تثير أخبار مشاهير كندا، أمثال مغنية البوب الشهيرة "سيلين ديون" والرابر جاستن درو بيبر و"دريك" وغيرهم، اهتمامات وسائل الإعلام حول العالم، في بلدٍ لا يزال قادراً بشكل كبير على تقديم وجوه فنيّة عالمية تحظى بشهرة عارمة.
ومع هذا الحضور والاهتمام الواسعين على الساحة الدولية بالفن الكندي ومشاهير ثاني أكبر دولة في العالم من حيث المساحة، لا يبدو على الناحية المقابلة تأثير اقتصاد أوتاوا على الاقتصاد العالمي في الحدود المناسبة لما يملكه البلد من إمكانات، ولا سيما بالنظر إلى جغرافيا كندا التي تؤهلها لتكون قوة اقتصادية كبيرة.. فما هي الأسباب؟
تدفع عديد من الأسباب بألا يحجز الاقتصاد الكندي مكانه ضمن الاقتصادات العملاقة، من أهمها ضعف الإنتاجية، والنموذج الاقتصادي المبني على الإفراط في الاستثمار في مشاريع أقل -من حيث القيمة المضافة- بالنسبة للقطاع الإنتاجي، على حساب القطاعات الصناعية الأكثر أهمية، وغيرها من الأسباب الأخرى.
إمكانات اقتصادية
يشير المؤسس وكبير الباحثين في The Problem Lab بجامعة واترلو الكندية، لاري سميث، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إلى أنه "رغم أن كندا تتمتع منذ فترة طويلة بواحد من أعلى مستويات المعيشة في العالم ومن بين أعلى المعدلات لخلق فرص العمل مقارنة بدول صناعية ناضجة، فإن نجاحها وإمكاناتها الاقتصادية لا تجتذب سوى القليل من الاهتمام".
كندا -المجاورة لأكبر اقتصاد في العالم- تتمتع بمقومات اقتصادية واسعة، فهي من حيث كتلة اليابسة تعد ثاني أكبر دولة في العالم، ولها أطول خط ساحلي، ويحيط بها المحيط الهادئ والمحيط الأطلسي الشاسعين، وتتمتع بمزايا تجارية هائلة.
كما تعد مصدراً صافياً للطاقة، لجهة امتلاكها ثالث أكبر احتياطيات نفطية مؤكدة وخامس أكبر منتج للغاز الطبيعي. كما تتمتع في الوقت نفسه بوجود رواسب كبيرة من المعادن المهمة والحيوية للتحول إلى الطاقة الخضراء.
يوضح سميث، أن كندا -المتاخمة للولايات المتحدة الأميركية- تعيش ربما في حالة يمكن وصفها بـ "الغموض" بالنسبة للكثيرين.
يبرر ذلك بقوله: "كندا تتمتع ببيئة سياسية مستقرة، ولا تثير الجدل، وبالتالي لا تثير اهتمام وسائل الإعلام أو تتصدرها، وهذا ما يجعل من السهل التغاضي عن كندا التي تصير مملة (لا تشهد أحداثاً ساخنة يمكن أن تؤثر من خلالها على مسارات وقطاعات مختلفة).
وفيما تشير جغرافية كندا إلى أنها يمكن أن تصبح قوة اقتصادية "إلا أن القليل من الناس يتحدثون عن هذا الأمر بهذه المصطلحات"، وفق الكاتب والخبير الاقتصادي البريطاني، تيج باريك، في مقال له بصحيفة "فاينانشال تايمز" البريطانية.
الاقتصاد الكندي
يحتل الاقتصاد الكندي المرتبة الـ 15 عالمياً من حيث الحجم، خلف دول مثل تركيا وإيطاليا والمكسيك. وتتوقع منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن يكون نمو نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي الكندي حتى العام 2060 هو الأدنى بين الدول المتقدمة.
- ازدهرت كندا في مطلع القرن العشرين. وكان التصنيع على قدم وساق، وتدفقت الاستثمارات من المملكة المتحدة والولايات المتحدة.
- في العام 1904، تنبأ رئيس الوزراء آنذاك، ويلفريد لوريير، بأن "القرن العشرين سيكون قرن كندا والتنمية الكندية".
- مع ذلك، فإن التوسع في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية أفسح المجال لفترات من التضخم المرتفع، وارتفاع العجز، وانخفاض أسعار السلع الأساسية.
- لم تكن توقعات لورييه صحيحة بالنسبة للقرن الماضي، وحتى الآن لم تكن صحيحة بالنسبة للقرن الحادي والعشرين أيضًا.
وبحسب تقديرات تقرير "العالم في العام 2050" الصادر عن شركة برايس ووترهاوس كوبرز، فمن المتوقع أن يتراجع التصنيف الاقتصادي العالمي لكندا إلى المرتبة 22 بحلول منتصف القرن.
ضعف الإنتاجية
ووفق المقال المشار إليه، يأتي ضعف الإنتاجية في قلب تحديات النمو التي تواجهها البلاد، ذلك أنه "في ساعة واحدة ينتج العامل الكندي ما يزيد قليلا عن 70 بالمئة مما يستطيع العامل الأميركي إنتاجه، وهذا أقل أيضاً من منطقة اليورو وحتى المملكة المتحدة استناداً إلى بيانات 2022"، بينما كان كثيرون يتوقعون أن يستفيد الاقتصاد الغني بالموارد مع تقدم العولمة، ولكن إنتاجية العمل النسبية تراجعت بالفعل منذ العام 2000.
