استفادت ألمانيا بشكل كبير من العلاقات الاقتصادية مع الصين، إذ أصبحت بكين شريكاً تجارياً رئيسياً للألمان في عديد من القطاعات الأساسية. ومع أن هذه العلاقة قد جلبت فوائد اقتصادية عديدة، فإنها تثير أيضاً مخاوف بشأن التبعيات الاقتصادية المحتملة لهذا الاعتماد المفرط.
تتجلى خطورة هذا الاعتماد المفرط عندما يتعرض الاقتصاد الألماني لتقلبات في اقتصاد الصين، سواء بسبب عوامل داخلية مثل التغيرات السياسية أو الاقتصادية في بكين، وكذلك بسبب التحولات العالمية التي تؤثر على تدفقات التجارة.
بالإضافة إلى ذلك، تزيد المخاوف بشأن التبعيات الجيوسياسية، ومع النفوذ الصيني المتصاعد، ومخاوف توظيف بكين قوتها الاقتصادية والسياسية كوسيلة للضغط (على نهج روسيا فيما يخص صادرات الغاز على سبيل المثال).
ومن هنا تنظر عديد من الشركات الألمانية، إلى حقيقة أن خطورة الاعتماد المفرط على الصين كسوق ومورد رئيسي لا يمكن تجاهلها، وأنه يتعين على الأطراف المعنية اتخاذ خطوات حاسمة لتقليل هذه الاعتمادية وتعزيز المرونة في الاقتصاد الألماني والشركات الألمانية.
اعتماد الشركات الألمانية على الصين
في هذا السياق، نقل تقرير نشرته صحيفة "فاينانشال تايمز" البريطانية، عن المدير المالي لمجموعة سيمنز لتكنولوجيا البرمجيات، رالف توماس، حديثه عن المأزق الذي يواجه الشركات الغربية (لا سيما الألمانية) واعتمادها على بكين كسوق وكذلك كمورد.
- سوف يستغرق الأمر "عقوداً" حتى تتمكن الشركات المصنعة الألمانية من تقليل اعتمادها على الصين.
- لقد تطورت سلاسل القيمة العالمية على مدار الخمسين عاماً الماضية.. لا يمكن الاعتقاد بأنه يمكن تغيير ذلك الأمر في غضون ستة أو 12 شهراً.. المسألة تحتاج إلى عقود.
تأتي تلك التعليقات في أعقاب تقرير صادر عن المعهد الاقتصادي الألماني، وجد أن الشركات في البلاد لم تحرز سوى تقدم ضئيل في "التخلص من المخاطر" في تعرضها للصين وتقليل اعتمادها على الواردات الحرجة منذ العام 2022.
وتعد الصين أكبر شريك تجاري منفرد لألمانيا، حيث بلغ إجمالي حجم تداول السلع بين البلدين 254 مليار يورو بين البلدين في العام 2023، وفقاً لوكالة الإحصاء الألمانية.
العلاقة، التي تمتد بين أكبر المجموعات الألمانية بما في ذلك فولكس فاغن وباسف إلى الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم في البلاد، كان يُنظر إليها منذ فترة طويلة على أنها ركيزة للقوة الاقتصادية للبلاد ونموذج للعولمة.
العلاقات الألمانية الصينية
يشير الكاتب المتخصص في الشؤون الصينية، حسين إسماعيل، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إلى أن الاقتصاد الألماني متأثر حالياً بشكل كبير بكل التوترات الجيوساسية؛ سواء كانت الحرب في أوكرانيا وكذلك الصراع في منطقة الشرق الأوسط، وقد ظهر هذا التأثر على مستوى الطاقة وسلاسل التوريد.
ويضيف: هناك تفاهم ألماني صيني مميز، وهذا ما نتج عنه تعزيز ألمانيا من تعاونها مع بكين خلال الفترات الماضية، وذلك لعدة أسباب:
- الصين اقتصاد نشط يحقق معدلات نمو مرضية.
