فيما يستمر تباطؤ النمو الاقتصادي العالمي مع استمرار تأثير السياسة النقدية الانكماشية، والحرب الروسية الأوكرانية على النشاط الاقتصادي، فإن منطقة آسيا والمحيط الهادىء لا تزال تتصف بالديناميكية، إذ يتوقع خبراء ومؤسسات اقتصادية دولية أن يتجاوز النمو الاقتصادي فيها الولايات المتحدة وأوروبا هذا العام، وأن تسهم بـ 70 بالمئة من النمو الاقتصادي العالمي.
رفع صندوق النقد الدولي توقعاته لمنطقة آسيا والمحيط الهادىء، كاشفاً عن أنّ النمو في المنطقة سيكون مدفوعاً بشكل أساسي بتعافي الصين والنمو المرن في الهند، وفقاً لتقرير آفاق النمو الاقتصادية الإقليمية الصادر في شهر مايو الماضي، والذي توقع نمو الناتج المحلي الإجمالي لمنطقة آسيا والمحيط الهادئ بنسبة 4.6 بالمئة وهو أعلى بمقدار 0.3 نقطة مئوية عن توقعاته في أكتوبر.
التوقعات المحدثة، بحسب الصندوق، تعني أن المنطقة ستسهم بنحو 70 بالمئة من النمو العالمي. مع الإشارة إلى أن المنطقة توسعت بنسبة 3.8 في المئة عام 2022.
وتوقع بنك الاستثمار الأميركي، مورغان ستانلي، أن يتجاوز النمو الاقتصادي في آسيا الولايات المتحدة وأوروبا بحلول نهاية 2023، مرجعاً ذلك إلى أنها نجت إلى حد كبير من صدمات أسعار الفائدة، حيث يرجح البنك أن يأتي الانتعاش الواسع من الصين في النصف الثاني من هذا العام في حين أن ثلاثة اقتصادات آسيوية كبيرة (الهند وإندونيسيا واليابان) تظهر أيضاً طلباً محلياً قوياً.
ويرى خبراء أن أحد أهم أسباب تفوق آسيا بالنمو الاقتصادي أنها ليس لديها مشاكل تضخم حادة كالتي تشهدها الولايات المتحدة ومنطقة اليورو، إلى جانب اعتمادها على مصادر طاقة أقل تكلفةً مما حصلت عليه أوروبا ومنها على سبيل المثال صادرات نفط بأسعار مخفضة من روسيا.
قوى اقتصادية صاعدة
في حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" قال مازن سلهب، كبير استراتيجي الأسواق في "BDSwiss MENA": "من الواضح أن النمو في الاقتصاد العالمي لم يعد معتمداً على الاقتصادات المتقدمة وحدها، هناك حقيقة لابد من أخذها في الاعتبار وهي أن مراكز صناعة القرار الاقتصادي في العالم تتبدل، وهناك ظهور لقوى اقتصادية عملاقة حققت نمواً أكبر من الاقتصادات المتقدمة المعروفة تاريخياً، حيث تشير توقعات صندوق النقد الدولي إلى نمو بنسبة 1.2 بالمئة فقط في الاقتصادات المتقدمة في العام الجاري، يقابلها نمو بنسبة 4 بالمئة في الاقتصادات الناشئة والنامية، فعلى سبيل المثال من المتوقع أن يصل النمو في أميركا إلى 1.4 بالمئة في 2023 مقابل 5.2 بالمئة للصين و6.1 بالمئة للهند".
تضخم محدود
ورداً على سؤال حول الأسباب التي لم ترفع التضخم في آسيا مقارنة بدول أوروبا وأميركا أجاب سلهب: "أن واحداً من الأسباب التي لم ترفع التضخم كثيراً في العديد من الاقتصادات العملاقة مثل الهند 4.2 بالمئة، والصين 0.20 بالمئة مقارنة بأميركا 4 بالمئة حالياً و9 بالمئة قبل عام، ومنطقة اليورو 6.10 بالمئة وبريطانيا 8.7 بالمئة، هي أن هذه الدول اعتمدت على مصادر طاقة أقل تكلفة مما حصلت عليه أوروبا ومنها صادرات نفط بأسعار مخفضة من روسيا، إضافةً إلى صادرات النفط الإيراني التي وصلت أحياناً إلى نحو 2 مليون برميل يومياً وخاصة للصين، دون أن ننسى أن مستوى سعر نفط الأورال الروسي تراجع 38 بالمئة في عام بأكثر من خام برنت وغرب تكساس الخفيف إضافة إلى أن سعره أصلاً أرخص (البرميل عند 57 دولاراً)، بينما خام غرب تكساس الخفيف عند 72 دولاراً وخام برنت 76 دولاراُ".
