"ظلت ليبيا غارقة في صراعات وأجواء من عدم اليقين السياسي منذ العام 2011. وحتى وقت قريب، كانت حالة التشتت التي عانت منها البلاد تعوق عملية صنع السياسات وجمع البيانات الاقتصادية الرئيسية، ومع هذا، بذلت ليبيا جهوداً كبيرة للتحرك قُدُماً والتغلب على التحديات الاقتصادية التي جلبها الصراع السياسي".
هكذا يلخص صندوق النقد الدولي الوضع الاقتصادي في ليبيا في تقريره الأخيره بخصوص الاقتصاد الليبي، والذي أشار خلاله إلى أن الاقتصاد الليبي حقق تحسنات أخيراً في جمع البيانات وتبادلها وشفافيتها، وهو ما مَكَّنَ صندوق النقد الدولي من استئناف أنشطته الرقابية بعد توقف دام عقداً كاملاً.
يتمتع الاقتصاد الليبي بعديد من الإمكانات الضخمة التي تؤهله لتحقيق معدلات نمو كبيرة في المرحلة المقبلة، مستفيداً من أسعار النفط الحالية والمتوقعة، بينما ترهن المؤسسات المالية الدولية والمتخصصة والمحللون مدى إمكانية تحقيق الاستفادة القصوى للاقتصاد الليبي من تلك الإمكانات بحجم الاختراق المحقق بالعملية السياسية، فضلاً عن حتمية إجراء مجموعة من الإصلاحات الهيكيلة المباشرة لأساسيات اقتصاد البلاد.
وفي السادس من يونيو الماضي، ذكر بيان صادر عن البنك الدولي، مجموعة من المؤشرات المرتبطة بالاقتصاد الليبي، الذي "يُظهر قدرة على الصمود رغم أن النمو الاقتصادي يعتريه الانخفاض وعدم الثبات".
- العام 2022 شهد انكماشاً بنسبة 1.2بالمئة في الاقتصاد الليبي.
- انخفاض إنتاج النفط خلال الربع الأول من العام الماضي كان من بين أبرز أسباب الانكماش المسجل خلال العام.
19.6 بالمئة نسبة معدلات البطالة، في حين أن أكثر من 85 بالمئة من السكان النشطون اقتصادياً يعملون في القطاعين العام والاقتصاد غير الرسمي. - وصل المؤشر الرسمي لأسعار المستهلكين إلى 4 بالمئة بنهاية العام 2022، مدفوعاً بارتفاع أسعار المواد الغذائية والإسكان والكهرباء.
- شهدت سلة الحد الأدنى من الإنفاق الغذائي التي تلبى الاحتياجات الأساسية زيادة قياسية بلغت 38 بالمئة في الأسعار المحلية.
إمكانات مالية ضخمة
يقول الخبير الاقتصادي الليبي، الدكتور محمد الحمروني، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إن "السبب الأساسي وراء صمود الاقتصاد الليبي هو الإمكانات المالية الضخمة المتحققة من قطاع النفط مع عدد السكان البسيط مقارنة بالدول الأخرى".
وتحقق تلك المعادلة وفرة مالية تُمكن الحكومة من تقديم خدماتها رغم زيادة الإنفاق الحكومي الذي يحتاج لتطبيق معايير الحوكمة الرشيدة.
وتستهدف ليبيا زيادة إنتاجها من النفط الخام خلال الأشهر الستة المتبقية من العام الجاري، لتصل إلى 1.3 مليون برميل يوميا، بزيادة 96 ألف برميل عن المعدل الحالي الذي يزيد قليلا عن 1.2 مليون برميل.
وتمتلك ليبيا احتياطيات كبيرة من النفط والغاز، ولديها بالتالي واحد من أعلى مستويات نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي في إفريقيا.
وسوف يظل إنتاج الهيدروكربونات جزءا أساسيا من المستقبل الاقتصادي في ليبيا، حيث يشكل حوالي 95 بالمئة من الصادرات وإيرادات الحكومة، بحسب أحدث التقارير الصادرة عن صندوق النقد الدولي، والذي توقع نمو ذلك القطاع بنحو 15 بالمئة في 2023، عقب زيادة النشاط التي جاءت بعد حصار المنشآت النفطية الذي حد من الإنتاج في عام 2022.