- لا توجد خلافات بين ألمانيا (أكبر اقتصاد في أوروبا) والصين (ثاني أكبر اقتصاد في العالم).
- الصين بالنسبة للشركات الألمانية مكان جيد للاستثمار.
واستطرد: "ألمانيا تتمتع بعلاقة مميزة مع الصين وتضع خلافات الولايات المتحدة مع الصين جانباً في هذه العلاقة.. وهذا ما أظهره استطلاع للرأي أجري منذ شهرين أظهر أن الشركات الألمانية العاملة في الصين أظهرت رغبتها في زيادة استثماراتها هناك بشكل كبير".
ويشدد إسماعيل على أن الصين تحرص على أن تكون علاقتها بدول الاتحاد الأوروبي وعلى رأسها ألمانيا وفرنسا دافئة، عوضاً عن العلاقات المتوترة مع الولايات المتحدة، مؤكداً أن اعتماد الكثير من الشركات الألمانية على نسبة ليست بالقليلة من المواد الأولية القادمة من الصين في صناعتها لا يشكل تهديداً للاقتصاد الألماني، بسبب:
- الصين في علاقتها الخارجية لم يسبق لها أن استخدمت مواردها كورقة ضغط على أي اقتصاد.
- أظهرت التحليلات التي أجرتها مراكز البحث الصينية خلال العام الأخير مناشدة الحكومة الصينية بتعزيز علاقتها مع شعوب الاتحاد الأوروبي، معتبرين أن مستقبل الصين في علاقة قوية مع دول الاتحاد الأوروبي.
تحذيرات ومواقف متضاربة
وكان البنك المركزي الألماني، قد حذر العام الماضي من أن الاعتماد المفرط على الصين هو السبب في أن "نموذج الأعمال الألماني في خطر". وفي شهر يوليو الماضي، دعت وزيرة الخارجية الألمانية، أنالينا بيربوك، الشركات الألمانية إلى تقليل اعتمادها على الصين.
فيما كان مسؤول حكومي ألماني قد قال في وقت سابق: "نريد توسيع التجارة مع الصين بشكل أكبر، مع الأخذ في الاعتبار الحاجة إلى الحد من المخاطر والتنويع.. سيكون من سوء الفهم الفادح الاعتقاد بأن نية هذه الحكومة الرغبة في خفض التجارة مع الصين"، حسب ما نقلته صحيفة فاينانشال تايمز البريطانية.
وأضاف: "فيما يتعلق بالتبعيات الحرجة، علينا معالجتها. لا نريد الانغلاق على أنفسنا، لكننا نريد أن تكون لدينا شراكات متوازنة".
وقدر تقرير منفصل صدر هذا الأسبوع عن معهد كيل أن دعم بكين لصناعاتها المحلية، بما في ذلك شركات مثل BYD، تراوح بين ثلاثة إلى تسعة أضعاف دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية الأخرى.
وفي هذا السياق، قال المدير المالي لمجموعة سيمنز لتكنولوجيا البرمجيات، إن الشركة قررت أنها "لا تستطيع تحمل عدم التواجد في الصين". وأضاف أن صعود المنافسين المحليين الشرسين كان بمثابة "تحدي"، مشيراً إلى أنه "إذا كنت تستطيع تحمل حرارة المطبخ الصيني، فأنت ناجح في أماكن أخرى أيضاً".
وفي افتتاحية الأسبوع الماضي لصحيفة غلوبال تايمز المملوكة للدولة، حول زيارة وفد ألماني لبكين، أقرت بأن العلاقة بين البلدين "تواجه بعض التحديات، مثل الوصول إلى الأسواق والمنافسة العادلة". وأضافت: "ومع ذلك، لا ينبغي أن تكون هذه التحديات ذريعة لإخراج التعاون الثنائي عن مساره الإيجابي".