تراجع عملات الدول الآسيوية
من جهة ثانية، كان بقاء عملات هذه الدول الآسيوية الكبرى متراجعاً مقابل الدولار الأميركي عاملاً مهماً في تعزيز صادراتها، فاليوان متراجع 3.2 بالمئة مقابل الدولار في 2023، كما أن الدولار بقي مرتفعاً 5.1 بالمئة في عام كامل إلى الآن مقابل الروبية الهندية، بحسب سلهب الذي أكد "أن النمو الكبير في الربع الأول في الهند بنسبة 6.1 بالمئة على أساس سنوي ارتبط بنمو قوي جداً في الخدمات التي شكلت أكثر من نصف الناتج المحلي الاجمالي وبالتالي لنا أن تتخيل النمو العملاق في اقتصاد يصل عدد سكانه الى أكثر من 1.2 مليار إنسان".
ويضيف كبير استراتيجي الأسواق في "BDSwiss MENA": "أن العولمة ومنذ ثلاثة عقود كان لها فضل مهم في تقليل تكلفة الإنتاج وتراجع التضخم عالمياً بدلاً من السياسات الداخلية الوطنية المحدودة، ولذلك باعتقادنا أن هذا التوجه كان وسيستمر كهدف استراتيجي للشركات الكبرى التي ستستمر في فتح معامل وشركات إنتاج كبرى في الهند والصين والفلبين وتايلند وفيتنام مستفيدة من نمو قوي وتحسن مستمر في مستوى الاستهلاك والخدمات والقوة الشرائية".
وأشار إلى أن "الطبيعة الديموغرافية تساعد أيضا الاقتصادات الآسيوية أكثر من الاقتصادات المتقدمة، وإذا استثنينا الصين التي سيتراجع عدد سكانها بتأثير الشيخوخة، فإن عدد ونسبة نمو سكان الدول المتقدمة في تراجع مستمر (اليابان وإيطاليا وحتى ألمانيا) كما أن قاعدة السكان الشباب في هذه الدول أصغر من الدول النامية التي تملك قاعدة هرم سكانية عريضة تجعل من الاستهلاك أعلى ومن تكاليف العمالة أرخص وهذا محوري في المنافسة العالمية".
تأثير أقل لتعطل سلاسل الإمداد
ويشرح سلهب أن "تعطل سلاسل الإمداد العالمية التي رفعت من تكاليف النقل كان لها تأثير أقل في الصين والهند والدول المجاورة التي استفادت من الجغرافيا، كما أن السلع عموماً التي تدخل في العملية الإنتاجية متوفرة في الكثير من هذه الدول وغير مضطرة لاستيرادها كما هو الحال في أوروبا وبريطانيا وأميركا وهذا يتضمن المعادن والمواد الأولية دون أن ننسى تكلفة العمالة الأقل في الاقتصادات الناشئة وعدم القدرة على دفع مليارات الدولارات لدعم الاقتصاد بتأثير من الجائحة كما فعلت الدول الغنية لأن هذه المليارات كانت سلاحاً ذو حدين، حيث ساعدت في الإنفاق ودعم الشركات ولكنها رفعت التضخم بقوة".
ويمكن القول ببساطة أن العالم يتجه شرقاً وسيكون العقدين القادمين ملعباً مهماً في آسيا وهذا سيفتح المجال أيضاً إلى تحسين قواعد الاستثمار والحوكمة والرقابة المالية والاستثمارية في هذه الاقتصادات التي ستحقق نمواً أعلى بكثير من دول السبع الكبرى، وبالتالي ستصبح الصين الاقتصاد الأكبر عالمياً في غضون سنوات وتتبعها الهند لتكون الثالثة قريباً جداً، وفقاً لكبير استراتيجي الأسواق في "BDSwiss MENA".
