تتزايد المخاوف من تركيز القيادة الصينية، برئاسة شي جين بينغ، على الأمن مقابل تقديم حوافز مطلوبة للإصلاح الاقتصادي؛ خاصة في ظل ما تشهده بكين من بيانات مخيبة للآمال بالنسبة لمؤشراتها الاقتصادية وتعرضها لعديد من الصدمات، بما في ذلك تعثر القطاع العقاري، وبما يحبط جهود التعافي بعد جائحة كورونا.
تجد الحكومة الصينية نفسها أمام انتقادات بشأن تركيزها بشكل أكبر على تعزيز الأمن الداخلي والخارجي وتركيز التمويل على المشاريع والملفات ذات الصلة بمواجهة التهديدات الاستراتيجية التي تشهدها البلاد، بما في ذلك الحرب التجارية مع الولايات المتحدة، ربما على حساب الاستجابة للمشاكل الاقتصادية التي يعانيها ثاني أكبر اقتصاد في العالم.
ولقد أثارت المشكلات الاقتصادية المعقدة في الصين، بما في ذلك الاضطرابات التي يشهدها قطاع العقارات، علاوة على ارتفاع ديون الحكومات المحلية والاستهلاك الضعيف، دعوات للرئيس شي لإطلاق العنان لمليارات الدولارات لدعم الإنفاق ووقف الانزلاق إلى الانكماش ودعم العملة الضعيفة.
إلا أنه، وطبقاً لتقرير نشرته صحيفة "فاينانشال تايمز" البريطانية، فإن الرئيس الصيني امتنع عن تقديم حوافز واسعة النطاق، وهو أحدث مثال على كيفية تشكيل تركيزه على الأمن الداخلي والخارجي على استجابته للمشاكل في ثاني أكبر اقتصاد في العالم.
نقل التقرير عن خبراء في السياسة والاقتصاد الصيني، فضلاً عن مستشارين حكوميين في بكين، قولهم إن "القيادة الصينية تشعر بالارتياح لمعدلات النمو البطيئة، في وقت تشعر فيه بالقلق من إطلاق أي تغييرات كبيرة من شأنها أن تضيف إلى الديون الحكومية أو تهدد بعدم استقرار النظام المالي"
يشرح ذلك أستاذ الاقتصاد السياسي الصيني في جامعة كاليفورنيا في سان دييغو، فيكتور شيه، بقوله: "إذا قررت إنفاق المزيد من المال بشكل كبير على شيء ما، فعليك أن تقلل من الإنفاق شيء آخر"، ينطبق ذلك على الصين، حيث "توسع الاستثمار في التكنولوجيا أو الدفاع الوطني أو الأمن الداخلي".
فيما ذكرت خبيرة الشؤون الصينية في مركز الأبحاث تشاتام هاوس بالمملكة المتحدة، يو جي، أن القراءة الدقيقة لإعلانات وخطابات الحكومة الصينية خلال الأشهر الأخيرة، بما في ذلك تصريحات المكتب السياسي، أظهرت أن "القيادة العليا كانت واضحة الرؤية بشأن خطورة الانكماش الاقتصادي".
أضافت أن أولوية بكين في مواجهة البيئة الخارجية متزايدة العداء "هي الأمن والاعتماد على الذات، وليس النمو الاقتصادي"، موضحة أن "الأمر لم يعد يتعلق بالنمو الاقتصادي.. بل بالسعي إلى الأمن، وهذا الشعور الأوسع بالاعتماد على الذات علمياً واقتصادياً".
أولويات الحكومة
الخبير في الشؤون الصينية، نائب رئيس تحرير الطبعة العربية لمجلة الصين اليوم، حسين إسماعيل، أوضح لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، أن الحكومة الصينية خلال السنوات الأخيرة تولي أهمية متزايدة لمصالحها الأمنية، في خطٍ متوازٍ مع توسع مصالحها الاقتصادية خارج حدودها والتي انتشرت في أنحاء العالم كافة، وفي ظل صعود بكين المتزايد على الساحة الدولية.
