بعد سلسلة من التحقيقات التي استمرت لأشهر، أصدرت قاضية التحقيق الفرنسية أود بوروزي، مذكرة توقيف دولية بحق حاكم مصرف لبنان المركزي رياض سلامة، الذي تغيّب عن جلسة استجواب حددت له في باريس بتاريخ 16 مايو 2023، وذلك في إطار تحقيقات تجريها فرنسا، حول مصدر ثروته وشبهات غسيل أموال قام بها على أراضيها.
وتحول سلامة منذ نهاية عام 2019 لأحد أبرز المُلامين عن الأزمة المالية التي يمر بها لبنان، حيث وجد نفسه محور تحقيقات قضائية لبنانية وأوروبية بتهم مالية عدة.
وكان سلامة قد خضع لاستجواب دقيق ومركّز في بيروت في شهر مارس 2023، من قبل قضاة أوروبيين وتحت إشراف القضاء اللبناني، حيث وجّهت إليه مئات الأسئلة التي تركّزت معظمها حول عمليات تبييض أموال في مصارف أوروبية.
ثلاثة أنواع من الملاحقات
وتختلف أنواع الملاحقات التي يتعرض لها حاكم مصرف لبنان المركزي، حيث يرتبط النوع الأول بملاحقات حول مسؤوليته المباشرة عن الانهيار المالي في لبنان، فيما يرتبط النوع الثاني بتحقيقات خارج لبنان، بشأن الإثراء غير المشروع واختلاس أموال عبر شركة الوساطة "فوري أسوشييتس" المملوكة لرجا سلامة وهو شقيق حاكم مصرف لبنان، في حين يرتبط النوع الثالث باتهامات تبييض أموال وجمع ثروة طائلة في أوروبا وتحديدا في فرنسا، وشراء عقارات فخمة عن طريق إساءة استخدام سلطته.
وتم تعيين رياض سلامة كحاكم لمصرف لبنان المركزي في الأول من أغسطس 1993 لمدة 6 سنوات، وأعيد تعيينه لأربع ولايات متتالية في أعوام 1999 و2005 و2011 و2017، وهو سيطوي في يوليو 2023 عهداً استمر لمدة 30 عاماً.
كيف جمع سلامة ثروته؟
ويصر سلامة على أنه جمع ثروته من عمله السابق طيلة عقدين في مؤسسة "ميريل لينش" المالية العالمية، ومن استثمارات في مجالات عدة، بمعزل عن عمله على رأس مصرف لبنان.
وكان سلامة كشف في بداية عام 2022 أن حجم ثروته الشخصية، يبلغ نحو 150 مليون دولار، مشيراً الى أنه استفاد من استشارات استثمارية وقروض مصرفية، لشراء أحد العقارات الفخمة مؤكداً أنه لا يرى جريمة في ذلك.
مخاوف من حظر المصارف المراسلة
لكن إصدار القضاء الفرنسي مذكرة توقيف دولية بحقسلامة، أعاد خلط الأوراق المتعلقة بهذا الملف، وذلك وسط مخاوف من أن تدفع هذه المذكرة المصارف المراسلة، إلى الامتناع عن إجراء أي تحويلات أو معاملات مالية مع مصرف لبنان المركزي، الأمر الذي يحتم تنحيه عن منصبه فوراً.
وتتعلق مذكرة التوقيف الفرنسية بقضايا "تبييض أموال" حصلت على الأراضي الفرنسية، حيث أنه وبحسب وكالة "فرانس برس"، يشتبه المحققون الفرنسيون في أنّ سلامة راكم أصولاً عقارية ومصرفية، عبر مخطط مالي احتيالي معقّد، وأساء استخدام أموال عامة لبنانية على نطاق واسع، خلال توليه إدارة مصرف لبنان طيلة ثلاثة عقود.
ورد رياض سلامة من خلال بيان صحفي على مذكرة التوقيف التي أصدرها القضاء الفرنسي، بالتأكيد على أنه سيعمد إلى الطعن بهذا القرار الذي يشكل مخالفة للقوانين، مشيراً إلى أن التحقيق الفرنسي ضرب مبدأً جوهرياً يتعلق بسرية التحقيقات، وهو ما ظهر من خلال حصول الوكالات الصحفية على وثائق التحقيق السرية كما أن هذه الوكالات تأخذ علماً مسبقاً بنوايا المحققين والقضاة.
لا تبليغ حسب الأصول
من جهته قال وكيل حاكم مصرف لبنان المحامي بيار-أوليفييه سور، إن تغّيب سلامة عن جلسة التحقيق في 16 مايو 2023، يعود إلى عدم تبليغه بوجوب المثول أمام القضاء الفرنسي وفق الأصول، وهذا الأمر أكده القضاء اللبناني الذي أعلن أنّ السلطات فشلت في إبلاغ سلامة بالاستدعاء.