منطقة ديناميكية
بدوره، قال الخبير الاقتصادي الدكتور عبدالله الشناوي في حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية": "من المتوقع أن يشهد العام الحالي كثيراً من التحديات التي تواجه الاقتصاد العالمي، حيث يستمر تباطؤ النمو العالمي مع استمرار تأثير السياسة النقدية الانكماشية، والحرب الروسية الأوكرانية على النشاط الاقتصادي، وستؤدي مشاكل القطاع المالي والضغوط التضخمية في أوروبا والولايات المتحدة إلى مزيد من عدم اليقين، ورغم ما يلوح في الأفق من قتامة إلا أن منطقة آسيا لا تزال تتصف بالديناميكية ولذلك من المتوقع أن تسهم هذه المنطقة بنحو 70 بالمئة من النمو العالمي هذا العام مع تسارع التوسع من 3.8 بالمئة عام 2022 إلى 4.6 بالمئة عام 2023".
وتوقع الشناوي أن تظل آسيا الناشئة واحدة من أكثر المناطق جاذبية لقادة الأعمال والمستثمرين خلال العقدين القادمين، نظراً لتطور فئة المستهلكين، والتحول الرقمي، والتوسع الحضري السريع، ويمكن أن يعود ذلك إلى ما يلي:
* ضعف الطلب الخارجي على منتجات التكنولوجيا والصادرات الأخرى.
* إعادة فتح الصين سيوفر الحافز الجديد والقوي، وعادة ما يأتي التأثير الأقوى من الطلب على السلع الاستثمارية، ولكن هذه المرة يكون التأثير قادماً من الطلب على الاستهلاك. حيث من المتوقع أن تسهم الصين والهند فقط بأكثر من نصف النمو العالمي هذا العام مع مساهمة بقية آسيا بحوالي ربع إضافي وذلك لكل من كمبوديا، وإندونيسيا، وماليزيا، والفلبين، وتايلند وفيتنام.
* فقدان الدولار الأميركي بعض قوته ما ساعد على انتعاش العملات الآسيوية.
* اتجاه معدل التضخم المرتفع في السابق نحو الاعتدال.
* تلاشي اضطرابات سلاسل التوريد.
* ازدهار قطاع الخدمات.
محركات النمو
ورداً على سؤال حول محركات النمو التي تجعل معدل نمو دول منطقة آسيا أكبر مما تحققه الولايات المتحدة وأوروبا، أجاب الدكتور الشناوي، أن هناك محركات للنمو متنوعة نوردها على النحو التالي:
* التحول من النمو القائم على الاستثمار إلى نمو الاستهلاك الأكثر استدامة، وذلك بالنسبة للصين بينما لبقية الاقتصادات مثل (الهند وإندونيسيا والفلبين وبنغلاديش وفيتنام) يتركز اهتمامها على تعبئة الموارد نحو البنية التحتية والاستثمار، ناهيك عن أن كل اقتصاد سيتطور بطريقته ويظل القاسم المشترك أو المفتاح السحري هو التكامل الاقتصادي.
* يمكن أن يؤدي السوق المحلي الكبير، إلى جانب إمكانية زيادة الإنتاجية والعمالة الرخيصة، واتباع السياسات الحكومية الأكثر دعما لتحسين بيئة الأعمال وجذب الاستثمار الأجنبي المباشر إلى تحقيق معدل نمو اقتصادي مرتفع.
* الاستهلاك حيث من المتوقع أن تفرج الطبقة الوسطى المتنامية عن الطلب المكبوت، ويكون ذلك مدعوماً بالمدخرات المتراكمة منذ بدء الوباء وخاصة الصين (بلغت مدخراتها 861.85 مليار دولار).
* هناك محرك آخر يتمثل في الخصائص السكانية المواتية نسبياً (الهند والفلبين) عكس الصين التي بدأت إصلاحات في سوق العمل للتخفيف من شيخوخة السكان.
* الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة ستؤدي إلى تحقيق أكبر قدر من الكفاءة والتكامل الاقتصادي.
* ضعف الهيمنة الأميركية حيث أصبح العالم متجها نحو تعدد الأقطاب.
