تخنق "أزمة شح الدولار" مجموعة من الاقتصادات الناشئة، سواء لجهة عوامل وسياسات داخلية تؤثر على توافر العملة الصعبة وتداولها، وكذلك تأثر تلك الدول بعوامل خارجية ذات صلة بالتداعيات المباشرة وغير المباشرة للأزمات الدولية والتطورات الجيوسياسية التي يشهدها العالم.. فما هي أبرز تلك الأسباب؟
يُمكن تلخيص أبرز أسباب أزمة الدولار في بعض الاقتصادات الناشئة في عدد من العوامل الأساسية، على النحو التالي:
- توازن المعاملات الدولية: إذ كانت الاقتصادات الناشئة تعتمد بشكل كبير على وارداتها من الخارج، مثل السلع والخدمات، فإنها ستحتاج إلى الدولار لإجراء تلك الصفقات. وفيما تعاني بعض تلك الاقتصادات من عجز في ميزان المعاملات (الفرق بين الواردات والصادرات)، فإن هذا يؤدي إلى زيادة الطلب على الدولار مقابل العملات المحلية، ما يؤدي بدوره إلى نقص الدولار في السوق المحلية.
- كلفة الديون الخارجية: تثقل كلفة الدين كاهل البلدان النامية، التي تحتاج إلى توفير الدولارات لسداد تلك الديون وفوائدها. وإذا كان هناك تخوف من عدم قدرة هذه الدول على سداد ديونها، فإنه يمكن أن يؤدي ذلك إلى انخفاض قيمة عملاتها مقابل الدولار، وبما يزيد من صعوبة الحصول على العملة الصعبة.
- التطورات الجيوسياسية والاقتصادية: التوترات الجيوسياسية والاقتصادية التي يشهدها العالم، النزاعات السياسية وما يصاحب ذلك من فرض العقوبات الاقتصادية، تؤثر على استقرار العملة المحلية وتقويض الثقة فيها، وبما يجعل الناس (المستثمرون) والشركات يبحثون عن ملاذ آمن، وعادةً ما يتمثل هذا الملاذ في الدولار الأميركي، الأمر الذي يرفع الطلب عليه.
- تراجع تدفقات رأس المال: في ظل الأوضاع الاقتصادية الراهنة، تنخفض معدلات الاستثمار في دول ناشئة، ويقوم المستثمرون بسحب أموالهم واستثمارها في أماكن أكثر استقراراً وأماناً، مع هروب الأموال الساخنة.
- تقلبات أسواق السلع: إذا كانت الاقتصادات الناشئة تعتمد بشكل كبير على صادرات السلع الأساسية مثل النفط أو المعادن، فإن تقلبات أسعار هذه السلع يؤثر بشكل كبير على عائداتها، وهذا من شأنه الضغط على العملة المحلية وزيادة الحاجة إلى الدولار لتمويل الواردات.
- السياسات المحلية: بعض الدول الناشئة تتبني سياسات لتقييد تدفق رأس المال خارج البلاد، وهذا يمكن أن يؤثر على قدرتها على الحصول على الدولارات بسهولة.
يقول مستشار البنك الدولي، الدكتور محمود عنبر، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إن واحداً من أهم الأسباب التي تُعقد أزمة الدولار بالنسبة لعديد من الاقتصادات حول العالم، لا سيما الاقتصادات الناشئة، هو ما يتعلق بتبعات التطورات العالمية، على النحو الذي تسبب في تعطل حركة التجارة الدولية، بعد جائحة كورونا ومن بعدها الحرب في أوكرانيا.
حالة اللايقين
ويضيف إلى ذلك "حالة اللايقين التي فرضتها الأزمة الاقتصادية العالمية والتي يعيشها العالم حالياً، ذلك أنها عطّلت بدورها كل ما له علاقة بدخول عملات صعبة لعديد من الاقتصادات خاصة في اقتصادات بعض البلدان الناشئة".
ويشير هنا إلى التقرير الصادر عن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد) والذي كشف عن تراجع تدفقات الاستثمار الأجنبي، معتبراً أن ذلك التراجع "أمر منطقي" بسبب حالة عدم اليقين التي فرضتها الجائحة، الأمر الذي جعل كثيراً من المستثمرين يتوقفون عن الاستثمار بشكل أو بآخر، أو لصالح التوجه لقنوات استثمارية بديلة.
قالت الأمم المتحدة، إن الاستثمار الأجنبي المباشر العالمي الإجمالي انخفض 12 بالمئة عام 2022، إلى 1,3 تريليون دولار، وذلك بعد انخفاض حاد في العام 2020 وانتعاش قوي في العام 2021.
- بحسب (أونكتاد)، فإن هذا "التباطؤ كان مدفوعا بالأزمات العالمية المتعددة، وهي الحرب في أوكرانيا وارتفاع أسعار الغذاء والطاقة وضغوط الديون".
- توقّع (أونكتاد)، أن يتواصل الضغط الهبوطي على الاستثمار الأجنبي المباشر في العام 2023.