أضاف أنه "دائماً ما يتجدد الحديث على نطاق واسع حول الإنفاق العسكري للصين في كل عام تزامناً مع إقرار مجلس نواب الشعب الصيني ميزانية الدفاع الخاصة، حيث تتحدث وسائل الإعلام الغربية عن هذه الميزانية، ولكن بالمقارنة بين معدل زيادة إنفاق الصين على ميزانية الدفاع مع مثيلتها الأميركية على سبيل المثال سنجد أن بكين مازالت متأخرة عنها وعن دول أخرى ليست لها نفس المصالح الاقتصادية في العالم".
- بلغ الإنفاق العالمي على الدفاع في العام 2022 مستوى قياسياً عند 2.224 تريليون دولار، بزيادة 3.7 بالمئة عن معدلات العام 202 (طبقاً لبيانات معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام).
- ارتفع الإنفاق الأميركي العسكري بنسبة 0.7 بالمئة، ليصل إلى 877 مليار دولار.
- بلغ إجمالي الإنفاق العسكري في أوروبا 480 مليار دولار خلال العام 2022.
- بالنسبة للصين، فقد بلغت ميزانيتها الدفاعية 292 مليار دولار، مُسجلة زيادات تدريجية على مدى قرابة الثلاثة عقود.
- وفي روسيا، فقد ارتفع الإنفاق العسكري بقرابة 9.2 بالمئة، مسجلاً 86.4 مليار دولار.
وجهان لعملة واحدة
وأشار إسماعيل إلى أن الصين تقوم بتحديث قدراتها العسكرية وتعلم أن أمامها تحديات واسعة، ولعل ما نشهده في منطقة بحر الصين الجنوبي ومنطقة جنوب شرق آسيا كلها أمور يجعل بكين دائماً تولي قضايا الدفاع والأمن أهمية كبيرة.
وأكد خبير الشؤون الصينية، على أنه عادة ما يكون هناك تكامل بين التنمية الاقتصادية وتعزيز القدرات العسكرية، مشيراً إلى أن الأولى تحتاج إلى قوة أمنية تحميها، بينما الثانية تحتاج إلى قوة اقتصادية تغذيها وتوفر لها الإنفاق، وأن تلك المعادلة التي تعمل عليها الصين معتبرة التنمية الاقتصادية وتعزيز القدرات الأمنية والدفاعية وجهان لعملة واحدة لا يمكن أن يتم إهمال جانب على حساب الاهتمام بآخر.
وذكر أن الصين خلال العقود الأربعة الماضية كان بروزها الأكثر وضوحاً هو الاقتصاد والتنمية الاقتصادية، وبالتالي من المستبعد أن تهمل الحكومة الصينية هذا الجانب وتقديم الحوافز المطلوبة، خاصة وأنها تدرك تماماً أن ما وصلت إليه البلاد من مكانة دولية متميزة يرجع الفضل فيه أساساً لقدراتها الاقتصادية، مؤكدًا أنه في الفترة الأخيرة مع زيادة التحديات الأمنية التي تواجهها بكين حتّم ذلك أن يكون هناك اهتمام أكبر من القيادة الصينية بالقدرات الدفاعية والأمنية فيها.
إجراءات دعم "غير كافية"
وفي الأسابيع الأخيرة، كشفت السلطات الصينية عن سلسلة من الإجراءات لدعم النمو، خاصة في قطاع العقارات، الذي يمثل أكثر من ربع النشاط الاقتصادي في البلاد. ومن أجل المساعدة في استقرار السوق العقارية.
تمثل ذلك في قيام مدن قوانغتشو وشنتشن وبكين وشانغهاي بتوسيع تعريف مشتري المنازل لأول مرة (تخفيف قيود الرهن العقاري)، بينما قامت الحكومة المركزية أيضاً بخفض أسعار الفائدة ونسب الدفعة الأولى للقروض العقارية.
ويوم الجمعة الماضي، خفض بنك الشعب الصيني كمية العملات الأجنبية التي يتعين على المؤسسات المالية الاحتفاظ بها في الاحتياطي، بما يوفر المزيد من الدعم للعملة المحلية التي انخفضت أكثر من 5 بالمئة مقابل الدولار هذا العام. كما تم إرسال فرق من محافظي البنوك المركزية وغيرهم من الخبراء الماليين إلى المقاطعات المثقلة بالديون لإعادة هيكلة الالتزامات. وهناك أيضاً توقعات بمزيد من الاستثمار في البنية التحتية.