ويقول مصدر قانوني لبناني رفيع في حديث لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن لبنان لديه الحق بعدم تسليم حاكم مصرف لبنان إلى السلطات الفرنسية، وقد سبق للقضاء اللبناني أن واجه حالات مماثلة، واتخذ قرارات بشأنها، مشيراً إلى أن السيناريو المتوقع حدوثه بعد تعميم اسم رياض سلامة كمطلوب من الإنتربول على مستوى العالم، هو أن يقوم سلامة بالتنحي عن منصبه بطلب من السلطات اللبنانية، لتقوم بعدها السلطات القضائية اللبنانية، بالإعلان أنها ستحاكم سلامة على أراضيها بعد مصادرة جواز سفره ومنعه من السفر.
وبحسب المصدر القانوني فإن السيناريو الثاني قد يكون بإجبار حاكم مصرف لبنان على التنحي عن منصبه، عبر توقيفه من قبل القضاء اللبناني، مع رفض تسليمه للقضاء الفرنسي، وهو السيناريو الأقل قابلية للتنفيذ ويستلم خلاله النائب الأول للحاكم منصب سلامة لحين اختيار حاكم جديد، أما السيناريو الثالث فهو استمرار سلامة في منصبه حتى نهاية ولايته في نهاية يونيو وبداية يوليو 2023، حيث يترافق ذلك مع خضوعه للتحقيقات التي يجريها القضاء اللبناني، معتبراً أن هذا السيناريو ستكون تداعياته خطرة على اعتبار أن رأس النظام المالي اللبناني، بات محل شبهة دولية تتعلق بالاختلاس والتزوير وتبييض الأموال.
علم مسبق للسوق بمذكرة التوقيف
من جهته يقول المستشار المصرفي بهيج الخطيب، في حديث لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن السوق اللبنانية كانت في صورة ما سيحدث يوم أمس، حيث تم تسريب خبر إصدار مذكرة توقيف فرنسية بحق حاكم مصرف لبنان، منذ نحو أسبوعين تقريباً، ولذلك رأينا استقراراً على الصعيد النقدي والمالي والمصرفي في البلاد بعد صدور المذكرة، في حين حافظ سعر صرف الدولار الأميركي مقابل الليرة اللبنانية على استقراره أيضاً، عند مستوى 94 الف لليرة لكل دولار، ومن هنا يمكن التأكيد على أن السوق المحلية استوعبت الصدمة دون تسجيل أي ارتدادات.
ويضيف الخطيب أن هناك احتمالا كبيرا في أن تدفع مذكرة التوقيف الدولية، البنوك المراسلة إلى التوقف عن التعامل مع لبنان، وهو الأمر الذي ستكون له ارتدادات كبيرة، خصوصاً أن اقتصاد لبنان بات "مدولراً" وبالتالي فإن أي خطوة في هذا الاتجاه قد تعزل لبنان عن النظام المالي العالمي، وهو أمر لا يمكن لأحد تحمل تبعاته، مشيراً إلى أن الساعات أو الأيام المقبلة، ستكون حاسمة بالنسبة للخيار الذي سيلجأ إليه حاكم مصرف لبنان، أو حتى السلطات اللبنانية، مع وجود احتمال ضعيف بأن تقوم الحكومة اللبنانيية بتعيين حاكم جديد لمصرف لبنان.
زعزعة الثقة وضغوط على الليرة
من جهته يقول رئيس المعهد اللبناني لدراسات السوق باتريك مارديني، في حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن مذكرة التوقيف الفرنسية ستزعزع الثقة في القطاع المالي اللبناني، ما سيؤدي إلى مزيد من الضغوط على الليرة اللبنانية، وسيصعّب من قدرة المركزي على التدخل في السوق، مشيراً إلى أن ولاية حاكم مصرف لبنان تنتهي بعد نحو شهرين ونصف من الآن، ولذلك فإن مسألة تنحيه من عدمها، ليست بالأمر المهم كونه سيرحل في نهاية المطاف.
ويرى مارديني أن البحث يجب أن يتركز حاليا على مواصفات الحاكم الجديد لمصرف لبنان، والذي يجب أن يوحي بالمصداقية، بما يكفل استعادة الثقة بالليرة اللبنانية والنظام المصرفي اللبناني، مشيرا إلى أن أي شخص يجب أن يأتي بعد الحاكم سلامة، إن كان حاكماً جديداً أو أحد نوابه الحاليين فإنه يجب عليه أن يلتزم بوقف طباعة الليرة، وبعدم التصرف باحتياطي العملات الأجنبية في البلاد.