرض أو على الامتداد والتوسع باستثناء الحرب في اوكرانيا.