ومع ذلك، بعد أن جاءت البيانات الاقتصادية الصينية لشهر يوليو دون توقعات السوق، ومعظمها بفارق كبير، قلص الاقتصاديون توقعاتهم لنمو الناتج المحلي الإجمالي إلى أقل من هدف الحكومة البالغ 5 بالمئة، بينما دعوا إلى إجراءات تحفيز أقوى. ودعا البعض إلى مزيد من الدعم لقطاع الإسكان مع امتداد الأزمة بين المطورين إلى أجزاء أخرى من النظام المالي، وإلى اتخاذ تدابير لتعزيز الإنفاق الاستهلاكي، بحسب تقرير الصحيفة البريطانية.
ونقلت الصحيفة عن مستشار حكومي، طلب عدم ذكر اسمه، قوله إن أولوية محافظي البنوك المركزية الصينية هي السيطرة على المخاطر، وليس تعزيز مبيعات المنازل، موضحاً أن "الحكومة المركزية تدرك جيداً أن قطاع العقارات سينكمش حتماً".
الإجراءات الحكومية ومواجهة أزمة قطاع العقارات
من جانبه، قال الرئيس التنفيذي بمركز كوروم للدراسات الاستراتيجية طارق الرفاعي، في حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن الأزمة العقارية التي تواجهها بكين تفاقمت مع انهيار الشركتين العملاقتين "إيفرغراند" و"كانتري غاردن" ووصول الأزمة في هذه الفترة إلى ذروتها.
وأضاف أن الحكومة الصينية كانت قد تدخلت مع بداية ظهور ملامح أزمة العقارات لدعم هذا القطاع، لكنها الآن أصبحت لا تستطيع دعمه بالشكل الكافي، مرجعا ذلك إلى عدة أسباب من بينها:
- تفاقم الديون في القطاع.
- فقدان الثقة من قبل المستثمر، خاصة وأن القطاع العقاري يعد أكبر قطاع في الاقتصاد الصيني، ويمثل تقريباً 25 بالمئة من قيمة الاقتصاد، لذا هو مهم للاقتصاد والحكومة الصينية .
- فقدان الرغبة لدى المستثمرين لشراء العقارات أو القدرة على الحصول على ديون إضافية لمحاولة دعم القطاع، فالديون المتراكمة هي ما أدت إلى إفلاس الشركات.
وتبعاً لتلك العوامل، استبعد الرفاعي أن يكون لتدخل الحكومة تأثير على حل الأزمة، مستطرداً: "الأزمة ليس لها حل سريع أو أن تمر مثلما مرت الولايات المتحدة ودول أخرى في أزماتها المالية سابقاً.. ولست متفائلاً بشأن الحكومة الصينية ومحاولاتها لتخطيها".
وذكر أن مستوى الأداء الصيني أضعف من المتوقع وبالأخص القطاع الصناعي، الذي أصبح في مرحلة انكماش طبقا لمؤشر مديري المشتريات لقطاع التصنيع بالصين، إضافة إلى تباطؤ وانخفاض الصادرات الصينية خاصة الموجهة إلى الولايات المتحدة الأميركية أكبر سوق لمنتجاتها، ويليها الاتحاد الأوروبي.
وأكد الرفاعي أن المشكلات التي يظهرها أداء القطاع الصناعي بالتوازي مع الأزمة التي يمر بها القطاع العقاري، عوامل تمثل تحدياً كبيراً للاقتصاد الصيني والحكومة الصينية، التي أصبحت ليس لديها القدرة على مواجهة تلك التحديات.
التحفيز الحكومي
وبالعودة لتقرير الصحيفة البريطانية، فقد نقل عن ليكيان رين، التي تدير استثمارات الصين في صندوق WisdomTree Asset Management الأميركي، قولها إن بكين تعتقد بأن توسيع التحفيز الحكومي المركزي إلى النطاق الذي شوهد في الولايات المتحدة استجابة للأزمة المالية في العام 2008 من المرجح أن يؤدي إلى ارتفاع التضخم وزعزعة استقرار العملة المحلية.
أضافت: "الولايات المتحدة استثنائية في قدرتها على استخدام التحفيز المالي دون التأثير بشكل كبير على مجالات أخرى"، مشيرة إلى مكانة الدولار الأمريكي كعملة احتياطية عالمية.
