في وقت متأخر من يوم 15 يوليو 2016، كانت مجموعة من الموظفين داخل السفارة التركية في كراكاس تحاول جاهدة تفسير المشاهد المصورة التي بثتها شاشات التلفزيون وانتشرت على الإنترنت من بلدهم.
كانت الشاحنات العسكرية تسد جسرًا فوق مضيق البوسفور، والدبابات تتدفق إلى مطار إسطنبول، والدخان يتصاعد من شوارع أنقرة. قيل إن مجموعة داخل الجيش التركي تحاول الإطاحة بحكومة الرئيس رجب طيب أردوغان.
أما القائم بالأعمال في البعثة الدبلوماسية لتركيا في فنزويلا، إمدات أونر، الذي تحدث إلى وكالة "بلومبيرغ" الأميركية، كان يحاول سماع تقرير خبري يبث على الهواء مباشرة عندما رن هاتفًه، فانسحب بعيدًا عن زملائه. وكان على الخط صمويل مونكادا، نائب وزير الخارجية الفنزويلي.
عرفه أونر، لكن تعجب من طريقة كلامه وكأنه لم يعرف أيًا من الفنزويليين جيدًا، فالعلاقة بين تركيا وحكومة نيكولاس مادورو التي بدت لأونر سطحية، كانت في أحسن الأحوال.
على مدى عقد من الزمن، كانت تركيا تحاول بدء التجارة مع أميركا اللاتينية، لكن فنزويلا ظلت منطقة ميتة. كان هوغو شافيز، سلف مادورو، ينتقد تركيا بانتظام لمعارضتها الرئيس السوري بشار الأسد، الحليف الفنزويلي.
بعد وقت قصير من وفاة شافيز في مارس 2013، حاولت تركيا، من جديد إنعاش العلاقات الاقتصادية مع فنزويلا، وأعلنت الدولتان، في ديسمبر 2016، عن رحلات طيران مباشرة من كراكاس إلى إسطنبول على الخطوط الجوية التركية.
ومنذ ذلك الوقت، يقول أونر إنه تجاهل هذا التطور المفاجئ بين البلدين. حتى بعد الانهيار المتسارع والمستمر للاقتصاد الفنزويلي، فإن عروض تركيا لتجارة الأغذية والمنتجات الصيدلانية مقابل ألا تصل مشتقات النفط الفنزويلية إلى أي مكان.
وبالرجوع إلى ليلة الانقلاب، فقد تفاجئ أونر بالرسالة التي تسلمها الآن من نائب وزير الخارجية الفنزويلي نيابة عن مادورو الذي وعد فيها بالتضامن الثابت مع أردوغان في مواجهة "التدخل الخارجي".
بدا مادورو مقتنعًا بأن الولايات المتحدة نظمت هذا الانقلاب المزعوم، تمامًا مثلما اتهم الأميركيين بالوقوف وراء محاولة انقلاب فاشلة ضد شافيز عام 2002.
كان أردوغان يتفق في هذا النهج مع مادورو. وفي الأشهر التي تلت الانقلاب، قام نظام أردوغان بتجريد مئات الدبلوماسيين من ألقابهم - بمن فيهم أونر ، الذي يعيش الآن في المنفى في فلوريدا، ووصفه بأنهم مؤيدون لمحاولة الانقلاب المدعومة من الولايات المتحدة.
ولم ينس أردوغان تعهد مادورو بالدعم. لقد اشتكى منذ ذلك الحين من أن كل زعيم تقريبًا في أوروبا ظل صامتًا لعدة أيام بعد المؤامرة الفاشلة ما عدا مادورو.
وقال أردوغان في مؤتمر صحفي في وقت سابق من هذا العام: "مع محاولة الانقلاب، قابلنا مادورو. لقد كانت بداية جيدة".
وكانت وكالة رويترز توصلت، في تحقيق لها، إلى أنه مع انهيار اقتصاد فنزويلا، نزل ما يقدر بنحو 300 ألف من صائدي الثروات إلى معسكرات بدائية للتنقيب عن الذهب في أقصى جنوب البلاد، لكسب العيش، مستخرجين الصخور المرقطة بعروق الذهب من مناجم مؤقتة.
وتساعد معاولهم ومجارفهم في دعم الحكومة اليسارية للرئيس نيكولاس مادورو. فمنذ 2016، اشترت إدارته 17 طنا من المعدن تُقدر بنحو 650 مليون دولار ممن يُطلق عليهم عمالة التنقيب اليدوي، وفقا لأحدث بيانات من البنك المركزي للبلاد.
وبتقاضيهم الثمن بالعملة المحلية عديمة القيمة تقريبا، فإن أولئك الهواة يمدون في المقابل الحكومة بالعملة الصعبة لشراء واردات الأغذية ومنتجات النظافة التي تشتد الحاجة إليها.
وتلفت تجارة الذهب هذه الانتباه في الأسواق العالمية. لكن الولايات المتحدة تستخدم العقوبات والترهيب في مسعى لوقف مادورو عن استخدام ذهب بلاده كأداة للإبقاء على نظامه قائما.