معضلة الاقتصاد الألماني
من برلين، يقول منسق العلاقات الألمانية العربية في البرلمان الألماني، خبير العلاقات الدولية، الدكتور عبد المسيح الشامي، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن الاقتصاد الألماني يعاني حالياً من عدة عوامل تجعله على شفا مرحلة "الانهيار الاقتصادي"، من بين تلك العوامل ما يلي:
- شح الموارد وقلة الشركاء الذين كانت تعتمد عليهم برلين تحديداً في تشغيل اقتصادها.
- حرمان ألمانيا مما كانت تستفيد منه من روسيا قبل قطع العلاقات خصوصاً من الطاقة والمواد الأولية، على سبيل المثال ألمانيا كانت تحصل على النفط والطاقة الروسية بأسعار رمزية وتبيعها إلى كامل الاتحاد الأوروبي وتربح أضعاف ما تربحه روسيا نفسها، فهي كانت بمثابة المالك الحقيقي لمصادر الطاقة الروسية!
- ارتفاع حجم الإنفاق على قطاع الدفاع، من خلال زيادات لم تكن موجودة في السابق، خصوصاً وأنه قطاع يحتاج إلى استثمارات ضخمة، وهذا ما نجم عنه ارتفاع حجم المخصصات بشكل كبير جداً (بما أثر على الإنفاق على قطاعات أخرى).
- تراجع الدخل بشكل كبير، وكذلك تقلص حجم الطبقة المتوسطة في ألمانيا، وهو ما تزامن أيضاً مع حالات إفلاس الشركات التي طفت على السطح أخيراً.. وهذا ما نتج عنه تراجع كبير في حجم الطبقة المتوسطة التي كانت تعتمد عليها الحكومة الألمانية في جباية الضرائب لدعم الاقتصاد.
- ارتفاع أسعار المواد الأولية أضعافاً مضاعفة، مقارنة بما كانت تحصل عليه ألمانيا قبل الحرب في أوكرانيا.
وبعد استعراض "معضلة الاقتصاد الألماني" على ذلك النحو، يتطرق الشامي إلى العلاقة بين ألمانيا والصين بشكل خاص، قائلاً إنه مع قطع العلاقات مع ألمانيا وروسيا بصورة عملية عززت برلين اعتمادها بشكل كبير على الصين في تدبير المواد الأولية اللازمة لصناعتها، بينما الدور الذي كانت تلعبه روسيا في الاقتصاد الألماني خصوصاً فيما يتعلق بالتبادل التجاري لم تستطع أية دولة تعويضه.
وأضاف: "الولايات المتحدة الأميركية نفسها لم تقدم أي شيء للاقتصاد الألماني، بل إنها أخذت منه الكثير وسحبت منه عناصر قوته.. على سبيل المثال الكثير من رؤوس الأموال انتقلت إلى أميركا عبر برامج لإغراء الكثير من رجال الأعمال للانتقال من ألمانيا إلى أميركا (..)".
وتتعدد مخاطر الاعتماد الألماني على الصين وأطراف دولية أخرى، بما يعزز من حجم المعضلات التي تواجهها الشركات الألمانية واقتصاد برلين بصفة عامة.
وفي تقدير الشامي، فإن المخاطر الحقيقية التي تواجه الاقتصاد الألماني حالياً في هذا السياق تتمثل في تراجع قدرة الدولة على تأمين احتياجات الاقتصاد الألماني من المواد الأولية بشكل مستقل. علاوة على عدم قدرة الحكومة الألمانية على تمويل الأولويات الاقتصادية كما كان في السابق بسبب الاستنزاف الكبير للموارد بعد الحرب في أوكرانيا والأزمة الاقتصادية التي حدثت نتيجة العقوبات الاقتصادية التي فرضت من قبل أوروبا والغرب على روسيا وانعكست سلبا على الاقتصاد الألماني.