ويوضح تقرير "فاينانشال تايمز" أن آمال الاقتصاديين تضاءلت في إجراء إصلاحات أعمق في الإنفاق العام، على سبيل المثال تعزيز تغطية معاشات التقاعد والرعاية الصحية في الصين إلى درجة يشعر فيها الناس بما يكفي من الأمان لإطلاق مدخرات الأسر الهائلة (..).
آفاق الاقتصاد الصيني
من جانبها، تعلق الباحثة في الاقتصاد الدولي، الدكتورة سمر عادل، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية، قائلة إن كل المؤشرات المخيبة للآمال بشأن الاقتصاد الصيني ترتبط بما يمر به الاقتصاد العالمي عقب جائحة كورونا إضافة إلى حربها التجارية مع الولايات المتحدة الأميركية، متوقعة أنه حال ما إذا استمرت تلك المؤشرات، فيمكن أن تسبب هزة كبيرة في الاقتصاد الصيني لاحقاً.
واستدلت على أن الصين تمر بأزمة اقتصادية بالإشارة إلى معدلات النمو الضعيفة، إضافة إلى أزمة الرهن العقاري التي امتدت وأثرت على الإنتاج الصناعي، وهو ما كان له تأثير سلبي أيض على حجم الصادرات.
وأكدت أن الاقتصاد الصيني مهدد بحدوث أزمة أكبر، مشيرة إلى أن ذلك ما دفع الحكومة الصينية تُقدم على عقد تحالفات جديدة مثل التي قامت بها من خلال دعم توسع تحالف بريكس واتفاقات منفصلة جديدة مع دول الشرق الأوسط وأفريقيا، مستهدفة خلق توازنات جديدة تستطيع أن تساعد بها لتحسين الوضع الداخلي.
وذكرت أن الوضع في الصين لا ينذر بانهيار، أو استطاعة دولة أخرى منافسة أن تقفز عليها وتتقدم عنها في ترتيبها كثاني أكبر اقتصاد في العالم، لكنه تراجع بمستواها الاقتصادي، ما يعطل من طموح الصين التفوق على الولايات المتحدة كما تخطط لتصبح أكبر اقتصاد في العالم.
وتوقعت أن يتعافى الاقتصاد الصيني من الأزمة التي يمر بها خلال فترة متوسطة الأجل، مشيرة إلى أن ذلك مرتبط بعدة إجراءات حكومية يجب اتخاذها منها:
- خلق آليات جديدة للتنافس في السوق العالمية.
- البدء بمطالبة القطاع الخاص بسداد مديونياته، خاصة بعد أن اتخذت قراراً بتأخير مدفوعاته لتوفير مجموعة من التسهيلات الائتمانية.
- الاستمرار في تخفيض أسعار الفائدة على القروض العقارية، فمن خلال ذلك تستطيع أن تحفز الانفاق وتقلل التكاليف.
ويعاني الاقتصاد الصيني من بيانات مخيبة للآمال، أحدثها بيانات نمو قطاع الخدمات، والتي أظهرت تباطؤاً في أغسطس هذا العام.
- انخفض مؤشر مديري المشتريات للخدمات إلى 51.8 نقطة الشهر الماضي من 54.1 نقطة في يوليو، وفق "مؤشر إس أند بي غلوبال كايشين"، منتصف الأسبوع.
- طبقاً لما تظهره البيانات الرسمية، فإن الاقتصاد الصيني نما بوتيرة ضعيفة في الربع الثاني، على الرغم من أن الرقم السنوي كان مشجعا بسبب التحفيزات الأساسية، مع تعثر الزخم العام بسرعة بسبب ضعف الطلب في الداخل والخارج.
- وبحسب البيانات الصادرة عن المكتب الوطني للإحصاء فقد نما الناتج المحلي الإجمالي الصيني بنسبة 0.8 بالمئة فقط في الفترة من أبريل إلى يونيو، مقارنة بالربع السابق، مقابل توقعات المحللين في استطلاع لرويترز بزيادة 0.5 بالمئة ومقارنة بنمو بـ 2.2 بالمئة كان قد سجل بالربع الأول من العام الحالي.
- على أساس سنوي، نما الناتج المحلي الإجمالي في الصين بنسبة 6.3 بالمئة في الربع الثاني، متسارعًا من 4.5 بالمئة في الأشهر الثلاثة الأولى من العام، لكن المعدل كان أقل بكثير من توقعات النمو البالغة 7.3 بالمئة.