يحلم الكثير من الأشخاص باليوم الذي يمكنهم فيه التخلي عن وظيفتهم بعد بلوغهم سن التقاعد، ما يتيح لهم تخصيص كل أوقاتهم للقيام بالعديد من الأمور بعيداً عن العمل، وهذا ما تشجع عليه ممارسات التخطيط المالي النموذجية، التي تدعو الأفراد للاستعداد للتقاعد، والتعامل مع أموالهم بطريقة، تسمح لهم بتكوين مدخرات كافية، لتحقيق أحلامهم المؤجلة بعد سنوات الانشغال بالعمل.
ولكن ما اختبره الكثير من الأشخاص بشكل مباشر، هو أن التقاعد ليس دائماً خياراً جيداً كما كانوا يعتقدون، فالتوقف عن العمل بشكل نهائي، يمكن أن يصبح غير مُرض بمجرد أن يصبح حقيقة، وهذا ما يدفع الكثير من الخبراء حالياً، إلى التسويق لفكرة أن التقاعد ليس دائماً الحل الأفضل، خصوصاً إذا كان الفرد يحب ما يفعله ويعيش حياته بشكل صحيح، ويتمتع بصحة جيدة، حيث إنه ليس بالضرورة أن يمنحنا التقاعد ما عجزت عنه سنوات الانشغال بالعمل.
سمنة واكتئاب ووفيات
ويرى بعض الخبراء أن العمل يمكن أن يكون مفيداً للصحة، من خلال المحافظة على النشاط العقلي للإنسان، طالما أنه عمل غير مرهق أو متطلب للغاية، مستندين إلى عدة دراسات طبية، أثبتت وجود آثار صحية ضارة، ناجمة عن التقاعد، بما في ذلك زيادة معدلات الإصابة بالسمنة، والاكتئاب وحتى معدلات الوفيات، في حين أن البقاء في حالة نشاط والتزام، يمكن أن يدعم الصحة العقلية والجسدية في سن التقاعد.
وتتعدد نتائج الدراسات التي تربط بين الاستمرار في العمل، والتمتع بصحة جيدة، فبحسب دراسة نشرت نتائجها سابقاً، مجلة علم الأوبئة وصحة المجتمع البريطانية، وتتعلق بسوق العمل في أميركا، تبين أن تأخير سن التقاعد سنة واحدة، ساهم في انخفاض خطر الوفيات بنسبة 11 بالمئة لدى المتقاعدين الأصحاء، لتستنتج الدراسة أن حياة العمل الطويلة، قد توفر فوائد البقاء على قيد الحياة بين البالغين في الولايات المتحدة، في حين أظهرت دراسة أجرتها جامعة بادوفا الإيطالية، وجود ارتباط قوي وإيجابي بين التدهور المعرفي وسنوات التقاعد.
وتقول دراسة جامعة بادوفا، إنه ليس لحالة التقاعد في حد ذاتها أي تأثير على التدهور المعرفي، ولكن السنوات التي يمضيها الفرد في التقاعد، لها تأثير لناحية الانخفاض الكبير في الإدراك وتطور التدهور المعرفي لديه، هذا إضافة إلى نتائج دراسات أخرى، أظهرت أن الكثير من الناس يتباطأون عندما يتقاعدون، وتترسخ لديهم العادات السيئة، عندما لا يضطرون إلى الاستيقاظ والعمل كل يوم.
التقاعد أمر غير صحي
ويقول المستشار المصرفي بهيج الخطيب، في حديث لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن التقاعد بالمعنى التقليدي، أي التوقف عن العمل تماماً، وبغض النظر عن الأثر المالي، هو بالفعل أمر غير صحي، فمثلاً إذا كانت خطتك للتقاعد هي ترك العمل لمشاهدة المسلسلات والأخبار، وتصفح المجلات ووسائل التواصل الاجتماعي، فلن تحصل على تقاعد جيد، من الناحية الجسدية والعاطفية، فعلى المستوى الجسدي، غالباً ما يتسبب هذا النوع من التقاعد في انخفاض في النشاط، مع فقدان الحافز المسبب للنهوض من السرير والتحرك كل يوم. أما على المستوى العاطفي، فغالباً ما يؤدي التقاعد التقليدي، إلى الانفصال والعزلة الاجتماعية، مع عدم رؤية زملاء العمل كل يوم، الذين يعتبرون المصدر الرئيسي للتفاعل الاجتماعي والتحفيز الذهني.
