تعرض الاقتصاد المصري في السنوات القليلة الماضية، لعدد من الصدمات المتتالية، سواء لجهة الظروف والأوضاع الداخلية وكذلك ارتدادات الأزمات الإقليمية والدولية، والتي جعلته يواجه تحديات هائلة في مسعى للتعافي والخروج من أزمته الراهنة وإيجاد فرصة لحل الأزمات، وعلى رأسها أزمة السيولة الدولارية، وجميعها عوامل دفعت إلى خفض تصنيف مصر الائتماني من قبل وكالات التصنيف الرئيسية.
واحدة من أبرز التحديات التي واجهها الاقتصاد المصري كانت تداعيات جائحة كورونا، حيث أثرت الإجراءات الاحترازية والإغلاقات على الأنشطة الاقتصادية وتدني حجم الاستثمارات والتجارة الخارجية بشكل واسع.
بالإضافة إلى ذلك، تأثر الاقتصاد المصري بالتوترات الإقليمية والتطورات السياسية في العالم ومنطقة الشرق الأوسط، بما في ذلك تبعات الحرب في أوكرانيا وتأثيرها العنيف على أسعار النفط والمنتجات البترولية والقطاع السياحي والغذاء.
وجاء التصعيد في غزة ليضفي مزيداً من التحديات أمام اقتصاد البلد المثقل بالضغوطات المستمرة منذ سنوات، والتي يترجمها سعر صرف الدولار والذي يصل رسميا إلى دون الثلاثين جنيهاً، ويتراوح سعره في السوق السوداء (الموازية) بين 45 و 47 جنيها للدولار الواحد. بينما يُتوقع أن تلجأ مصر لتخفيض جديد لقيمة العملة بعد سلسلة التخفيضات منذ تحرير سعر الصرف في 2016.
خفض التصنيف
وتضغط أزمة كلفة الدين على الاقتصاد المصري، في وقت خفضت فيه وكالات تصنيف عالمية تصنيف البلاد الائتماني، آخرها وكالة "فيتش" التي خفضت تصنيف مصر إلى "B-" هبوطاً من "B"مع نظرة مستقبلية مستقرة، مع إشارة إلى زيادة المخاطر على التمويل الخارجي وارتفاع في الديون الحكومية.
- يعكس التخفيض زيادة المخاطر على التمويل الخارجي لمصر واستقرار الاقتصاد الكلي ومسار الدين الحكومي المرتفع بالفعل.
- بحسب تقرير الوكالة، فقد تعافى قطاع السياحة الرئيسي في مصر، والذي تضرر بشدة بسبب وباء كورونا، ولكن تم تعويض ذلك من خلال الارتفاع الحاد في أسعار الطاقة العام الماضي والارتفاع المستمر في تكاليف الاقتراض العالمية. وقد أدى هذا إلى زيادة القروض الخارجية للبلاد، والتي تضاعفت أربع مرات لتتجاوز 160 مليار دولار في السنوات السبع حتى عام 2022.
- تتوقع وكالة فيتش أن تساعد إيرادات السياحة وقناة السويس وانتعاش التحويلات في احتواء احتياجات التمويل من الواردات الأكبر حجما.
وفي أكتوبر الماضي، خفضت وكالتا التصنيف موديز وستاندرد آند بورز التصنيف الائتماني لمصر بدرجة واحدة أيضاً.
مرونة اقتصادية
على الجانب الآخر، فإن الحكومة المصرية، أكدت -على لسان وزير المالية، الدكتور محمد معيط- رداً على بيان الوكالة الأخير أن:
- الاقتصاد المصري لديه قدرة على توفير جميع الالتزامات التمويلية الخارجية، كما يحظى بمرونة كافية على مواجهة جميع التحديات الخارجية والداخلية المترتبة على الأوضاع الجيوسياسية، والتي تأتي في ظل صعوبة الوصول للأسواق المالية وارتفاع تكلفة التمويل بزيادة معدلات الفائدة.
- لدى مصر إمكانية الحصول على 5 مليارات دولار سنوياً من البنوك التنموية متعددة الأطراف بشروط ميسرة، والذي يؤكد على ثقة تلك المؤسسات الدولية في مسار الاقتصادي الذي تتبعه الحكومة المصرية في ظل وجود الأزمات العالمية الطاحنة.
