يتأثر الاقتصاد المصري بمجموعة من العوامل والتحديات الخارجية والداخلية المتزامنة، وبما يعزز الضغوط التضخمية التي تواجهها البلاد على نحو واسع.
وتُظهر أحدث بيانات معدلات التضخم الرسمية في البلاد، عن شهر أغسطس الماضي، ارتفاعاً بأعلى من المتوقع، بضغط من ارتفاع أسعار السلع الأساسية، لا سيما مجموعة الطعام والمشروبات التي عرفت ارتفاعاً بما يزيد عن 70 بالمئة.
وفيما يحبس المصريون أنفاسهم انتظاراً لجني ثمار السياسات النقدية المتبعة في كبح جماح التضخم، إلا أن ثمة عديد من التحديات التي تنتظرها الأسواق خلال المرحلة المقبلة، من بينها ارتفاع أسعار النفط وتأثيره على الأسعار المحلية.
ورغم معدلات التضخم المرتفعة، أقرت لجنة السياسة النقدية في البنك المركـزي المصري، يوم الخميس الماضي، تثبيت أسعار الفائدة.
- ارتفع معدل التضخم السنوي في مصر بأعلى من المتوقع، خلال شهر أغسطس الماضي، ليسجل 37.4 بالمئة، مقابل 36.5 بالمئة في يوليو، بحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
- ارتفعت الأسعار 1.6 بالمئة في أغسطس على أساس شهري، وذلك انخفاضاً من 1.9 بالمئة في يوليو و2.08 بالمئة في يونيو، وفق البيانات الرسمية.
- تشير البيانات المذكورة إلى أن أسعار الطعام والمشروبات، ارتفعت على أساس سنوي، بنسبة 71.9 بالمئة، مع زيادة أسعار اللحوم والدواجن 97 بالمئة، والخضروات 98.4 بالمئة والأسماك والمأكولات البحرية 86 بالمئة. كما ارتفعت أسعار الدخان 57.6 بالمئة.
- تشير بيانات البنك المركزي المصري، إلى أن التضخم الأساسي، الذي يستثني سلعاً أسعارها متقلبة مثل الغذاء والوقود، تراجع قليلا إلى 40.4 بالمئة من 40.7 بالمئة في يوليو و41 بالمئة في يونيو.
ذروة التضخم
مدير مركز رؤية للدراسات الاقتصادية، الخبير الاقتصادي الدكتور بلال شعيب، يقول في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إن معدلات التضخم في مصر وصلت ذروتها في ظل كونها تدور في فلك الـ 40 بالمئة، وثمة مخاوف من تداعيات أوسع في المرحلة المقبلة، لا سيما مع دخول فصل الشتاء بعيد شهور، وما يترافق معه من زيادات محتملة بأسعار النفط، الذي تجاوز الـ 90 دولاراً للبرميل الواحد أخيراً.
وكانت تقديرات المركزي المصري تشير إلى وصول معدلات التضخم في البلاد إلى ذروتها في النصف الثاني من العام الجاري، قبل أن تعاود الانخفاض تدريجياً نحو المعدلات المستهدفة، وذلك تبعاً للسياسات التي انتهجها المركزي لكبح جماح التضخم.
ويضيف شعيب: "تضاف إلى المخاوف المرتبطة باستمرار أسعار النفط في الارتفاع المخاوف المتعلقة بزيادة أسعار السلع الاستراتيجية، ومنها القمح، سواء بسبب آثار التغيرات المناخية ونقص المعروض من الحبوب في ضوء التطورات الجيوسياسية المرتبطة بالحرب في أوكرانيا، وبما يعني ارتفاع محتمل بأسعار عديد من السلع الاستراتيجية الأساسية".
ويوضح أن تلك المعطيات دفعت المركزي المصري، قبل نهاية الأسبوع الماضي، إلى الإبقاء على معدلات الفائدة دون تغيير، أملاً منه في حدوث استقرار في الوضع العالمي، وألا يأتي الشتاء هذا العام قارس البرودة في أوروبا وبما لا يشكل ضغطاً على أسعار النفط لزيادة الطلب.