ويرى الخطيب أن المطلوب في العصر الحالي، هو إعادة صياغة فكرة التقاعد، ولكن مع ترك الخيار لكل فرد بتحديد ما يريده، إذ لا يمكن الطلب من الأشخاص الذين يشعرون بالتعاسة الشديدة في حياتهم المهنية، الاستمرار في وظائفهم، فلا يجب فهم خطوة عدم التوقف عن العمل حتى عند بلوغ سن التقاعد على أنها خطوة إجبارية، ولكن في الوقت نفسه يوجد أشخاص تفوق أعمارهم الـ 65 عاماً مفعمون بالحياة والطاقة، يعتبرون أن التقاعد سيكون له أثر سلبي للغاية على وظائفهم المعرفية والجسدية مع تقدمهم في العمر، في حين أن العمل يبقيهم مندفعين.
التدرب المبكر على حياة التقاعد
وشدد الخطيب على وجوب أن يقوم كل شخص يفكر في التقاعد، بالتدرّب المبكر على هذه الفكرة، من خلال تقييم نمط الحياة المتوقع في تلك المرحلة، مع ما يتناسب مع وضعه المالي، حيث يساعده هذا الأمر في معرفة ما إذا كان مستعداً، وبإمكانه بالفعل تحمّل المرحلة الجديدة من حياته، بعيداً عن الأمور التي اعتاد القيام بها يومياً، مع الأخذ في الاعتبار أن سنوات العمل بعد عمر التقاعد المفترض، لن تكون كسابقاتها من ناحية التوتر والادخار والعمل الجاد، بل هي ستكون أكثر توازناً بين العمل والترفيه.
وختم الخطيب بأن هناك دراسات طبية، أثبتت أن الإنسان يصل إلى قمة عطائه بعد بلوغه سن السبعين والثمانين عاماً، نتيجة تراكم الخبرات والعلم، واكتمال دماغ الإنسان، ما يجعله مبدعاً، ولديه فكر قيادي وإداري.
التقاعد ضمانة
من جهته، يقول الخبير السابق في صندوق النقد الدولي منير راشد، في حديث لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن مفهوم التقاعد بمختلف أنواعه، لا يجب أن يلغى، لكونه يشكل ضمانة للأشخاص الذين يبلغون عمراً معيناً، أنه سيكون لديهم تعويض أو معاش تقاعدي، وذلك في حال لم يكونوا قادرين على العمل، مشيراً إلى أن الدراسات التي تظهر أن تأخير سن التقاعد، يساهم في انخفاض خطر الوفيات والتدهور المعرفي، تتوقف نتائجها على المنطقة الجغرافية التي تشملها الدراسة، والمجالات المتوفرة أمام الفرد في تلك المنطقة وأسلوب الحياة هناك.
وشدد راشد على أن التقاعد لا يعني أن الفرد لم يعد بإمكانه القيام بعمل آخر، حيث يجب الإبقاء على خيار العمل لفترة أطول، كخيار شخصي غير ملزم، ويتوقف على رغبة الشخص، لافتاً إلى أن التقاعد في أميركا أصبح موضوعاً اختيارياً، بعدما كان سن التقاعد هناك محدداً بـ 65 عاماً، ففي الولايات المتحدة يمكن تحديد سن ترك الوظيفة، من خلال التفاهم بين الشركة والموظف، حيث لا يمكن لأي من الطرفين أن يجبر الآخر على فعل أمر غير موافق عليه بهذا الشأن.
تأسيس عمل خاص بعد التقاعد
ولفت راشد إلى أن الكثير من الأفراد، ينتظرون موعد حلول سن التقاعد من وظيفتهم، حتى يتمكنوا من الانتقال بعدها، للقيام بعملهم الخاص مثل تأسيس بزنس صغير كمطعم أو متجر، أو حتى العمل كمستشارين بفضل الخبرة التي يمتلكونها، مع العلم أن هناك أشخاصاً يعملون بطاقة أكبر، عند الانتقال إلى عملهم الخاص بعد التقاعد، لكونهم يقومون بالعمل الذي يؤمنون أو يحلمون به، مشدداً على أن فكرة الاستمرار في العمل تساعد بالفعل الإنسان، على أن يظل منخرطاً اجتماعياً، ومطلعا على ما يحصل في السوق، وهذا الأمر له تأثير إيجابي على الصحة الذهنية.