أزمة الدين
وفي هذا السياق، يقول الخبير المصرفي المصري، محمد عبد العال، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن الدين الخارجي المصري بدأ يتصاعد خلال السنوات الماضية، سواءً بأرقام مطلقة أو بالنسبة لحجمه من الناتج المحلي، حيث وصل حجم الدين في نهاية الربع الأول من العام 2023 إلى 165.4 مليار دولار، مقارنةً بالربع الأول من العام 2021 والذي سجل نحو 134.8 مليار دولار، ثم ارتفع في بداية الربع الأول من العام 2022 حتى وصل إلى 157.8 مليار دولار، متوقعاً أنه لن تكون هناك أية زيادة كبيرة في الديون الخارجية بنفس وتيرة الـثلاث سنوات الماضية.
وعن أسباب ارتفاع الدين الخارجي، أكد الخبير المصرفي، أن هناك عديداً من الأسباب التي أدت إلى تفاقم الأزمة خلال السنوات الماضية، منها أحداث العام 2011، ثم تداعيات جائحة كورونا، ثم صدمة الحرب في أوكرانيا (..). وجميعها عوامل تضغط على الاقتصاد المصري، ولا سيما في ظل:
- استمرار التوترات بين حركة حماس وإسرائيل، والتي تؤثر على الاقتصادات بالمنطقة.
- استمرار خفض تنصيف مصر الائتماني، من خلال أكبر 3 وكلات ائتمانية في العالم وهما، وكالة ستاندرد آند بورز ومؤسسة موديز ومؤسسة فيتش، بما لذلك من تداعيات واسعة على رفع تكلفة الاقتراض.
- استمرار فجوة النقد الأجنبي التي تعاني منها البلاد.
لكن الخبير المصرفي، لفت إلى أن مصر حتى هذه اللحظة لم يثبت تعثرها عن الوفاء بسداد ديونها سواءً كان قسطا أو فوائد، وبالتالي فالبلد يوفي بالتزاماته الخارجية بشكل واضح رغم الضغوطات.
تداعيات خفض التصنيف
وفيما يتعلق بخفض وكالة فيتش لتصنيف مصر الائتماني من B إلى B-، وذلك مع الإبقاء على نظرة مستقبلية مستقرة، أشار عبد العال إلى أن:
- هذا التخفيض يأتي في سياق التقييمات السابقة التي أجرتها مؤسسة موديز ومؤسسة ستاندرد آند بورز أيضاً.
- الأسباب وراء هذا التخفيض تتمحور حول المخاطر المرتبطة بالتمويل الخارجي وعدم الاستقرار الاقتصادي العام في مصر.
- بطء تقدم الحكومة المصرية في تنفيذ برنامج الطروحات المالية، وعدم تنفيذ سياسة مرونة سعر الصرف، وتأخر المراجعات مع صندوق النقد الدولي، كلها أسباب تسهم في هذا التخفيض.
- من المتوقع ألا يكون هناك تأثير جديد على مصر جراء هذا التخفيض في تصنيف وكالة فيتش الائتماني.
ووافق صندوق النقد في ديسمبر الماضي، على قرض قيمته ثلاث مليارات دولار في إطار "تسهيل الصندوق الممدد" لمصر التي تتعرض لضغوط مالية قوية منذ انكشاف مشكلات طويلة الأمد بسبب التداعيات الاقتصادية للحرب في أوكرانيا.
ويخضع تقديم الدفعات ضمن البرنامج الذي تبلغ مدته 46 شهرا لثماني مراجعات، وكان من المقرر إجراء المراجعة الأولى في مارس لكنها لم تتم، وذلك في إشارة لعدم رضا الصندوق عن وتيرة الإصلاحات الاقتصادية.
ماذا ينتظر الاقتصاد المصري؟
من جانبه، قال مدير مركز مصر للدراسات الاقتصادية والاستراتيجية، الدكتور مصطفى أبوزيد، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن الاقتصاد المصري يواجه حالياً أزمة تتعلق بنقص السيولة الدولارية، موضحاً أيضاً أن الاقتصاد يعاني من ارتفاع في معدل التضخم، بالرغم وجود ارتفاع في مصادر الدولار والتي تتمثل في التالي:
- عائدات قناة السويس والتي تصل إلى 10 مليار دولار العام الجاري.
