منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية في نهاية شهر فبراير الماضي، قامت العديد من دول العالم في شرقه وغربه بفرض عقوبات على روسيا، كرد على العمليات العسكرية التي أعلنت القيام بها في أوكرانيا.
وتوقعت العديد من التقارير أن الاقتصاد الروسي سيعاني بشدة نتيجة للعقوبات، فضلا عن معاناته نتيجة انسحاب العديد من الشركات في مختلف القطاعات من الاقتصاد الروسي.
إلا أن ما يشعر به المواطن الروسي، في واقع الأمر، لا يزال محلًا للخلاف.
فهل عرقلت العقوبات على روسيا من اقتصادها؟ أم أن الاقتصاد الروسي استوعب هذه العقوبات دون تأثير كبير؟
العمليات مستمرة
على الرغم من مرور نحو 6 أشهر على فرض العقوبات على روسيا، إلا أن عملياتها لا تزال مستمرة في أوكرانيا، مما قد يشير إلى أن قدرات الاقتصاد الروسي لم تتأثر بالشكل الذي يمنعها من الاستمرار في عملياتها العسكرية في أوكرانيا.
وفي تقريره الأخير، والذي يوحي بنوع من الهدوء في الاقتصاد الروسي، عدل صندوق النقد الدولي من توقعاته لنسبة انكماش الاقتصاد الروسي خلال العام الجاري، لتصبح النسبة المتوقعة 6 بالمئة فقط، بدلا من 8.5 بالمئة.
إلا أن الصندوق لم يكتفي فقط بتعديل نظرته إلى روسيا، بل عدل من توقعاته حول نمو الاقتصاد العالمي ككل، وحول نمو اقتصاد كل من الولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي.
وانكمش اقتصاد الولايات المتحدة الأميركية خلال الربعين الأول والثاني من العام الجاري، ليصبح نظريًا في ركود.
وأوضح تقرير صندوق النقد الدولي أن الاقتصاد الروسي قد انكمش بأقل من المتوقع في الربع الثاني من العام الجاري نتيجة لبقاء عوائد الصادرات الروسية، سواء النفطية وغير النفطية، عند مستويات جيدة.
وأشار التقرير إلى أن الطلب المحلي في روسيا أظهر مرونة كبيرة بفضل احتواء تأثير العقوبات على القطاع المالي والمحلي، كما كان التأثر بسوق العمل داخل روسيا أقل من المتوقع.
ومن جهة أخرى، وعلى عكس ما يظنه البعض من أن العقوبات قد استهدفت روسيا وحدها، أوضح صندوق النقد في تقريره أن تأثير الحرب على الاقتصادات الأوروبية الرئيسية كان سلبيًا بأكثر من التوقعات، بسبب ارتفاع أسعار الطاقة وضعف ثقة المستهلكين، وتباطؤ الزخم في التصنيع نتيجة الاضطرابات في سلاسل التوريد، بجانب ارتفاع تكاليف المدخلات الإنتاجية.
وجاء ارتفاع أسعار الطاقة في وقت تراجعت في إمدادات روسيا من الغاز إلى القارة الأوروبية عبر خط أنابيب "نورد ستريم 1" لتصل إلى نحو 20 بالمئة فقط من طاقته الاستيعابية، ما يثير المخاوف من احتمال انقطاع الغاز بشكل كامل من الجانب الروسي، قبل أشهر قليلة من فصل شتاء قد يكون الأسوأ في القارة العجوز.
وكان الاتحاد الأوروبي قد أعلن عن خطة تهدف لتقليل الطلب على الغاز بنحو 15 بالمئة، في خطوة استباقية تستعد بها دول الاتحاد الأوروبي لشتاء قد يشهد انقطاع كامل للغاز الروسي.
وكان للبنك الدولي رؤية مماثلة، إذ عدل البنك من توقعاته لمستوى الانكماش بالاقتصاد الروسي للعام، لتكون النسبة 8.9 بالمئة في أحدث تقاريره، بدلا من نسبة انكماش توقعها البنك الدولي سابقًا عند 11.3 بالمئة.
وفي ظل ما سبق، خفض البنك المركزي الروسي من معدلات الفائدة إلى مستويات ما قبل أزمة أوكرانيا، في إشارة توضح بأن الاقتصاد الروسي يعمل بشكل أفضل من التوقعات الدولية، وبشكل قد يكون أفضل من الاقتصادات الكبيرة الأخرى.
روسيا تضررت
من جهة أخرى، وجد تحليل لجامعة ييل الأميركية، أن الاقتصاد الروسي قد "تضرر بقوة كبيرة" جراء العقوبات الاقتصادية المفروضة عليه، فضلا عن انسحاب العديد من الشركات من الاقتصاد الروسي عقب الأزمة في أوكرانيا.
وتأتي نتيجة الدراسة التي أجرتها الجامعة، في وقت يظهر في الاقتصاد الروسي أنه صامد في وجه العقوبات، إذ توضح الدراسة أن إصدارات الحكومة الروسية حول الاقتصاد في البلاد "منتقاة وغير كاملة".