ومع هذا، سيكون التحدي الرئيسي هو تنويع النشاط الاقتصادي بعيداً عن النفط والغاز مع تعزيز الجهود لتحقيق نمو أقوى وأكثر شمولا للجميع بقيادة القطاع الخاص.
ويشير الحمروني، إلى أنه مع تلك المعطيات الإيجابية، فمن المتوقع أن يحقق الاقتصاد الليبي نمواً عالياً نسبياً، "ولا أبالغ إن قلت أنه قد يصل إلى 17.9 بالمئة" (وهي النسبة التي أوردها تقرير سابق لصندوق النقد) أعلى من السنوات العشر الماضية.
وكان صندوق النقد الدولي قد أرجع أسباب النمو الليبي إلى ارتفاع أسعار الطاقة واستقرار قطاع النفط داخل ليبيا أخيراً.
ويضيف الحمروني، "من أسباب صمود الاقتصاد الليبي أن ليبيا استفادت من أسعار النفط المرتفعة"، لكنه يشير في الوقت نفسه إلى خطر الإسراف في الإنفاق العام دون ضوابط وبما يهدد مستقبل الاقتصاد الليبي الذي يحتاج لتنويع مصادر الداخل.
ويوضح الخبير الاقتصادي، أن العوامل الاقتصادية ذات أثر في النتائج السياسية المرتبطة بإعادة الإعمار، ويتضح ذلك من خلال الشروط التي تمثل ركيزة أساسية، والتي ينبغي توافرها كي تتكلّل عملية إعادة الإعمار بالنجاح، ذلك أن كل شرط يحدد ما إذا كانت إعادة الإعمار ستتحقّق وكيف ستحدث، وهذه الشروط هي:
- أولاً: توافر الموارد الاقتصادية لإعادة الإعمار.
- ثانياً: الطريقة المتبعة لترسيخ الاستقرار وإرساء دعائم الأمن وهو ما يعد عنصراً مهماً لإعادة الإعمار.
- ثالثاً: ديناميكية العملية السياسية على الصعيد الوطني والإقليمي لصنع مقاربة الاستقرار.
- رابعاً: الهياكل الاقتصادية القائمة، لجهة مأسسة القطاعات وفق أحدث السبل العلمية. بالإشارة إلى دور الدولة في تحقيق إعادة الإعمار، ذلك أن عملية إعادة الإعمار الناجحة تتأسس من خلال بناء الدولة بشكل فاعل وتحقيق تعافي اقتصادي مستدام ومتوازن وطويل الأجل.
العوامل السياسية
ويختتم الخبير الاقتصادي حديثه مع موقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" بالإشارة إلى إشكالية أخرى تهدد برنامج النمو الاقتصادي الليبي، وهو شبح الانقسام السياسي ومحاولة تهميش كل طرف للآخر .
وتشير تقديرات البنك الدولي إلى أنه "لولا الصراع لكان من الممكن أن يشهد هذا الاقتصاد نمواً مرتفعاً بنسبة 68 بالمئة على مدى السنوات العشر الماضية، وهي إمكانية لا تزال ممكنة التحقيق كما أنها تبرز الإمكانات الهائلة للبلاد".
وكانت وكالة "فيتش سليوشن" قد حددت خمسة عوامل أساسية تعزز توقعاتها لنمو الاقتصاد الليبي في 2023، بعد أن قدرت أن الناتج المحلي الإجمالي سوف يسجل نمواً نسبته 19.7 بالمئة، وتتلخص تلك العوامل فيما يلي:
- زيادة الإيرادات النفطية، مع انتعاش النفط والغاز.
- التقدم نحو مزيد من الاستقرار السياسي.
- زيادة الإنفاق العام.
- ارتفاع الاستهلاك الخاص.
- ارتفاع الأنشطة الاستثمارية.
