أطلق وزير المالية التركي، محمد شيمشك، تعهدات من أجل بناء احتياطيات ملائمة من العملة الصعبة، وذلك في خطٍ متوازٍ مع السياسات المالية والنقدية "الجديدة" التي تتبعها بلاده منذ ما بعد الانتخابات الرئاسية الأخيرة، ومع تعيين فريق اقتصادي جديد يحظى بمزيد من الثقة.
تعهدات شيمشك، والتي سبقتها تصريحات للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، طالب خلالها الأتراك بالتحلي بالصبر حتى انحسار الضغوط التضخمية التي تواجهها البلاد، جاءت في وقت أعلن فيه صندوق النقد الدولي عن تقديرات بتباطؤ نمو اقتصاد تركيا مع تراجع عجز الحساب الجاري في 2024، في ضوء سياسة التشديد النقدي التي لجأت إليها أخيراً.
وكتب شيمشك في رسالة على موقع "إكس"، يوم الجمعة بعد اجتماعه مع مجموعة من المستثمرين في العاصمة البريطانية لندن: "سوف نواصل تجميع الاحتياطيات الدولية بقدر ما تسمح به ظروف السوق".
وتحظى الإدارة الاقتصادية الحالية في تركيا بكثيرٍ من الثقة محلياً ودولياً، الأمر الذي يدفع بتعويل واسع من جانب الأتراك عليها في التصدي للأزمات الداخلية التي يعاني منها الاقتصاد التركي، وكذلك الصدمات الخارجية في المنطقة والعالم، وانعكاساتها المباشرة وغير المباشرة على القطاعات الاقتصادية المختلفة، لا سيما مع وجود تركيا في قلب منطقة مشتعلة بالأحداث.
فما مدى قدرة الاقتصاد التركي على امتصاص الصدمات؟ وهل ينجح شيمشك والمجموعة الاقتصادية الحالية في العبور باقتصاد تركيا والنجاة من الضغوط التضخمية الراهنة؟ ومتى يمكن أن يتحقق ذلك؟
الثقة.. العنوان الأبرز
يقول الكاتب الصحافي التركي، كريم اولكر، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن الفريق الاقتصادي الجديد "كان الخطوة الأكثر نجاحاً التي اتخذتها تركيا في السنوات القليلة الماضية.. إنها خطوة مهمة جداً أن يصبح محمد شيمشك، المعروف لدى الاقتصادات الأوروبية والخليجية، وزيراً للمالية، وتصبح حفيظة غاية أركان، المعروفة لدى الأسواق الأميركية والأوروبية والمنظمات الدولية، رئيسة للمركزي التركي".
ويضيف: "النقطة المشتركة بين هذين الاسمين هي الثقة"، مشدداً على أن "أول مثال عظيم على الشعور بالثقة في الأسواق الدولية تمثل في زيادة تركيا محفظتها الاستثمارية بـ 18 مليار دولار".
وكانت وكالة فيتش للتصنيف الائتماني، قد رفعت في وقت سابق، توقعاتها المستقبلية لاحتياطيات النقد الأجنبي في تركيا إلى "مستقرة" وأكدت تصنيفها عند B، قائلة إن تغيير السياسة الاقتصادية قد يقلل من عدم الاستقرار المالي الكلي على المدى القريب.
- صندوق النقد الدولي توقع تباطؤ نمو الاقتصاد التركي إلى 3.25 بالمئة في العام المقبل، مقابل 4 بالمئة في 2023.
- يتوقع الصندوق أيضاً تقلص عجز الحساب الجاري التركي إلى نحو 3 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي في 2024.
- رفع البنك الدولي، في وقت سابق، توقعاته لنمو الاقتصاد التركي للعام الجاري من 3.2 إلى 4.2 بالمئة.
- وكالة "ستاندرد آند بورز" للتصنيفات الائتمانية، عدلت الشهر الماضي نظرتها المستقبلية لتركيا من "سلبية" إلى "مستقرة"، وأرجعت هذا إلى التغيرات التي طرأت على السياسة التي تتبعها البلاد. وأبقت الوكالة في الوقت نفسه على التصنيف الائتماني للبلاد عند B.
