ما فتئ رئيس لجنة الأوراق المالية والبورصات الأميركية، غاري غينسلر، الحديث عن مخاوفه الواسعة –مثله مثل عديد من المسؤولين عن الجهات الرقابية والتنظيمية بالأسواق- من أن تتسبب تطبيقات الذكاء الاصطناعي في "انهيار الأسواق"، محذراً من مخاطر الاعتماد على هذه التقنيات الناشئة في تقديم توصيات (استثمارية) وتنفيذ عمليات.
يتبنى غينسلر الرأي القائل بضرورة فرض المزيد من النظم القانونية والرقابية من أجل مواجهة أية مخاطر ناجمة عن توسع تطبيقات الذكاء الاصطناعي في أسواق المال، معتبراً أن الأدوات الرقابية حالياً "غير مهيأة" للقيام بذلك.
هذه المخاطر المرتبطة بالتوسع في استخدامات تطبيقات الـ AI في الأسواق المالية، ليست الوحيدة التي يُمكن أن تثيرها هذه التطبيقات في الأسواق؛ لجهة أن عديداً من علامات الاستفهام تفرض نفسها بشأن قضايا مرتبطة بتلك التقينات الناشئة، تخلقها الطفرة الواسعة لأسهم الشركات العاملة في هذا القطاع أيضاً، وسط مخاوف متصاعدة بشأن نُذر "فقاعة جديدة" قد تواجهها الأسواق على غرار "فقاعة الدوت كوم" السابقة.
تشترك تلك المخاوف في عامل واحد وهو زيادة التوقعات أو ربما المبالغة في التوقعات إزاء تطور ونمو الذكاء الاصطناعي، وإمكانية الدور الذي تلعبه التطبيقات في شتى مناحي الحياة، وبما يدعم التوقعات الإيجابية أيضاً بشأن أسهم الشركات العملاقة العاملة في هذا القطاع أيضاً، وجميعها أمور تؤثر في أسواق المال بشكل مباشر.
وبالتالي، فمن تأثيراتها في تحليل البيانات وربما توجيه المستثمرين، إلى تأثيراتها الأوسع نطاقاً فيما يخص طفرة الشركات العاملة بالقطاع ومسارعة الشركات الأخرى على تطوير نماذج خاصة تتفاعل معها الأسواق بصورة كبيرة، مروراً بالمخاوف المرتبطة بتطورات سوق العمل، فإن تقنيات الذكاء الاصطناعي تفرض مزيداً من الضبابية حول مستقبل "الأسواق"، بين انهيارات حتمية في نظر البعض، وطفرة وتطور مستمرين في نظر البعض الآخر.
تحولات في أسواق المال
يشير أخصائي التطوير التكنولوجي، هشام الناطور، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إلى أن تطبيقات الذكاء الاصطناعي لا تزال في بداياتها أو في مراحلها الأولية، وبالتالي من الطبيعي أن تواجه عديداً من التحديات في الأسواق، بينما الأبحاث تشير إلى أن الـ AI لديه القدر ة على أن يصنع تحولات كبيرة في أسواق المال وعمليات الاستثمار، مستفيداً من تلك البدايات، علاوة على استخدامه في الأسواق والتحليلات من خلال أتمتة العمليات (..) وبما يتيح للمستثمرين خيارات أوسع ويفتح مجالات استثمار مختلفة مبنية على البيانات.
وفيما يشير إلى إمكانات الذكاء الاصطناعي المختلفة وتطبيقاته في دعم توجهات المستثمرين وخلق فرص استثمارية من خلال تحليل البيانات وتقديم التقارير، إلا أنه يشدد على أن تلك البيانات والتحليلات قابلة للخطأ، وبالتالي هي لا توجه سلوك المستثمرين بقدر ما تقدم له تحليلاً للبيانات والاتجاهات.
