يتساءل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بعد الانتخابات البرلمانية قائلا: "لماذا لا يحترمني الإعلام الغربي؟ أنا رئيس انتخبت ديمقراطيا بنسبة 52% والحزب الموالي لي فاز اليوم في الانتخابات بنسبة قريبة، لماذا لا يقبل الغرب بهذه النتائج ويتجاهلها؟".
قد يبدو للوهلة الأولى أن تساؤل أردوغان في محله، لكن الحقيقة هي أنه يتلاعب بالمصطلحات بشكل خطير يجب الوقوف عنده، لأنه يحمل في مدلولاته تشويها كبيرا لمفهوم الديمقراطية. وهنا يجب الانتباه لعدة نقاط:
أولا: بمفهوم الحساب والأرقام الذي يطرحه أردوغان فإن فوز أي رئيس في تركيا في الانتخابات الرئاسية يستلزم حصوله على أكثر من 50%، وعليه فإن نسبة 52% ليست انتصارا كاسحا ولا غير مسبوق، ناهيك عن أنها تعني أن هناك 48% من الناخبين ضده. وبنفس المنطق فإن نسبة الناخبين الذين "يكرهون" حزب العدالة والتنمية 51% وهي أكبر من نسبة 49% "يحبونه" وصوتوا له!!!!!
ثانيا: وهو الأهم، يخلط أردوغان هنا - كما تعود سابقا - بين الشعبوية أو الشهرة وبين الديمقراطية، فليس صحيحا أن كل مشهور أو محبوب هو بالضرورة زعيم ديمقراطي، ومثال الزعيم الألماني أدولف هيتلر مازال يدرس، فهو تحول الى دكتاتور بفضل شعبيته، وبفضل أصوات الناخبين، لأنه ببساطة اختصر الديمقراطية في صندوق انتخابات، وغيّب مرتكزاتها الباقية؛ أي حرية الرأي والتعبير وسيادة القانون.
فلصندوق الاقتراع والحرية والقانون مرتكزات أساسية ثلاثة لا غنى عنها للديمقراطية، وبدون أي واحدة منها لا يمكن الحديث عن ديمقراطية صحيحة ولا رئيس ديمقراطي. وعليه فلا يمكن لزعيم سياسي يكمم الأفواه ولا يحترم الدستور ولا القانون أن يكون رئيسا ديمقراطيا محترما لأنه "محبوب" أكثر من غيره من الزعماء السياسيين!
ثالثا: يحق لنا أن نتساءل، لماذا كان الإعلام الغربي يحترم أردوغان ويعتبره زعيما ديمقراطيا خلال فترة 2002 إلى 2008 حيث كانت شعبيته بين 34% إلى 42% فقط، بينما تراجع الاحترام له في السنوات التي تلتها على الرغم من أن شعبيته ارتفعت في الانتخابات إلى 52%!
فكثير من السودانيين، على سبيل المثال، دان بالاحترام للجنرال السوداني سوار الذهب لأنه ترك السلطة بإرادته وسلمها لحكومة منتخبة على الرغم من أنه جنرال إنقلابي، لم يأت من خلال صندوق اقتراع!! وعليه فإن الاحترام يأتي بناء على تصرفات وسياسات الزعيم وليس بناء على درجة شعبيته في الداخل.
صحيح أن الجميع يحترم فوز حزب العدالة والتنمية في الانتخابات، وبالتالي يحترمون فوز أردوغان بالرئاسة، والاحترام هنا في الأصل موجه لإرادة الناخبين وليس لشخص المنتخب، فإن تصرف الشخص المنتخب وفق معايير الديمقراطية الأساسية، التي انتخب من أجل صونها ورعايتها، توسعت دائرة الاحترام لتشمله هو أيضا.
رابعا: الكل في تركيا يعرف أن الرئيس أردوغان لم يحترم منذ اليوم الأول نتائج انتخابات يونيو الماضي، التي أفقدت حزبه الأغلبية في البرلمان، ولم يحترم إرادة الشعب التي دفعت باتجاه تشكيل حكومة ائتلافية وفق النتائج؛ فمنع تشكيل حكومة ائتلافية من خلال تهديد داود أوغلو - باتهامه بالانتحار سياسيا وتحريك كوادر الحزب ضده - كما وضع العصي في دواليب المباحثات على تشكيل الحكومة، وحرم أحزاب المعارضة من فرصة السعي لتشكيل الحكومة، وحدد هو بنفسه تاريخ الانتخابات بدلا من اللجنة العليا للانتخابات. وباختصار، يحترم الرئيس أردوغان إرادة الناخب ونتائج الانتخابات فقط عندما تصب في مصلحته.
خامسا: الجميع في تركيا بات يعلم أن أردوغان افتعل الخلاف مع حزب العمال الكردستاني، الذي كان بدوره يتحين أي فرصة ليمارس شهوته في القتل والتفجير وإبراز العضلات على الأرض. فما كان على أردوغان إلا أن يرخي الحبل له من خلال استهداف معاقله في جبال قنديل، وهو يعلم - أي أردوغان - أن ردة فعل الكردستاني على ذلك سيكون بالتفجير والقتل.
واستغل أردوغان هذه الحرب الدموية من أجل رفع أصوات حزبه. فإن كان يرى أن هذه الوسيلة مباحة في عالم السياسة لاستعادة الأصوات الهاربة - كما فعل بلير وبوش في غزوهما العراق لمآرب أخرى تخدمهما سياسيا - فإن ذلك أبعد ما يكون عن الاحترام.
سادسا: الكل شهد في تركيا خلال الحملة الانتخابية الأخيرة كيف خرج قياديو حزب العدالة والتنمية لتهديد الناخبين بشكل فج وبعدة أشكال، فبدلا من حملة انتخابية يكون شعارها "انتخبونا كي نحل مشاكلكم ونأتي لكم بكذا وكذا"، كان التركيز على "إن لم تنتخبونا فالويل ثم الويل، الإرهاب سيستمر، والعنف سيستمر، والاقتصاد سينهار".
بل إن داود أوغلو هدد الأكراد في محافظة فان بعودة عهد الاغتيالات والاختطاف والتعذيب على يد المخابرات الذي كان سائدا في تسعينيات القرن الماضي. فكيف نتوقع ردة فعل ناخب خائف يذهب إلى صناديق الاقتراع تحت كل هذا التهديد، هل تكون إرادته حرة؟
هل قدّم حزب العدالة والتنمية شيئا إيجابيا خلال الأشهر الخمسة الماضية منذ انتخابات يونيو الماضي وحتى الآن، أو حقق إنجازا مهما حتى ترتفع أصواته بهذا الشكل؟ أم أنه ابتز الناخب بشكل علني ليدفعه للتصويت من باب "مجبر أخوك لا بطل!" فهل هروب الناخب من الرمضاء إلى النار يعني أن الناخب ارتضى بالنار؟
ونختتم بمثال متداول بخصوص هذا الشأن؛ لنقل أن هناك قرية فيها 40 رجلا أسود و60 رجلا أبيض وانتخبت رجلا أبيض بفضل أصوات الغالبية البيضاء، فإن قام هذا الزعيم المنتخب ديمقراطيا بتغيير القوانين لصالح البيض فقط، وضيق الخناق على الإعلام التابع للسود، وأغدق المال على البيض وحرم السود من العمل، وجاءت انتخابات المرحلة الجديدة ففاز مجددا بأصوات الأغلبية البيضاء، فهل يعني أن هذا الرجل ديمقراطي!