وفيما يرى اولكر أن "الاقتصاد التركي لا يزال هشاً" إلا أنه يعتقد بأنه "صار أقوى وأكثر متانة رغم ذلك مقارنة بفترات سابقة"، ويمضي على الطريق الصحيح، رغم المشكلات التي تشهدها بعض البلدان التي ترتبط مع تركيا بعلاقات تجارية، ورغم الصدمات الخارجية بما في ذلك الحرب في أوكرانيا.
ويضيف: "الأزمات العالمية قد تمثل في أحد وجوهها فرصاً لتركيا.. تأثرت تركيا بهذه الأمور في الفترة الماضية، لكن الاقتصاد التركي يتمتع بالمرونة والمنتجون الأتراك لديهم هيكل سريع المفعول يمكنه التكيف مع المتغيرات".
ومن ثم يعتقد بأن "دفاع تركيا ضد الصدمات الخارجية قوي"، لكنه في الوقت نفسه يحذر من أثر حدوث مشكلة إقليمية مع إسرائيل (في ضوء الصراع الحالي بين الإسرائيليين والفلسطينيين وعملية طوفان الأقصى)، ويعتقد بأن ذلك من شأنه التأثير بشكل أو بآخر على بلاده، لا سيما فيما يتعلق بأسعار النفط وتداعيات ذلك على الحساب الجاري بالبلاد على حد قوله.
الضغوط التضخمية
من جانبه، يشير الباحث المتخصص بالشأن التركي، طه عودة أوغلو، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إن ثمة تطورات يشهدها الاقتصاد التركي تابعناها خلال الفترة الأخيرة بشكل واضح، لا سيما فيما يتعلق بالضغوط التضخمية التي أخذت في التباطؤ، صحيح أنها ترتفع لكنها جاءت أقل من تقديرات الخبراء.
ويضيف: "هنالك أيضاً بعض التطمينات من جانب الفريق الاقتصادي الجديد بأن الأمور في طريقها نحو التحسن، ولكن يلزم ذلك بعض الصبر من قبل الأتراك، خاصة في ضوء الجهود التي تبذلها الحكومة والفريق الاقتصادي بشكل خاص من أجل التعافي الاقتصادي".
- قبل شهر، نقلت ووسائل إعلام تركية، عن الرئيس أردوغان، قوله إن بلاده لا بد أن تتحلى بالصبر مع سعيها لخفض التضخم، بالنظر إلى التأثير المتأخر الذي سيظهر لاحقا لتشديد السياسات النقدية.
- ذكر أردوغان خلال حديثه مع صحفيين، أنه يأمل في رؤية تراجع "واضح جدا" في التضخم في غضون 12 شهرا، نظرا لأن السياسات الاقتصادية "ستستغرق بعض الوقت" لتحدث أثرا.
ويوضح أوغلو أن الأسابيع المقبلة مرشحة لتطورات مُهمة على الصعيد الاقتصادي، مع صدور بيانات النمو، علاوة على الاجتماع المرتقب للبنك المركزي.. ويستطرد: "في ضوء نتائج تلك الاجتماعات يمكن أن نرى صورة مختلفة عن تلك التي تابعناها من قبل".
وارتفع التضخم بعد أزمة العملة نهاية العام 2021 ولامس أعلى مستوى في 24 عاما عند 85.51 بالمئة قبل عام، في أكتوبر الماضي. وفقدت الليرة حتى الآن هذا العام 30 بالمئة تقريباً من قيمتها.
فيما بدأ معدل التضخم بلوغ ذروته بعد أن وقع الرئيس رجب طيب أردوغان على سلسلة من الزيادات الحادة في أسعار الفائدة التي وصلت إلى 30 بالمئة من 8.5 بالمئة في أربعة أشهر.
السياسات المالية والنقدية
ورغم أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان كان مؤيدًا طوال حياته للنظرية الاقتصادية غير التقليدية القائلة بأن أسعار الفائدة المرتفعة تسبب التضخم. لكنه عكس نهجه بعد فوزه في انتخابات صعبة في مايو تزامنت مع أسوأ أزمة اقتصادية خلال حكمه الذي استمر عقدين.