سعت كندا بقوة إلى إبرام اتفاقات التجارة الحرة؛ وهي حالياً الدولة الوحيدة من مجموعة السبع التي لديها مثل هذه الاتفاقات سارية المفعول مع جميع أعضاء المجموعة الآخرين. لكنها لم تتمكن من الاستفادة من ذلك.
وفي هذا السياق، يقول الاستاذ بكلية "آيفي بيزنس"بجامعة ويسترن أونتاريو، جورج أثاناساكوس، في مقال تحليلي له شاركه مع موقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية":
- كندا تواجه مشكلة إنتاجية تفاقمت في السنوات الأخيرة.
- زاد نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي بوتيرة أبطأ بكثير من تلك الموجودة في بلاد مثل أستراليا ونيوزيلندا وبريطانيا والولايات المتحدة منذ العام 1980.
- نما نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي بنحو 4.8 بالمئة سنوياً بين عامي 1980 و2022 في تلك البلدان الأربعة، مقابل 4.1 بالمئة فقط في كندا.
- في العام 2015، نما بنحو 4.1 بالمئة في تلك البلدان الأربعة و3.2 بالمئة فقط في كندا.
- زيادة الإنتاجية هي الطريقة الوحيدة لإضافة الثروة وخلق القيمة على المستوى الوطني.
- لتغذية نمو الإنتاجية، نحتاج إلى سياسات تشجع وتكافئ ريادة الأعمال وتحمل المخاطر.
- نحن بحاجة إلى نمو العمالة في القطاعات الإنتاجية من الاقتصاد.
ويضيف الاستاذ بكلية "آيفي بيزنس"بجامعة ويسترن أونتاريو، سبباً آخر من المشكلات المرتبطة بالسياسات الاقتصادية في كندا، وهي أن البلاد لا تزال تعاني من الإفراط في الاستثمار في مشاريع أقل بالنسبة للقطاع الإنتاجي للاقتصاد، موضحاً أن النشاط المتعلق بالإسكان على سبيل المثال أكبر من أي قطاع آخر من قطاعات الاقتصاد، بما في ذلك التصنيع والتعدين والنفط والغاز.
ويرى أن "الاستراتيجيات الاقتصادية التي تعتمد على العقارات لتحقيق النمو ليست في محلها وتحتاج إلى إعادة النظر فيها، بحيث يتعين توجيه الاستثمارات إلى المزيد من الصناعات المعززة للإنتاجية، مثل الروبوتات والأمن السيبراني والمواد المضافة على سبيل المثال لا الحصر".
الصناعات الكندية
وفي هذا السياق، يقول باحثون في مركز الإنتاجية والازدهار التابع لجامعة HEC مونتريال، إن الصناعة الكندية ليست قوية بما يكفي للمنافسة عالمياً. وأن المساحة الشاسعة للبلاد والجغرافيا الجبلية والتشريعات الإقليمية قد تعيق المنافسة والاستثمار والابتكار بين شركاتها، وفق ما نقله تيج باريك في "فاينانشال تايمز".
ويقدر مجلس الأعمال في ألبرتا (مقاطعة كندية) أن هذه الحواجز التجارية الداخلية تعادل تعريفة بنسبة 6.9 بالمئة على السلع (..).
عدد السكان
إضافة إلى ذلك، يقول المفكر الاقتصادي، أستاذ الاقتصاد بجامعة ويسترن، مايكل باركين، لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن كندا -الكبيرة من حيث المساحة- تُعد دولة صغيرة من حيث عدد السكان البالغ 40 مليون نسمة فقط (أي ما يقرب من سكان ولاية كاليفورنيا).
يعد ذلك سبباً منطقياً في تقدير باركين، يحول دون تحول أوتاوا إلى عملاق اقتصادي، مستفيداً من موارده وإمكاناته، علاوة على مجاورته لأكبر اقتصاد في العالم.
وهذا ما أشار إليه تيج باريك في مقاله بـ "فاينانشال تايمز"، عندما ذكر أن "كندا لديها واحدة من أدنى الكثافة السكانية في العالم"، ذلك بعد أن انخفض معدل الخصوبة فيها بشكل حاد، وبالتالي وليس لديها ما يكفي من الناس للاستفادة من إمكاناتها الاقتصادية.
تحتل كندا مرتبة عالية في مؤشرات الصحة والتعليم والرضا عن الحياة، وتعتبر مدنها الرائدة (كالغاري وفانكوفر وتورنتو) من بين أفضل المدن للعيش في العالم. وتصنف البلاد باستمرار بين أفضل الوجهات للمهاجرين.
وبحسب باريك، فإن جاذبية كندا كمكان للعيش فيه وانفتاحها على الهجرة يعني أن هناك مجالاً لتغيير مشاكلها الديموغرافية.
وفي العام الماضي، حققت البلاد أعلى معدل نمو سكاني سنوي لها منذ أكثر من 60 عاماً، ويرجع ذلك جزئياً إلى جهود الحكومة لتوظيف المهاجرين.
ورغم أن أسلوب الحياة الكندي مرغوب فيه في جميع أنحاء العالم، وليس فقط في الدول النامية، إلا أنه -في تصور باريك- ما دامت الاتجاهات الحالية في الإنتاجية مستمرة، فسوف تنخفض مستويات المعيشة وستظل الإمكانات الاقتصادية الهائلة التي تتمتع بها كندا كامنة.