ويلفت الناطور إلى الطفرة التي تحققها أسهم الـ AI بالأسواق العالمية، مع ارتفاع قيمتها بشكل ملحوظ خلال العامين الماضيين، وهي الطفرة التي تعود إلى عدة أسباب رئيسية، على رأسها:
- التقدم المستمر بالتقنيات الخاصة بالذكاء الاصطناعي، والتي تصير أكثر دقة وكفاءة.
- زيادة الطلب الناتج عن هذا التقدم، في مختلف المجالات، لا سيما التطبيقات التجارية، إذ بدأت عديد من الشركات في تبني تقنيات خاصة بها للتحسين من الإنتاج والجودة (..).
- ارتفاع توقعات المستثمرين بخصوص أداء شركات الذكاء الاصطناعي والتقدم المستمر، إذ صار لدى المستثمرين اعتقاد بأن الـ AI لديه القدرة على إحداث ثورة في مختلف المجالات، خاصة المجالات الاقتصادية.
- ضخ استثمارات ضخمة من قبل شركات التكنولوجيا العملاقة في الأسواق العالمية (ومن بينها ألفابيت وميتا وأمازون وإنفيديا.. وغيرهم) للاستثمار في تقنيات الذكاء الاصطناعي، وتحقيق عوائد كبيرة منها، وبما يخفف من مخاوف أن تكون طفرة الذكاء الاصطناعي "فقاعة جديدة".
- يُتوقع استمرار تلك الطفرة بشكل متنامي في المستقبل، لا سيما حتى حلول العام 2030.
- استخدام الشركات تقنيات الذكاء الاصطناعي في فهم سلوك العملاء، وبالتالي تقديم ما يلزم من خدمات بناءً على ذلك، وبما يعزز مكانة تطبيقات الـ AI بشكل واسع.
لكنّه في الوقت ذاته يلفت إلى الضغوطات التي يُمكن أن يسببها الذكاء الاصطناعي على الأسواق، بما في ذلك الضغوطات المرتبطة بتأثيرات هذا التقدم على سوق العمل، والخوف من فقدان الوظائف بالنسبة لعديد من العاملين في مجالات وصناعات مختلفة، في وقت يتيح فيه الذكاء الاصطناعي تطبيقات واسعة يخشى معها العاملون من أن تحل محل العنصر البشري، مع تنامي الشعور بأن الـ AI لديه كفاءة أكثر (..).
ويضيف: "صحيح أن الذكاء الاصطناعي أكثر تعقيداً من البشر ويمكنه العمل تحت الضغط، لكنه في الوقت نفسه ليس لديه القدرة على الفهم مثل العنصر البشري (..) وبالتالي يتعين وضع إجراءات وقواعد واضحة بشأن كيفية استخدام الذكاء الاصطناعي في العمل وخاصة فيما يتعلق بأسواق المال، لمساعدة العاملين والموظفين وتدريبهم على كيفية استخدام الاصطناعي لتطوير أعمالهم (..)".
انهيار الأسواق
ورداً على المخاوف المرتبط باحتمالات "انهيار السوق" التي عبر عنه رئيس لجنة الأوراق المالية والبورصات الأميركية وآخرون، قلل أستاذ الاقتصاد في جامعة جورج ماسون، تايلر كوين، في مقال له عبر شبكة "بلومبيرغ"، من تلك المخاوف، واصفاً إياها بكونها تنطوي على مبالغة كبيرة.
- فيما لم ينف احتمالية أن تتسبب تطبيقات الذكاء الاصطناعي في انهيار السوق على غرار عديد من الأحداث غير المتوقعة التي كانت السبب في هبوط الأسواق، إلا أنه في الوقت نفسه يمكن لـ AI أن يحد أيضاً من الأزمة.