- وازداد الاستثمار الأجنبي المباشر في البلدان النامية 4 في المئة إلى 916 مليار دولار، ويمثل أكثر من 70 في المئة من التدفقات العالمية، وهي حصة قياسية. ورغم ذلك، يتركز هذا النمو في عدد صغير من الاقتصادات الناشئة الكبيرة.
التوترات الجيوسياسية
ويتحدث عنبر ضمن أبرز الأسباب المعززة لأزمة الدولار بالنسبة لبعض الاقتصادات الناشئة، عن أثر العقوبات الاقتصادية سواء من جانب روسيا والغرب والولايات المتحدة، وانعكاسات تلك العقوبات على البلدان النامية، مشيراً إلى استخدام سلاح الطاقةمن قبل روسيا لمحاولة تركيع أوروبا كأحد أهم الأسباب التي أثرت بشكل كبير على اقتصادات تلك البلدان، على اعتبار أن ذلك قد خلق حالة كبيرة من التضخم المستورد فضلاً عن التضخم الموجود بالأساس من البداية، وبما أدى لارتفاع تكلفة الطاقة والضغط على العملة الصعبة.
ومن بين الأسباب التي يسوقها مستشار البنك الدولي أيضاً في معرض حديثه مع موقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" ما يرتبط بتعطل سلاسل الإمداد وكذلك استخدام سلاح الغذاء في الحروب القائمة، وبما يرفع كلفة الواردات، الأمر الذي يستنفد قدرات بلدان نامية ومواردها المالية الدولارية.
وينوه في الوقت نفسه أيضاً إلى تأثر مصادر النقد الأجنبي الوارد لتلك الاقتصادات، سواء من التحويلات أو القطاع السياحي والاستثمارات المباشرة، تحت وطأة الأوضاع الاقتصادية التي يشهدها العالم، وفي ظل الضبابية الحالية التي لا يمكن لأحد التكهن بمصيرها.
ولا يستثني عنبر في الوقت نفسه الجدل الدائر حول "مستقبل الدولار" نفسه كعامل أساسي من عوامل الأزمة، لجهة سعي دول مجموعة البريكس إلى عملة خاصة مع التوسع في الدول الأعضاء، ومن ثم تهديد الدولار الأميركي، وبالتالي فإن عدم القدرة على التكهن بمستقبل العملية الأميركية يثير مخاوف المستثمرين.
ويختتم تصريحاته لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" بالإشارة إلى أن "استمرار الوضع الراهن من شأنه أن يتسبب في نكبات كبرى وتعقيدات أكبر، خاصة أن كمان عدم استقرار الخريطة الاقتصادية يدفع بعدم استقرار الخرائط السياسية أيضاً".
عوامل مشتركة
من جانبه، يشير الخبير الاقتصادي، بلال شعيب، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إلى أن ثمة أسباب مشتركة بين عددٍ من البلدان النامية تفاقم أزمة العملة الدولارية، يأتي في مقدمتها العجز الهيكلي في الميزان التجاري، على اعتبار أن معظم الاقتصادات الناشئة تعتمد على الدولار في معاملاتها الخارجية، لكن ليست لديها مصادر قوية للعملة، ويتراجع حجم صادراتها في مقابل حجم الواردات.
ويشير إلى عامل آخر مرتبط باعتماد كثير من تلك الاقتصادات على واردات السلع الاستهلاكية وليست الواردات الاستراتيجية التي يمكن أن تقدم قيمة مضافة تستفيد منها تلك الدول، بما يعني أنه يتم استيراد مواد للاستهلاك سواء مواد غذائية أو ملابس وغير ذلك وليست مواد خام يمكن أن تحقق قيمة مضافة من خلال تصنيعها وإعادة تصديرها وبما يدر بالعملة الصعبة.
علاوة على أن تلك الاقتصادات لديها مشكلة في التصنيع نظراً لتقادم التكنولوجيا والآلات والمعدات، وبما يحرمها من فرص تصديرية تدر عائداً دولارياً.
ويضيف إلى العوامل المذكورة ما يتعلق بارتفاع عدد السكان في تلك البلدان مع عدم توزيعهم توزيعاً جغرافياً بشكل صحيح، فضلاً عن "شراهة الاستهلاك" ولا سيما مع ارتفاع معدلات الشباب في هذه الاقتصادات مقارنة بأوروبا على سبيل المثال، حيث الاستهلاك المنظم وارتفاع المعدلات العمرية للسكان.
ويشدد شعيب في الوقت نفسه على أن عديداً من الاقتصادات الناشئة بحاجة شديدة إلى التوسع في الإنفاق على مشاريع التنمية والنمو الاقتصادي، وبالتالي تستخدم الموارد الدولارية المتوافرة في البنية التحتية على سبيل المثال، أو تضطر إلى اللجوء للاستدانة من الخارج.
كما يتحدث الخبير الاقتصادي في الوقت نفسه عن ارتفاع كلفة الديون، وهي الأزمة التي تزيد مع تباطؤ معدلات النمو وبما يشكل ضغطاً على الأسواق الناشئة، وفي ضوء ارتفاع معدلات الفائدة، وبما يرفع كلفة الاقتراض ويتسبب في الضغط على الموازنة مع تقليص قدرة الدولة على التنمية والتوسع في برامج الحماية الاجتماعية.