وفي اجتماعه الأخير، قرر البنك المركزي التركي، بقيادة حفيظة أركان، زيادة كبيرة أخرى في معدلات الفائدة، إلى 30 بالمئة، لأعلى مستوى منذ 22 عاما. وتأتي الزيادة الجديدة البالغة 5 بالمئة في أعقاب زيادة قوية قدرها 7.5 بالمئة في أغسطس الماضي والتي تجاوزت جميع التوقعات.
ويشدد أوغلو، على أن الخطة التي تتبعها الحكومة هي "تسير بخطى بطيئة لكنها صحيحة" طبقاً لتعبير كل من وزير المالية محمد شيمشك، ورئيسة المركزي حفيظة غاية أركان.
- تشير البيانات الرسمية إلى ارتفاع التضخم السنوي لأسعار المستهلكين في تركيا إلى 61.53 بالمئة في شهر سبتمبر الماضي (معدل أقل من المتوقع).
- سجل معدل تضخم أسعار المستهلكين 4.75 بالمئة على أساس شهري.
- وارتفع مؤشر أسعار المنتجين المحليين 3.40 بالمئة على أساس شهري في سبتمبر، مسجلا ارتفاعا سنويا بلغ 47.44 بالمئة وفقا لبيانات معهد الإحصاء التركي.
- تشير تقديرات صندوق النقد الدولي إلى أنه من المتوقع أن يتباطأ التضخم إلى 46 بالمئة بنهاية العام 2024 من 69 بالمئة في نهاية العام الجاري 2023.
الصدمات الخارجية
ويتطرق الباحث بالشأن التركي في معرض حديثه مع موقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إلى أثر التطورات الخارجية على الاقتصادي التركي وخطط المالية والمركزي، قائلاً: "دون شك، التطورات التي يشهدها العالم -لا سيما لجهة الحرب في أوكرانيا وتداعياتها- تؤثر على الجميع وليس على تركيا فقط.. هنالك أيضاً تهديدات تواجه تركيا بعد تفجير أنقرة والغارات في سوريا والعراق وملفات أخرى يمكن أن يكون لها تأثير على الاقتصاد".
وتبعاً لذلك يعتقد بأن "الأسابيع المقبلة دقيقة جداً وحساسة.. صحيح أنها على المستوى السياسي لكن تأثيراتها بشكل كبير سوف تتضح على المستوى الاقتصادي -إما سلباً أو إيجاباً- والحكومة تتعامل مع الحدث السياسي بدقة، حتى لا ينعكس سلباً على الوضع الاقتصادي".
نظرة متشائمة للمستقبل
من جانبه، يشير الكاتب الاقتصادي التركي، ناغي باكير، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" تعليقا على سعي وزير المالية لتأمين احتياطيات دولية ملائمة، إلى أنه "يستمر البحث عن الموارد الخارجية، ولكن لا توجد نتائج حتى الآن".
وبينما يشير لاتباع بلاده سياسة نقدية متشددة للحد من التضخم وعجز الحساب الجاري، إلا أنه يقول في الوقت نفسه: "ومع ذلك، أمامنا انتخابات محلية وعليه سيتم توزيع الأموال (زيادة الرواتب، وما إلى ذلك) على الشرائح الاجتماعية للحصول على الأصوات.. قبل الانتخابات المقررة في مارس المقبل، سيتم إجراء زيادات في الدخل لإرضاء العمال والموظفين المدنيين والمتقاعدين".
ويضيف: "وبعد ذلك، على العكس من ذلك، سيتم مواصلة تطبيق سياسة نقدية متشددة، وسيتم قمع الطلب المحلي بشكل غير عادي، كما سيتم تشديد مدفوعات الائتمان.. إلخ".
ويوضح أن التضخم وغيره من مؤشرات الاقتصاد الكلي لا تتحسن في بلد يستهلك أكثر مما ينتج، علاوة على ضعف الموارد والاستثمارات.
وبختتم حديثه بالإشارة إلى أن الصدمات التي يشهدها الاقتصاد العالمي "ستجعل الأمور أسوأ بالنسبة للاقتصاد التركي"، مردفا في الوقت نفسه: "لا توجد فرصة للاقتصاد التركي للتعافي مع نظام الرجل الواحد.. أنا متشائم بشأن المستقبل".