- بينما أشار إلى واحدة من المخاطر التي تنطوي عليها تلك التطبيقات والممثلة في دفع المستثمرين – بسلوك القطيع- إلى اتخاذ قراراتهم الاستثمارية (بالبيع أو الشراء) بناءً على ما توصي به النماذج (الخاصة بالذكاء الاصطناعي)، إلا أنه يعول على زيادة عدد النماذج في المستقبل (في وقت لا يزال فيه القطاع في بداياته ويشهد حقبة ابتكارية)، ومع تأسيس شركات ناشئة، وبما يضمن التنوع لا التطابق.
- يتيح ذلك التنوع اعتماد الشركات على نماذج مختلفة عن بعضها البعض. ووفق كاتب المقال فإن "الشركات الكبرى ستحاول تطوير نماذج أفضل من النماذج الخاصة بمنافسيها فيما يتعلق بطريقة التنبؤ".
- التطوير المستمر للذكاء الاصطناعي من شأنه إحداث تغيرات جوهرية بالأسواق، قد تنجم عنها بعض الانهيارات المفاجئة.. لكن العامل المشترك هو أن السوق سوف تستخدم تقنيات التحليل الكمي لاكتشاف حركة الأسعار المؤقتة أو غير المبررة.
- هذا لا يعني أن تقنيات الذكاء الاصطناعي سوف تعمل بطريقة إيجابية دائماً، إلا أنه يمكن من خلال بعض خصائها تحقيق الاستقرار في الأسواق.
طفرة الذكاء الاصطناعي.. هل ثمة "فقاعة"؟
ويشهد عالم الذكاء الاصطناعي (AI) طفرة هائلة امتدت عبر عالم التمويل والاستثمار. وكانت شركات الذكاء الاصطناعي وأسهمها في طليعة هذه الثورة التكنولوجية، إذ كانت واعدة بالابتكارات والاختراقات التي يمكن أن تعيد تعريف الصناعات.
ومع ذلك، وفي ظل هذا النمو الهائل تأتي تساؤلات حول استدامة هذه التقييمات، واحتمال ظهور فقاعة استثمار، والآفاق طويلة المدى لشركات الذكاء الاصطناعي.
- شهد العقد الماضي طفرة غير عادية في شركات الذكاء الاصطناعي، سواء كانت شركات عملاقة أو شركات ناشئة سريعة الحركة، مما اجتذب المستثمرين المتحمسين لركوب موجة تطورات الذكاء الاصطناعي.
- تقدم هذه الشركات مجموعة واسعة من تطبيقات الذكاء الاصطناعي، بدءاً من معالجة اللغة الطبيعية ورؤية الكمبيوتر إلى المركبات ذاتية القيادة وحلول الرعاية الصحية.
- مع استمرار منتجاتها وخدماتها في تحويل الصناعات، ارتفع اهتمام المستثمرين، مما أدى إلى ارتفاع أسهمهم إلى آفاق جديدة.
الفرص والإمكانات
هذا ما يؤكده المستشار الأكاديمي في جامعة سان خوسيه الحكومية في كاليفورنيا، الدكتور أحمد بانافع، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، والذي يشير في الوقت نفسه إلى مجموعة الفرص والإمكانات التي تتمتع بها تقنيات الذكاء الاصطناعي في ذلك الصدد، بقوله إن نجاح ونمو شركات الذكاء الاصطناعي مدفوعًا بعدة عوامل، وهي:
- التكنولوجيا المتطورة: تمتلك شركات الذكاء الاصطناعي تكنولوجيا رائدة يتم تسخيرها في مختلف القطاعات، ما يعد بمكاسب في الكفاءة وتوفير في التكاليف.
- التبني العالمي: لا تقتصر حلول الذكاء الاصطناعي على مناطق أو صناعات محددة؛ لديها وصول عالمي، وجذب عملاء متنوعين.
- حماس المستثمرين: أظهر المستثمرون، الذين أدركوا الإمكانات التحويلية للذكاء الاصطناعي، حماساً واسعاً، ما أدى إلى زيادة النمو السريع في أسعار أسهم شركات الذكاء الاصطناعي.
