لا تخفى محاولات الولايات المتحدة الأميركية لخنق الصين اقتصادياً، في سياق الحرب التجارية بين البلدين، ومع ما يمثله صعود بكين كمُهدد رئيسي لمكانة ونفوذ واشنطن عالمياً.
عبرت عن ذلك بشكل واضح استراتيجية الأمن القومي الأميركي، والتي صنفت المارد الصيني باعتباره "التحدي الجيوسياسي الأكثر أهمية" للولايات المتحدة.
على الجانب الآخر، وبينما ندد الرئيس الصيني شي جين بينغ، في أكثر من مناسبة، بما عدّه "حملة غربية بقيادة الولايات المتحدة لتطويق واحتواء الصين"، فإن الصين تسلك مسارات متزامنة في مواجهة تلك المحاولات الأميركية، متسلحة بالزخم الواسع لعلاقاتها الاقتصادية والتجارية مع مجموعة من حلفاء واشنطن، وكذلك بصعوبات "فك الارتباط"، ومع تغلغل الصين اقتصادياً في عديد من مناطق نفوذ واشنطن التقليدية.
وفي هذا السياق، بعثت الزيارات الأوروبية المُتكررة إلى الصين -آخرها زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وما أثارته تصريحاته بعدها من لغط واسع بشأن العلاقات الأوروبية الأميركية- بعددٍ من الرسائل على الصعيد الاقتصادي؛ أهمها أن القارة العجوز ليس بمقدورها الفكاك من علاقاتها التجارية مع الصين بسهولة، وأن عديداً من الدول الأوروبية يحتفظ بوجهة نظر خاصة فيما يخص العلاقة مع الصين، ليست بالضرورة تتفق في مجملها مع الولايات المتحدة.
واشنطن لن تستطيع عزل أوروبا عن الصين
يقول خبير الشؤون الآسيوية، الدكتور جلال رحيم، في تصريحات لـ "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن الولايات المتحدة تستعمل أوروبا وتحاول الزج بها في التنافس الاستراتيجي بين قوة عالمية على أرض الواقع وقوة صاعدة تحاول ليس فقط منافسة واشنطن وإنما إزاحتها عن قيادة العالم.
ورغم هذا الضغط الأميركي على أوروبا، يعتقد رحيم بأن "واشنطن لن تستطيع عزل أوروبا عن الصين من الناحية الاقتصادية، بالنظر إلى المصالح الاقتصادية والتجارية الكبيرة جداً بالنسبة لأوروبا مع الصين".
- ارتفع إجمالى حجم التجارة بين الاتحاد الأوروبي والصين بنسبة حوالي 23 بالمئة في 2022 مقارنة بالعام 2021، ليصل إلى 856.3 مليار يورو (912.6 مليار دولار)، بحسب يوروستات.
- بلغ حجم التجارة الثنائية بين الصين وفرنسا في 2022 أكثر من 81.2 مليار دولار أميركي.
- الصين هي أكبر شريك تجاري لفرنسا في آسيا، وسادس أكبر شريك على مستوى العالم.
- فرنسا هي أكبر شريك تجاري للصين داخل الاتحاد الأوروبي. كما أن باريس كانت أول دولة تنشئ آلية مع الصين للتعاون بين الشركات في كلا البلدين في إطار مبادرة الحزام والطريق.
ويستشهد خبير الشؤون الآسيوية في هذا السياق، بالزيارات الأوروبية المتتالية إلى الصين، والتي يسعى من خلالها المسؤولون الأوروبيون إلى محاولة إقناع الصين بأن الأوربيين يتعاملون مع الولايات المتحدة على المستوى السياسي والعسكري في الناتو وغير ذلك، لكن هذا الارتباط والتحالف "لا يجب أن ينفي أو يناقض مصالحهم الاقتصادية والتجارية مع الصين".
ويتابع: "هذا ما سعى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أخيراً لتأكيده خلال زيارته التي أطلق خلالها مجموعة من التصريحات النارية، لا سيما فيما يخص الاستقلال الاستراتيجي الذاتي عن الهيمنة الأميركية (..)".
ويشير رحيم إلى أن "الولايات المتحدة لها نفوذ سياسي ومعنوى وعسكري كبير في أوروبا، لكن بالنسبة للمصالح الاقتصادية والتجارية مع الصين من الصعب التأثير عليها (..) نرى تنافساً على سبيل المثال بين الشركات الفرنسية والألمانية والإيطالية على الاستثمارات في الصين (..) الرئيس ماكرون اصطحب معه عدد من رجال الأعمال في زيارته الأخيرة للصين على سبيل المثال، وقد ذهب من أجل خدمة المصالح الفرنسية والترويج وفتح مجال للاستثمار".
وفيما يخص ما ذكره رحيم بشأن سباق الشركات الأوروبية على الاستثمار في الصين في وقت تسعى فيه واشنطن خنق بكين اقتصادياً، أشار تقرير لصحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، إلى عددٍ من الشواهد فيما يخص الشركات الألمانية، على النحو التالي:
- ثمة شركات ألمانية تتردد في ترك السوق الصينية الضخمة، وتسعى من أجل توسيع نشاطها بها.
- فولكس فاغن، وشركة الكيماويات (BASF) وهما محركان رئيسيان للاقتصاد، يعملان على توسيع استثماراتهما الصينية.
- فولكس فاغن (لها أكثر من 40 مصنعاً في بكين) شرعت في تطوير أعمالها وضخ استثمارات بالمليارات في الشراكات المحلية ومواقع الإنتاج.
- تواصل BASF رفقة 30 منشأة إنتاج في الصين خطط إنفاق 10 مليارات يورو على مجمع إنتاج كيميائي جديد.
