أوجد هذا وضعا عجيبا بالنسبة للفرس. تستطيع الثقافة البيزنطية المهزومة أن ترتد إلى عمقها، إلى أرضها الأصلية، وتعبر عن نفسها. أما الفرس فكان الغزو العربي مهددا لوجود الثقافة الفارسية نفسها، لأنه نفذ إلى أرض المنشأ لا الأطراف. وهجرة هذه الثقافة إلى محلات أخرى هي في الأخير هجرة بقصد التهجين.، كما فعل بعض الفرس الذين فروا إلى الهند بثقافتهم وأنشأوا مجتمعات هناك، تأثرت بالثقافة الهندية وأثرت فيها. 

عبر الفرس عن تلك النقمة بأكثر من مظهر، كان أبرزها دعم "العباسيين" ضد الأمويين، مما أسفر في النهاية عن انتصار العباسيين، الذين كان التأثير الثقافي الفارسي في بلاطهم واضحا، ونظرة إلى أبرز "المثقفين"، الذين كتبوا بالعربية وقتها ستكتشف أن أغلبيتهم الكاسحة كانت من الفرس. 

لكن الأزمة لم تنته. فهذا التأثير البالغ للفرس قابله تخوف عباسي لاحق. ولا سيما أن قطاعا كبيرا من الفرس ألحقوا أنفسهم عسكريا بمعارضة شيعة علي لخلافة بني العباس. فعمد الخلفاء العباسيون إلى تقسيم السلطة في بطانة الحكم إلى سلطة ثقافية لا بأس من التأثير الفارسي فيها، وسلطة عسكرية استجلبوا لها مقاتلين من الأناضول، ومن الأسرى الأعاجم الذين يتحصل عليهم مقاتلو الأناضول هؤلاء. سنسمي الجميع أتراكا تجاوزا. 

صارت القوة العسكرية الضاربة لجيش الخلافة تعتمد على مماليك أتراك، بعد أن كانت في حربها ضد الأمويين تعتمد على الفرس. 

تعاظم نفوذ الأناضوليون وسكّان آسيا الوسطى، حتى صاروا هم أنفسهم دولة (السلاجقة) دولة هجينة بين الترك والفرس، عضلاتها تركية وعقلها فارسي. أيامها انتشرت مقولة: "تركي بلا فارسي، قبعة بلا رأس". لكن الصراع بين العنصرين لم يتوقف، كان الاعتماد الثقافي على الفرس مقلقا للأتراك المسلمين الذين كانوا في الأصل قبائل رعوية ضمن أراضي إمبراطورية بيزنطة. احتاج هذا الصراع إلى قرون لكي تنمو الشخصية التركية كشخصية ثقافية، وريثة لبيزنطة. على يد العثمانيين. 

وانقسمت السيطرة على المنطقة الإسلامية إلى نفس الحدود القديمة بين الساسانيين الفرس والبيزنطيين الروم. لكن الفرس هنا تمثلهم دولة الصفويين، وبيزنطة دولة العثمانيين. 

أين العنصر العربي هنا؟ لم يعد موجودا لا في السلطة، ولا مهما في البلاط، ولا مؤثرا في العسكرية. لقد وصل خلال قرون التنافس العثماني الصفوي إلى حضيض وجوده. ولحق بهويات أخرى تدهورت سابقا عن مراكز صنع القرار، كهويات الحضارات القديمة. 

لكن يبقى أن العنصر العربي يفقد حتى تأثيره اللغوي، وهي اللحمة، التي جمعت الحضارة الإسلامية على اختلاف أشخاصها، ودولها، وأجناس قادتها. الفرس لم يتحدثوا اللغة العربية أصلا لكن نخبتهم كتبت بها واشتهرت بها، والآن توقفت عن ذلك، وهي تسحب البساط من العرب حتى في التأصيل الديني الشيعي، بحوزة "قم"، في مقابل حوزة "النجف" التاريخية.

والأتراك - تعبيرا عن هويتهم الوطنية - ينبذون حتى الحرف الكتابي العربي.

كان طبيعيا في تلك الظروف أن تستدعي الهويات نفسها. الهوية المصرية بداية من القرن ١٩، والهوية العربية في الجزيرة في نفس الفترة تقريبا. وإن بمسارين مختلفين. 

هذا مفهوم. لكن غير المفهوم أن يخرج بين ثنايا تلك الهويات المعبرة عن أنفسها أشخاص ينسبون أنفسهم إلى الفرس والترك أكثر من هوياتهم الوطنية. لقد انقلب الحال تماما. فرأينا شخصا كحسن البنّا وجماعته ينتفضون بعد 4 سنين من سقوط الامبراطورية التركية معلنين أنفسهم جندا لصالحها. ثم رأينا آخر كحسن نصر الله يفعل الشيء نفسه لصالح الفرس. 

في عصر الهويات الوطنية، بدءا من الثورة الفرنسية صعودا، وفي ظل حرص تركيا نفسها على تمجيد هويتها الوطنية وحرص إيران على فرض هويتها، فإن قوما كالإخوان المسلمين وحزب الله لا يستحقون سوى التحقير، لا التوقير والتكريم. 

لو كان هؤلاء في عصر صراع الإمبراطوريات القديم، لوصفوا بمماليك الترك والفرس، بمرتزقة الترك والفرس. 

أما الآن فهم أقل من ذلك، لأنهم يسترزقون بالإصرار على محو الهويات الوطنية لدولهم. وإلحاقها بدول تصر هي نفسها على هوياتها الوطنية. 

هذا يقول "طز في مصر" ويمجد تركيا، وهذا يتشرف بخدمته طهران ويعتبر بلده أرضا مستأجرة تسدد إيران أثمان أبنائها. وليس غريبا أنهما يتحالفان مرة بعد مرة. وسيتقاتلان بعد أن ينتصرا علينا. لو سمحنا لهم بأن ينتصرا علينا.