أسعار النفط
من جانبه، يوضح الخبير الاقتصادي الليبي، علي الصلح، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، أن النمو الاقتصادي في ليبيا خلال هذه الفترة ناتج عن ارتفاع أسعار النفط بالدرجة الأولى، ذلك أنه ليس هنالك نواتج محلية تسهم في نمو الناتج بدرجة كبيرة، إذ تقدر مساهمة قطاع الزراعة بحوالى 3بالمئة والخدمات بحوالي 4 بالمئة من الاقتصاد الوطني، وكذلك القطاع الصناعي.
وتشير تقديرات البنك الإفريقي للتنمية، إلى نمو الاقتصاد الليبي بنسبة 3.5 بالمئة بنهاية 2022 وبنسبة 4.4 بالمئة في 2023.
وعزا ذلك أيضا لاستئناف إنتاج النفط، وارتفاع الطلب على الطاقة وانتعاش أسعارها عالميا، متوقعا أن يكون حل الأزمات الاقتصادية في ليبيا سهلا بعد تعاظم الموارد النفطية.
ويضيف البنك أن "هذا النمو ناتج عن زيادة النفقات العامة على مختلف القطاعات الاقتصادية والاجتماعية، ومعظم هذه النفقات تحمل الطابع الاستهلاكي، في حين لا توجد هنالك خطة واضحة للتنويع الاقتصادي، إذ يعتمد التنويع الاقتصادي على عديد من الموشرات والمعايير، وذلك يتمثل في قاعدة المشاركة بين القطاع الخاص والعام التي تحتاج إلى إعادة تصميم وتنفيذ مشاريع مشتركة".
كما يشير الخبير الاقتصادي الليبي، في الوقت نفسه إلى دور المصارف في التنويع الاقتصادي، والذي أصبح ضرورة ملحة في المجالات كافة الزراعية والصناعية والتجارية والاستثمارية"، موضحاً أنه إلى الآن لم يقدم المصرف المركزي خطة عمل جديدة لتحقيق التنويع الاقتصادي.
وفيما يخص إعادة الإعمار والإمكانات الضخمة المتوفرة في هذا السياق، يقول الصلح، "يمكننا القول إن تلك الإمكانات الضخمة تنفق على بنود الاستهلاك دون استثمار يذكر، على الرغم من وجود صندوق سيادي في ليبيا (متمثل في الموسسة الليبية للاستثمار) برأس مال يقدر بحوالى 68 مليار دولار، إلا أنه لا يحقق تاعوائد المرجوة منه".
ويختتم حديثه بالإشارة إلى أن الاقتصاد الليبي بذلك يظل عرضه لعديد من الصدمات الخارجية، من أهمها صدمات أسعار النفط والغذاء العالمي.
تحديات كبيرة
وذكر تقرير البنك الدولي المشار إليه في هذا السياق، أن ليبيا بينما تجابه تحديات كبيرة، إلا أن لديها إمكانات واسعة كذلك من أجل إعادة الإعمار وتنويع الأنشطة الاقتصادية، مُحدداً أربع ركائز أساسية من شأنها أن تضع الأساس اللازم لتحقيق الازدهار في مستقبل البلاد، وهي:
- التوصل لاتفاق سياسي دائم يصب في صالح مستقبل ليبيا.
- وضع رؤية مشتركة للتقدم الاقتصادي والاجتماعي.
- إنشاء نظام حديث لإدارة المالية العامة من أجل تحقيق التوزيع العادل للثروة والشفافية في سياسات المالية العامة.
- وضع سياسة اجتماعية شاملة تسهل عملية إصلاح الإدارة العامة وتفرق بين التحويلات الاجتماعية والأجور العامة.
بينما يقول صندوق النقد، "سوف يتوقف نجاح الإصلاحات على الوصول إلى بيئة سياسية وأمنية مستقرة وتطوير القدرات المؤسسية. وينبغي أن تركز جهود الإصلاح الهيكلي على تقوية المؤسسات وتعزيز سيادة القانون. وللحماية من المخاطر التي تنشأ من انخفاض إيرادات النفط واحتمال فقدان الاحتياطيات، ينبغي أن تتجنب السلطات إنفاق المزيد عندما يكون الأداء الاقتصادي جيداً وأن تدخر للأوقات التي قد يتباطأ فيها النشاط الاقتصادي".