وأشارت الدراسة إلى أن روسيا تمتلك تاريخا من عمليات التغيير بالاحصاءات الاقتصادية، حتى من قبل الأزمة.
وأوضحت أن العقوبات الاقتصادية وانسحاب الشركات الغربية من روسيا "تعرقل" الاقتصاد الروسي بشكل كارثي لا تستطيع موسكو إخفاؤه رغم محاولاتها.
إذ تراجعت عائدات روسيا من النفط والغاز بنحو النصف في شهر مايو، مقارنة بشهر أبريل.، وفقًا للدراسة، والتي أوضحت أن صادرات روسيا من مواد الطاقة، كالنفط والغاز وغيرها، تشكل نحو 60 بالمئة من إجمالي إيرادات الحكومة الروسية.
كما أوضحت الدراسة أن روسيا تعتمد بشكل كبير على عائدات صادراتها من الغاز إلى الاتحاد الأوروبي، وبشكل "أكبر بكثير" من اعتماد أوروبا على الغاز الروسي.
إذ تجني روسيا نحو 83 بالمئة من عائدات صادرتها من الغاز عن طريق الاتحاد الأوروبي، بينما تمثل عائدتها من صادرات الغاز إلى الصين نحو 2 بالمئة فقط، وتحصل على نحو 12 بالمئة من دول الاتحاد السوفيتي السابقة.
الدراسة، والتي صدرت بنهاية شهر يوليو، أوضحت أن الشركات التي تخارجت من الاقتصاد الروسي عكست الجهود التي قامت بها موسكو خلال نحو 30 عامًا لجذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، إذ تساهم هذه الشركات، بحسب الدراسة، في نحو 40 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد.
وعن المستقبل القريب، تؤكد الدراسة أن روسيا ليس أمامها أي مفر لكي تتجنب الأثر القوي للعقوبات التي جعلت الاقتصاد الروسي "يترنح"، موضحة أن أي تقارير عن انتعاش محتمل للاقتصاد الروسي ليست واقعية.
واقترحت الدراسة على الدول الداعمة لأوكرانيا فرض المزيد من العقوبات على روسيا، مشيرة إلى أن الوقت ليس ملائمًا كي تخفف الدول الغربية من شدة عقوبتها ضد موسكو.
وذكرت الدراسة، أنه وبحسب تصريحات لوزير المالية الروسي، فإن موسكو قامت بسحب الأموال من صناديقها لتغطية العجز في ميزانيته، والتي سجلت عجزًا لأول مرة منذ سنوات، الأمر الذي يوضح أن روسيا تستنزف الاحتياطات الأجنبية حتى في ظل ارتفاع أسعار الطاقة.
الضرر أصاب الجميع
وقال أستاذ الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، د. أحمد غنيم، لاقتصاد سكاي نيوز عربية إن حدوث ضرر بالاقتصاد الروسي أمر لا يمكن الشك فيه، في ظل استمرار العمليات العسكرية في أوكرانيا، والتي تمثل وحدها حملًا قويا على الاقتصاد الروسي، كما أنها تأتي وسط عقوبات من مختلف الدول شملت أغلب قطاعات الاقتصاد.
وأوضح أنه لا يمكن لأي اقتصاد في العالم أن يبقى دون ضرر من عقوبات اقتصادية كبيرة فرضتها العديد من الدول الكبرى في وقت واحد، ولكنه أشار إلى أن اقتصاد روسيا أبدى قدرة على المقاومة فاقت التوقعات الغربية.
وأكد غنيم أن للضرر على اقتصادات الدول الغربية وقعُ أكبر من الضرر على الاقتصاد الروسي، مشيرًا إلى الارتفاع الكبير في أسعار النفط والغاز، والذي أضر بشدة باقتصادات الدول الأوروبية، خاصة مع تراجع إمدادات الغاز إلى الاتحاد الأوروبي.
ويرى أستاذ الاقتصاد أن لدى موسكو شبكة جيدة من العلاقات عززت من قدرتها على امتصاص أثر العقوبات بشكل كبير، مشيرًا إلى العلاقات الجيدة التي تجمع بين روسيا ودول قوية كالصين وتركيا وغيرها من الدول.
وتضررت العديد من الدول في العالم من تبعات الأزمة الأوكرانية، والتي أدت لارتفاع كبير في أسعار المواد الغذائية وأسعار الطاقة.
وحول القطاعات المتضررة من العقوبات الروسية، أوضح غنيم أن قطاعات البنوك وقطاعات التعدين تأثرت بشكل قوي من العقوبات على الاقتصاد الروسي، إلا أن الدول الغربية أيضًا تضررت نتيجة العقوبات، وبشكل قد يكون أسوأ من الجانب الروسي، والذي استعد جيدًا للعقوبات الغربية على اقتصاده.
ويرى غنيم أن للجانب الروسي القدرة على الاستمرار في سياسة "النفس الطويل" بشكل أكبر من الجانب الغربي، موضحًا أنه في حالة استمرار الأوضاع كما هي عليه وبقاء الأزمة الأوكرانية دون حل، فقد يعمل الغرب على محاولة إعادة دمج روسيا للسوق العالمية مرة أخرى بهدف التخفيف من حدة الأزمة على اقتصاداته.