- الصادرات المصرية والذي وصلت إلى 53 مليار دولار.
- تدفق الاستثمار الأجنبي المباشر والذي وصل إلى 10 مليار دولار.
- إيرادات قطاع السياحة الذي وصل إلى 13 مليار دولار.
وأكد أن الاقتصادي المصري ما زال يتعرض إلى أزمة حقيقية؛ بسبب المتغيرات الاقتصادية الخارجية والمتعلقة بارتفاع أسعار الطاقة على خلفية تداعيات الأزمة الروسية الأوكرانية.
ومن ضمن المتغيرات التي أشار إليها مدير مركز مصر للدراسات الاقتصادية، التوترات بين حركة حماس وإسرائيل؛ التي تسببت في ارتفاع أسعار الغاز، إذ وصلت أسعاره إلى 52 يورو للميغاوات ساعة مقابل 32.5 للميغاوات ساعة قبل السابع من أكتوبر الماضي.
وأوضح أبو زيد، أن:
- تداعيات التصعيد بين حركة حماس وإسرائيل؛ أدت أيضاً إلى إغلاق حقل "تمار الإسرائيلي"، والذي كان يضخ إنتاجه إلى مصر وتتم عمليات الإسالة في المصانع المصرية ومن ثم تصديره إلى أوروبا والذي سيكون له آثار سلبية على الاقتصاد المصري.
- الأثار السلبية تتمثل في تراجع الكميات المصدرة من الغاز، مما يترتب عليه تراجع العائد من الدولار إلى جانب زيادة تكلفة الاستيراد من المواد البترولية والضغط على البنك المركزي المصري في توفير الدولار.
أبرز الفرص
لكنه على الجانب الأخر، شدد على أنه بالرغم من وجود تحديات أمام الاقتصاد المصري، لكن هناك عدداً من الفرص، وتتمثل في الآتي:
- أولاً: المضي قدما في تنفيذ برنامج الطروحات الحكومية (..).
- ثانياً: التوسع في دعم قطاع الصناعة المصري عبر الاهتمام باستراتيجية تعميق التصنيع المحلى.
واستكمل مدير مركز مصر للدراسات الاقتصادية والاستراتيجية: حملات المقاطعة الحالية جاءت فرصة ذهبية أمام المنتجات المحلية لتزيد من مساحتها السوقية عبر تزايد الطلب على المنتجات المحلية. ويسهم ذلك التوجه في تغير أنماط الاستهلاك، كما يؤدى إلى تخفيف الضغط على الطلب على الدولار، مما يعطى الاقتصاد المصري فرصة لزيادة مساهمة قطاع الصناعة في الناتج المحلى الاجمالي.
وسيعمل ذلك أيضاً على خلق المزيد من فرص العمل المباشرة وغير المباشرة وزيادة المعروض من المنتجات، وبما قد يدفع باتجاه وضع التضخم على مسار الانخفاض خلال الفترة المقبلة، حسبما أشار أبوزيد في تصريحاته.
تأثير العوامل الخارجية
من جانبه، أكد الخبير الاقتصادي، الدكتور علي الإدريسي، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" أن:
وضع الاقتصادي المصري يشبه الأوضاع الاقتصادية التي أصابت أغلب دول العالم، والتي تأثرت بسبب الصدمات الاقتصادية المتتالية، مثل تداعيات جائحة كورونا والحرب في أوكرانيا.
- الاقتصاد المصري، تعرض لبعض الأزمات الداخلية أيضاً بجانب الأزمات العالمية، إذ شهدت مصر عدم استقرار أمني وسياسي، لفترة بدأت من العام 2011 وحتى نهاية 2014 ما بين حرب على الإرهاب وعدم استقرار الوضع السياسي واندلاع ثورتين متتاليتين، ما كان له تأثير كبير في تفاقم الأزمة الاقتصادية.
- الحكومة المصرية وضعت خطة طموحة للإصلاح لاقتصادي بدأت من العام 2016، نتج عنها تحسن بشكل كبير في معدلات النمو وحجم الاحتياطي الأجنبي.
وقال البنك المركزي المصري، الأحد إن صافي الاحتياطيات الأجنبية لمصر ارتفع إلى 35.102 مليار دولار في أكتوبر من 34.97 مليار دولار في سبتمبر، بزيادة بقيمة 132 مليون دولار.