- مرونة السوق: أدت جائحة كوفيد 19 إلى تسريع اعتماد الذكاء الاصطناعي في العمل عن بعد والرعاية الصحية والخدمات اللوجستية، ما سلط الضوء على مرونته خلال الأوقات المضطربة.
المخاطر والتحديات
ومع ازدهار الذكاء الاصطناعي، هناك مخاوف من احتمال تشكل فقاعة، يحددها الأكاديمي المتخصص في التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي واستخدامته، في معرض حديثه مع موقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، على النحو التالي:
الانفصال عن التقييم: يرى البعض أن تقييمات شركات الذكاء الاصطناعي أصبحت منفصلة عن بياناتها المالية الأساسية، ما يثير المخاوف من أن أسعار الأسهم قد لا تكون مستدامة.
المبالغة في التوقعات: غالباً ما تعاني صناعة الذكاء الاصطناعي من التوقعات المبالغ فيها. قد تكافح الشركات لتلبية المتطلبات العالية والجداول الزمنية غير الواقعية التي حددها المستثمرون.
المنافسة والاندماج: يتمتع قطاع الذكاء الاصطناعي بقدرة تنافسية عالية، ويبرز قادة السوق باستمرار. مع نضوج الصناعة، قد تواجه بعض الشركات الصغيرة تحديات في الحفاظ على نموها.
مستقبل شركات الذكاء الاصطناعي
وعلى الرغم من أن المخاطر حقيقية، إلا أن مستقبل شركات الذكاء الاصطناعي يبدو واعداً، على النحو الذي تتيحه المؤشرات التالية:
الابتكار المستمر: شركات الذكاء الاصطناعي هي في طليعة الابتكار، وتدفع باستمرار حدود ما هو ممكن. ويضمن هذا الالتزام بالبحث والتطوير أهمية الذكاء الاصطناعي في مختلف الصناعات.
توسع السوق: تستمر تطبيقات الذكاء الاصطناعي في التوسع، لتصل إلى قطاعات مثل الرعاية الصحية والتمويل والتعليم. ومع اعتماد المزيد من الصناعات لحلول الذكاء الاصطناعي، فمن المرجح أن ينمو الطلب على منتجات وخدمات شركات الذكاء الاصطناعي.
التنظيم والرقابة: مع نضوج تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، من المتوقع أن تتطور الأطر التنظيمية. ومن الممكن أن توفر القواعد التنظيمية الواضحة شعوراً بالاستقرار والقدرة على التنبؤ، وتخفيف المخاطر المرتبطة بالنمو غير المنضبط.
النضج والدمج: مع نضوج صناعة الذكاء الاصطناعي، قد نشهد الدمج مع استحواذ الشركات الكبرى على شركات ناشئة أصغر. وهذا يمكن أن يوفر للمستثمرين تعرضًا متنوعًا لقطاع الذكاء الاصطناعي.
ويختتم بانافع حديثه مع موقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، بقوله:
- يمثل ازدهار الذكاء الاصطناعي وارتفاع أسهم شركات الذكاء الاصطناعي لحظة فريدة في تطور التكنولوجيا والتمويل.
- في حين أن المخاوف بشأن الفقاعات والمبالغة في تقدير القيمة صحيحة، فمن الصعب إنكار إمكانات الذكاء الاصطناعي على المدى الطويل.
- مع استمرار شركات الذكاء الاصطناعي في الابتكار والتوسع في أسواق جديدة والتكيف مع التغييرات التنظيمية، فإن لديها القدرة على البقاء في طليعة صناعة التكنولوجيا.
- يتعين على المستثمرين توخي الحذر والبقاء على اطلاع على الشركات الفردية واتجاهات السوق الأوسع.
- إن الرحلة عبر ثورة الذكاء الاصطناعي تعد بالمخاطر والمكافآت، مما يجعلها ساحة مثيرة وديناميكية للمستثمرين وعشاق التكنولوجيا على حد سواء.