ويعتقد شعيب بأن "تثبيت أسعار الفائدة خطوة إيجابية قد تسبق خطوة تخفيضها لاحقاً العام المقبل، لا سيما وأن الفائدة المرتفعة لها تأثير كبير على الأنشطة التجارية، على اعتبار أن المستفيد من مبادرات وبرامج البنك المركزي هو القطاع الصناعي، وليس التجاري، وبالتالي تحصل الأنشطة التجارية على تمويلات بفائدة مرتفعة، وبالتالي يتم تمرير الزيادة إلى المستهلكين وبما يمثل ضغطاً على معدلات التضخم".
- ثبتت لجنة السياسة النقدية في البنك المركـزي المصري، الخميس، سعري عائد الإيداع والإقراض لليلة واحدة، وسعر العملية الرئيسية للبنك المركزي عند مستوى 19.25 بالمئة، 20.25 بالمئة، و19.75 بالمئة على الترتيب. كما تم الإبقاء على سعر الائتمان والخصم عند مستوي 19.75 بالمئة.
- أوضح المركزي المصري في بيان أنه على الصعيد العالمي، فقد استمرت توقعات الأسعار العالمية للسلع وخاصة أسعار الطاقة في الارتفاع، مقارنة بالتوقعات التي تم عرضها على لجنة السياسة النقدية خلال اجتماعها في أغسطس 2023.
- كما ارتفعت توقعات معدلات التضخم العالمية على المدى القصير لتستمر عند مستويات تفوق المعدلات المستهدفة، وهو ما يشكل تحدياً لاستعادة استقرار الأسعار عالمياً، بحسب بيان المركزي المصري.
منتصف الأزمة
ويستطرد مدير مركز رؤية للدراسات الاقتصادية: "الأزمة تأخذ -مجازاً- شكل قوس، ونحن لازلنا في منتصف ذلك القوس.. يُنتظر أن تكون هناك انفراجة مع بداية العام المقبل ويحدث استقرار تدريجي على مستوى العالم وفق المؤشرات الراهنة التي تشير لحتمية احتواء الحرب في أوكرانيا مع تضرر الاقتصادات العالمية من تبعاتها الواسعة (..)".
وتواجه المالية العامة في مصر ضغوطات واسعة منذ سنوات، في خطٍ متوازٍ مع أزمة نقص العملات الأجنبية، ومع خسارة الجنيه المصري نحو نصف قيمته مقابل الدولار منذ مارس 2022.
وفيما تشهد السوق المصرية فجوة واسعة في أسعار صرف الدولار بين السوق الرسمية والسوق الموازية، تشير أحدث تقديرات "فيتش سوليوشنز" إلى خفض محتمل لقيمة العملة المصرية خلال الفترة المقبلة (قالت إنه سيكون في حدود 19.9 بالمئة، ليسجل الدولار مستوى مساوٍ تقريباً لقيمته الحالية في السوق الموازية بين 38 و40 جنيهاً).
اختلالات هيكلية
على الجانب الآخر، فإن مستشار البنك الدولي، استاذ الاقتصاد، الدكتور محمود عنبر، يقول في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إن حجم الضغوطات التي يعيشها المواطن المصري ربما هي أعلى من المعدلات الرسمية للتضخم الذي يتراوح في حدود ما بين 38 إلى 40 بالمئة في الأشهر الأخيرة.
يفسر ذلك بقوله إن ثمة خللاً هيكلياً في الأسواق الداخلية، لا سيما أن "أي شخص قادر على تخزين سلعة معينة يُمكن أن يحقق أرباحاً لا مثيل لها، بينما يظل تدخل الدولة سواء من خلال التسعيرة الجبرية أو الاستراتيجية أمر نظري لا يمكن تطبيقه على أرض الواقع في هذا السياق".
ويشير إلى أن التعامل مع أزمة ارتفاع الأسعار المحلية، يُمكن من خلال عاملين رئيسيين، ولكبح جماح معدلات التضخم الحالية، على النحو التالي:
- على المدى الطويل: العمل على زيادة الإنتاجية، من خلال المشاريع والاستراتيجيات الهادفة لدعم الإنتاج وزيادته.
- على المدى القصير: اتخاذ إجراءات لتعزيز المنافسة المحلية، عبر تشجيع الوحدات المحلية وصغار الموردين والمنتجين، عبر تخفيف القيود عليهم من بينها إجراءات التراخيص وخلافه.