واستكمل الخبير الاقتصادي، أنه بعد التحسن الملموس للاقتصاد المصري، مع بذل مجهود للخروج من الأزمة، جاءت أزمة جائحة كورونا، والتي أدت إلى شلل كبير في الاقتصاد العالمي وحركة التجارة وزيادة الانفاق على قطاع الصحة.
وترتب عليها أيضًا توقف عديد من المصانع والمنشآت التجارية؛ بالإضافة إلى وضع إجراءات خاصة بحظر التجوال، مشيراً إلى أن الأزمات أثرت على الاقتصاد المصري خاصة على معدلات حركة النمو.
ومن العوامل التي أثرت على الاقتصاد المصري، كما ذكر الإدريسي، الأزمة المرتبطة بالحرب في أوكرانيا وتخارج أكثر من 20 مليار دولار من الأموال الساخنة، وتراجع كبير في سعر صرف العملة أمام العملات الأجنبية.
كما وصل معدل التضخم إلى مستويات 40 بالمئة مع الاستمرار في رفع أسعار الفائدة لكبح التضخم، بالإضافة إلى ارتفاع في فاتورة الدين الخارجي التي وصلت إلى نحو 165 مليار دولار مع تراجع النمو الاقتصادي الذي وصل في العام المالي السابق إلى نحو 3.8 بالمئة.
وأردف الإدريسي: التصعيد الأخير بين حركة حماس وإسرائيل، يؤدي أيضا إلى مزيد من الأعباء والأزمات على الاقتصادي المصري، متمثلة آثارها كالتالي:
- ارتفاع أسعار المواد البترولية والتي انعكست مؤخراً على ارتفاع أسعار البنزين في مصر بأكثر من 10 بالمئة.
- ارتفاع ملحوظ في أسعار سوق الذهب العالمي.
- بدء حملات المقاطعة لبعض المنتجات بدون دراسة واعية كافي بهوية المنتج الذي تتم مقاطعته ومعرفة مصدره إذا كان صنع في مصر أم منتج خاص بدولة أخرى لها دور في دعم إسرائيل، وبالتالي هي رسالة سلبية إلى الاستثمار الأجنبي في مصر.
وأوضح الخبير الاقتصادي، أن الحكومة المصرية في موقف صعب للغاية، ذلك أنها تتعرض لصدمات متتالية، خاصة أنها لا تنقل كافة الأعباء والصدمات على المواطن المصري، فتتحمل جزءاً منها، وبما يؤدي إلى ارتفاع في عجز الموازنة وفاتورة الدين، بينما يتم نقل بعض الآثار السلبية على المواطن من حيث الارتفاعات في السلع الأساسية والمحرقات والطاقة.
جهود الحكومة المصرية لمواجه الأزمة
وأضاف الإدريسي، أن الحكومة المصرية، أعلنت الخميس الماضي، خطة جيدة جداً مرتبطة بحالة من حالات التقشف والحد من النفقات الحكومية من حيث المشاركة في المؤتمرات واستخدام الوقود وإقامة المحافل وعمليات السفر "وهي خطوات مهمة لترشيد الانفاق والعمل على تقليل حجم المصروفات".
وأكد الخبير الاقتصادي، أن الحكومة مستمرة في توسيع برامج الحماية الاجتماعية سواءً على مستوى برنامج "تكافل وكرامة" ومن خلال الدعم المواجه للسلع التموينية والسلع الأساسية، بالإضافة إلى زيادة المعاشات والحد الأدنى للأجور، موضحاً أن ارتفاع معدلات التضخم بشكل كبير تؤثر سلباً على فاعلية الجهود الحكومية في تحقيق حماية اجتماعية وفي تحقيق رفع ملمس لمستوى معيشة المواطنين خاصة محدودي الدخل.
اختتم الخبير الاقتصادي حديثه، بقوله إنه يتعين على الحكومة المصرية، تقديم المزيد من الحوافز والضمانات للمستثمر المحلي، بجانب تنمية وعي المواطن على الاعتماد على ما يتم إنتاجه محلياً والعمل على تقليص فاتورة السلع المستوردة والتي يتوفر لها بديل محلياً، لدعم الاقتصاد المصري في ظل وجود تلك الأزمات.