* الاتجاه نحو استخدام الطاقة النظيفة.
العوامل المؤثرة على الأداء الاقتصادي لدول آسيا
وعلى الرغم من رفع توقعات النمو لمنطقة آسيا بيد أن الخبير الاقتصادي الدكتور الشناوي أشار إلى عدة عوامل تؤثر على الأداء الاقتصادي لدول آسيا وتلقي بظلال الشك على المخاطر التي تواجه الدول الآسيوية المرتبطة بالتوقعات وهي:
* استمرار ارتفاع أسعار الفائدة وعدم اليقين بشأنها والذي يؤثر بشكل غير مباشر على العملات.
* ارتفاع مستويات الديون في بعض الاقتصادات، وإمكانية تخفيضها دون أن يتأثر النمو سلباً.
* اتباع سياسات نقدية متشددة من قبل البنك المركزي الأوروبي وبنك الاحتياطي الفيدرالي في مواجهة التضخم يؤدي إلى تباطؤ الصادرات الآسيوية وبالتالي انخفاض النمو الاقتصادي.
* وجود بعض التشوهات في السوق جراء جائحة كورونا.
وبحسب، الشناوي، يجب على الدول الآسيوية اتباع سياسات التخفيف من المخاطر ودعم النمو وذلك عن طريق إعادة التضخم الى مستواه المستهدف، وضرورة استقرار الدين العام والخاص، وحماية الاستقرار المالي، وتحسن إمكانات النمو في الاجل الطويل، وأخيرا ضرورة اتساق السياسات المالية مع السياسات الاقتصادية الكلية بما فيها السياسة النقدية وسياسة سعر الصرف.
الاقتصادات المتخمة والمفتوحة
من جهته، أوضح مستشار الطاقة الدولي عامر الشوبكي في حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" أن الاقتصادات الغربية المتقدمة يمكن وصفها بالاقتصادات المتخمة في مجال الاستثمارات بشكل أكبر من الاقتصادات المفتوحة في آسيا مثل الصين والهند باعتبارها اقتصادات ناشئة ونامية بشكل كبير، أي أنه مازال هناك مجال لهذه الاقتصادات للتطور والتقدم عدا العوامل الأخرى سواء المهنية العالية وعدد المصانع والاستثمارات المرتفعة وأيضاً الطلب العالمي المتزايد على البضائع ذات النوعية الجيدة والسعر المنخفض الموجود في آسيا لأنه ما زالت معدلات الرواتب و دخل الفرد منخفضة عن تلك الموجودة في أوروبا والولايات المتحدة.
وعلى سبيل المثل فإن النمو الاقتصادي للصين يشكل 32 بالمئة من النمو الاقتصادي العالمي، كما أن النمو في الصين والهند سيشكل نحو 50 بالمئة من النمو الاقتصادي العالمي، فضلاً عن أن النمو الاقتصادي في الصين لوحدها سيشكل على مدى الأعوام الخمسة المقبلة بحسب توقعات صندوق النقد الدولي 22 بالمئة من النمو الاقتصادي العالمي، وهو ما يؤكد أهمية هذه الدول في العالم والتي تزداد على حساب الدول ذات الاقتصادات المتقدمة ومنها الولايات المتحدة ودول أوروبا، طبقاً لما قاله الشوبكي.
الطلب على النفط
عندما يكون هناك نمو اقتصادي وحركة ونشاط سيكون هناك طلب على النفط، لذلك كان الاعتماد دائماً على الصين بنمو الطلب على النفط باعتبارها أكبر مستهلك للنفط في العالم، بحسب الشوبكي، الذي أوضح "أن العديد من الدول مثل الصين والهند واليابان تستورد معظم حاجتها من النفط، والدولة المنتجة تعتمد بشكل كبير على هذه الدول، وإذا كان هناك نمو اقتصادي فأنها سترفع من نمو الطلب على النفط ولذلك من المتوقع أن للصين أن تشكل بين 50 و60 بالمئة من نمو الطلب على النفط في العام الحالي، ولذلك لا بد للدول المنتجة الاهتمام بهذه الدول والمحافظة على علاقات متميزة معها لأنها تشكل الوجهة الرئيسية لتصريف منتجاتها من الطاقة سواء النفط أو الغاز".