ويعتقد عنبر بأنه ما إن لم يتم التعامل مع المشهد الراهن في سياق الإجراءات المطلوبة لدعم وزيادة الإنتاج المحلي بالحلول قصيرة وطويلة الأجل فإن "معدلات التضخم مرشحة لمزيد من الارتفاع".
ويشير مستشار البنك الدولي في الوقت نفسه إلى ارتفاع أسعار النفط بالأسواق العالمية (بعد تخطي حاجز الـ 90 دولاراً للبرميل وتوقعات الوصول لعتبة الـ 100 دولار قبل نهاية العام)، مشدداً على أنه من شأن ذلك الارتفاع أن يؤدي لموجة تضخمية أوسع، لارتباط الوقود الوثيق بمختلف محاور وقطاعات العملية الإنتاجية والنقل وخلافه.
"ومن المتوقع أن يتباطأ معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي لمصر خلال العام المالي 2022/2023 مقارنةً بالعام المالي السابق له اتساقاً مع تطورات المؤشرات الأولية للربع الثاني من عام 2023، على أن يعاود الارتفاع تدريجياً بعد ذلك على المدى المتوسط"، وفق بيانات البنك المركزي المصري.
الضغوط لن تنحسر قريباً
وإلى ذلك، يشير الخبير الاقتصادي، الدكتور مصطفى بدرة، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إلى أن معدلات التضخم في مصر لم تصل ذروتها بعد، موضحاً أن "نسب التضخم المعلنة سواء من البنك المركزي وجهاز التعبئة العامة والإحصاء تعبر عن فترة ماضية شهدت ثباتاً نسبياً أو ارتفاعات معقولة بالأسعار من الخارج، مثل أسعار الطاقة والمحاصيل الزراعية والحبوب".
ويضيف: "مع صعود أسعار النفط، بعد قرارات خفض الإنتاج، فإن ذلك الارتفاع من شأنه أن يؤثر على الأسعار عموماً، وينعكس على مزيد من الارتفاعات داخلياً، وبالتالي ارتفاع المعدلات الحالية للتضخم يمكن أن يكون أكثر من ذلك"، موضحاً أنه لا يمكن أن تنحسر الضغوط التضخمية في الوقت الحالي دون غير في عددٍ من المسارات، وهي كالتالي:
- تغير في مسار أسعار الفائدة في العالم (لجهة البدء في التراجع عن سياسة التشديد النقدي المتبعة).
- إحداث تقدم إيجابي في مسار الأزمة في أوكرانيا (لجهة إنهاء الحرب التي تضغط على اقتصادات العالم، لا سيما اقتصادات البلدان الناشئة).
- زيادة حركة التبادل التجاري، وبما يحسن من عجلة الأوضاع الاقتصادية.
ولا يرى بدرة أن قرارات تثبيت الفائدة التي اتخذتها بنوك مركزية كبرى، من بينها الفيدرالي الأميركي، في الاجتماعات الأخيرة هي مؤشر على انتهاء السياسات المتبعة، إنما هي عبارة عن هدوء نسبي وليست قرارات باتجاه عام، وهو ما عبر عنه الفيدرالي عندما فتح الباب أمام مزيد من الرفع في اجتماعات مقبلة، وبما يؤثر على البلدان الناشئة المتضررة من أثر تلك السياسات.
وفي ضوء تراكم الضغوطات، ذكر تقرير سابق لبنك الكويت الوطني، يونيو الماضي، أن النمو الاقتصادي المصري سيتباطأ خلال الأرباع القادمة، وإن كان سيظل مرتفعاً إلى حد ما عند مستوى يتراوح بين 3 و4 بالمئة، وسوف يظل بعيداً عن الركود، ومن المتوقع أن ينتعش الاقتصاد في السنة المالية 2024-2025 بفضل تحسن تنافسية الجنيه المصري وخفض معدلات الفائدة وتراجع التضخم.
وبالنظر إلى السنة المالية 2023-2024، توقع التقرير أن يظل النمو واقعاً تحت الضغوط في ظل تباطؤ الإصلاحات، ومع إمكانية اتجاه السلطات لمواصلة الضغط على الواردات والسحب من الاحتياطي للدفاع عن العملة وكسب الوقت.