ويلفت خبير الشؤون الآسيوية إلى أن حجم التجارة بين الصين والاتحاد الأوروبي ككتلة يتجاوز حجم التجارة الأميركية الصينية بمرة ونصف تقريباً.
دراسة سابقة صادرة عن معهد كيل الألماني، نبهت إلى خطورة ما وصفته بـ "الانفصال عن الصين" على القارة العجوز، واعتبرت أن ذلك الانفصال سيكون مكلفاً بالنسبة لدول القارة، ومن بينها ألمانيا التي هي مُهددة بخسارة ما يربو عن 131 مليار يورو أو أكثر إن ابتعدت عن بكين.
- حافظت الصين على مكانتها كأكبر شريك تجاري لألمانيا، للعام السابع على التوالي، في 2022.
- بلغ التبادل التجاري بين البلدين العام الماضي 297.9 مليار يورو ، مسجلاً زيادة 20 بالمئة عن 2021.
ومن بين أبرز الإجراءات الصينية الأخيرة، التي تهدف بكين من خلالها ربط أسواقها بالنظام المالي العالمي، موافقة السلطات المالية على برنامج "سواب كونيكت" لتبادل سندات الدين بالعملة الصينية، وذلك بقيمة تصل إلى خمسة تريلوينات دولار، وبما يوفر أدوات استثمارية للمنكشفين على سندات الديون باليوان للتحوط من تغيرات أسعار الفائدة، طبقاً لتقرير نشرته فاينانشال تايمز.
يتزامن ذلك أيضاً في وقتٍ تلعب فيه الصين دوراً واسعاً في التشجيع على التخلي عن هيمنة الدولار على المعاملات الدولية، سواء من خلال اتفاقات التبادل بالعملات الوطنية بينها وبين بعض الدول، وكذلك دعمها إطلاق عملة بديلة ضمن تحالف البريكس، الذي يضم البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا.
تفوق صيني في حديقة أميركا الخلفية
وفي السياق، جاءت زيارة الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا إلى الصين أخيراً كذلك لتؤكد تلك المسارات الصينية في مواجهة محاولات تطويقها، ولتشير بوضوح إلى النشاط الاقتصادي الصيني الواسع في مناطق شكلت في وقت سابق محور نفوذ أميركي ثابت وقوي، قبل منازعة بكين لهذا الحضور.
الباحث في العلاقات الدولية المتخصص في شؤون أمريكا اللاتينية، محمد عطيف، يلفت في تصريحات لـ "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إلى أن "أميركا اللاتينية التي توصف بكونها الحديقة الخلفية للولايات المتحدة الأميركية، تشهد تنافساً قوياً بين القوى الكبرى، خاصة بين واشنطن وبكين، في ضوء ما تزخر به من مزايا، ومع وجود دول صاعدة اقتصادياً كالبرازيل المكسيك".
وفيما سعت الولايات المتحدة الأميركية لإثناء حديثتها الخلفية عن بكين، إلا أن النفوذ الصيني وجد موطئ قدم كبير وواسع هناك ضمن مجموعة من المحاور التي تمكن بكين من فرض نفوذها فيها حول العالم مثل أفريقيا وأميركا اللاتينية، وبما يدحض المحاولات الأميركية لعزل الصين.
وفي ظل الحرب التجارية بين واشنطن وبكين والتنافس الاستراتيجي الواسع بينهما، فإنه"من مصلحة الولايات المتحدة إبعاد الصين عن أميركا اللاتينية، وتريد واشنطن إعادة إحياء مبدأ مونرو، في سياق عدم رغبتها في أي منافس دولي في هذه المنطقة من الناحية العسكرية والاقتصادية"، وفق عطيف.
ويشير عطيف إلى العلاقات بين الصين والبرازيل كنموذج، لا سيما في ظل الزيارة الأخيرة التي أجراها الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا إلى الصين ولقائه مع الرئيس شي جينبينغ، مؤكداً الأبعاد الاقتصادية ذات الصلة، وفي ظل اتفاق البلدين على التعامل بالعملات الوطنية عوضاً عن الدولار في المعاملات التجارية بين البلدين.
الاقتصاد الصيني
وفي ظل مجموعة من الإجراءات والتطورات التي تهدد هيمنة الدولار، ومع توسع الصين في علاقاتها الخارجية رغم المساعي الأميركية لمحاصرتها اقتصادياً، يقول عطيف: "في تقديري، أصبحت الصين قوة أساسية مستحوذة على الأسواق الدولية بما لديها من نفوذ في مختلف بقاع العالم على المستوى الاقتصادي، وقد عزز من ذلك استخدامها القوى الناعمة.. ينطبق ذلك على أميركا اللاتينية، حيث يتراجع الحضور الأميركي لصالح النفوذ الصيني، وضمن مجموعة من المتغيرات الدولية، وفي ظل الانتقال إلى نظام عالمي جديد".
وفي هذا السياق، تشير التقديرات الصادرة عن مركز أبحاث الأعمال البريطاني، إلى أن بكين سوف يتجاوز اقتصادها الاقتصاد الأميركي بحلول العام 2028.
وتتزامن مع المسارات الصينية الجديدة في مواجهة محاولات تطويقها اقتصادياً، مجموعة من المتغيرات التي طرأت على السياسة الخارجية الصينية، من بينها بزوغ بكين كوسيط من أجل حلحلة عديد من الأزمات، على سبيل المثال مبادرتها فيما يخص الحرب في أوكرانيا، وكذلك وساطتها بين إيران والمملكة العربية السعودية، وبما يعزز حضور الصين الدولي، الأمر الذي ينعكس بشكل كبير على اقتصاد بكين.