ويحصل مادورو على دعم مهم من أردوغان الذي تشاحن على نحو مماثل من قبل مع إدارة ترامب.
ونقلت رويترز عن أشخاص مطلعين بشكل مباشر على تلك التجارة قولهم إن فنزويلا تبيع معظم ذهبها إلى مصاف تركية، ثم تستخدم بعض العوائد في شراء السلع الاستهلاكية التركية.
والمعكرونة والحليب المجفف التركيان سلعتان أساسيتان الآن في برنامج مادورو لدعم الغذاء.
وزادت التجارة بين البلدين لثمانية أمثالها العام الماضي، ومعها يزداد التدقيق في الوقت الذي بلغ فيه الوضع السياسي في فنزويلا نقطة الغليان. ومؤخرا، اعترفت العديد من الدول الغربية بزعيم المعارضة الفنزويلي خوان غوايدو كرئيس شرعي للبلاد.
ودعا خصوم مادورو المشترين الأجانب للمعدن النفيس من فنزويلا إلى وقف العمل مع ما يقولون إنه نظام غير شرعي.
ولإبعاد الحرج، نقلت وكالة بلومبيرغ عن محققين قولهم إن "شبكات إجرامية" يتم استغلالها للتجارة في الذهب مقابل الغذاء، الأمر الذي يدعم أردوغان، ويدعم مادورو في نفس الوقت.
ووفقا لموظفين رفيعي المستوى، كانوا تحدثوا إلى رويترز، تُصهر مشتريات الحكومة من الذهب في الأفران القريبة لشركة مينرفين للتنقيب التي تديرها الدولة، بعد ذلك يُنقل الذهب إلى خزائن البنك المركزي في العاصمة كراكاس الواقعة على بعد 843 كيلومترا.
لكن لا يبقى الذهب هناك طويلا. فقد انخفضت احتياطيات البنك المركزي من المعدن لأدنى مستوياتها في 75 عاما. وتبيع فنزويلا الذهب الذي يستخرجه عمال التنقيب، وكذلك الاحتياطيات القائمة لسداد فواتيرها، وفقا لمسؤولين حكوميين اثنين رفيعي المستوى.
الحلف التركي
تطور برنامج مادورو للذهب بالتزامن مع تعميق علاقته مع الرئيس التركي أردوغان. ويتعرض الرئيسان لانتقادات دولية بسبب تضييق الخناق على المعارضة السياسية، وتقويض الأعراف الديمقراطية بهدف تركيز السلطة.
وفي ضوء انخفاض الطلب على السفر بين البلدين، حدث تطور مفاجئ بإعلان فنزويلا في ديسمبر 2016 عن رحلات طيران مباشرة من كراكاس إلى إسطنبول على الخطوط الجوية التركية.
وتُظهر بيانات تركية أن تلك الطائرات لا تُقل ركابا فحسب.
ففي أول أيام 2018، بدأ البنك المركزي الفنزويلي نقل الذهب إلى تركيا بشحنة جوية من المعدن بقيمة 36 مليون دولار توجهت إلى إسطنبول. جاء ذلك بعد أسابيع فقط من زيارة قام بها مادورو إلى تركيا.
وبلغت الشحنات 900 مليون دولار على مدى العام الماضي، وفقا لبيانات حكومية تركية وتقارير تجارية.
ووفقا لمسؤولين كبيرين في فنزويلا، يبيع البنك المركزي الذهب الذي يستخرجه عمال التنقيب إلى مصاف تركية. وتذهب العوائد إلى بنك التنمية الحكومي الفنزويلي بانديس الذي يستخدمها لشراء سلع استهلاكية تركية.
الذهب مقابل الغذاء
في غضون ذلك، تشق السلع الاستهلاكية التركية طريقها إلى موائد الفنزويليين. ففي مطلع ديسمبر، وصلت 54 حاوية تحمل الحليب المجفف التركي إلى ميناء جويرا قرب كراكاس، وفقا لسجلات الميناء التي اطلعت عليها رويترز.
وبحسب إفصاحات في جريدة التسجيل التجاري الرسمية في تركيا في سبتمبر، فإن شركة مالبيري بروجيه ياتيريم للشحن التي مقرها إسطنبول، تتقاسم عنوانها مع ميرليز بروجيه ياتريم وهي شركة تعدين وقعت اتفاق مشروع مشترك مع شركة التعدين الحكومية الفنزويلية مينرفين العام الماضي.
ويقر منتقدو مادورو بأن ما فعله خدعة سحرية بارعة: فبتعويضه المواطنين المنقبين عن الذهب الذين يعانون أوضاعا مضنية بعملة البوليفار التي خسف التضخم بقيمتها، وحصوله على المعدن النفيس في المقابل، فإنه يكون قد وجد سبيلا لتحويل التراب إلى ذهب.
وقال الخبير الاقتصادي والمشرع الفنزويلي المعارض أنخيل ألفاردو إن "العمليات السوداء والآليات غير التقليدية للمبادلات التجارية" هي من بين الأدوات القليلة التي مازالت بيد مادورو.
ويضيف "هناك رغبة يائسة للبقاء في السلطة بأي ثمن".