وَقَـر في أذهـان العـرب والمسلـميـن، شعـوبـاً ونُـخـبـاً، ومنـذ عـهـدٍ بعـيد، شـعـورٌ حـادّ بـأنّ بيـنـنا والغـرب جَـفـاءٌ مستحـكم يبـلـغ بعـضُـه عـتـبات العـداء، خاصّـةً حيـنما يصـطـدم الفريـقـان ببـعضـهـما في نـزاعـاتٍ أو حـروب، وتـتعـسَّـر سبُـل التّـفاهُـم حـول أهـدافٍ متـقابلـة متـناقضـة.
ما كان هـذا مـن العـرب والمسلميـن محـضَ شعـورٍ حملتْ عليـه حـوادث وآلامٌ وجـراح؛ كـان وعيـاً تكـوَّن من تجـربـةٍ من المعاناة مـديـدة. وما كان الوعـيُ ذاك مغـلوطـاً أو مبـالَـغاً فيه أو متـلبِّـساً صـفةَ الضّـحيّـةِ ومتـوسِّـلاً حجّـةَ المظـلوميّـة - على ما يُـصِـرّ بـعـضٌ مـنّـا على تـرداده بـبّـغاويّـاً بتـعلّـة النّـقـد - وإنّـما أتـى وعيـاً مطابِـقـاً لواقـع حال عـلاقـةٍ كـنّـا فيها دائـماً، ومنـذ قيام أوروبـا الحديثـة، مـوضوعاً لـفعـل الآخـر، وما كان لنا أكثـر من حصّـةِ ردّ الـفعـل فيها. وحتّى حينما كان قسـمٌ من نخبـنا السّياسيّـة حازمـاً أمـرَهُ لجـهة توطيـد العلاقـة بالغرب سعيـاً نحو تحصيـل حـقوقـنا ومصالحـنا، ما كان يـأتي مطالبَـنا منه غـيرُ الصّـدّ وحقـوقَـنا غيـرُ النّـكران والجحـود. أمّـا مَـن عـالنَـهُ الاعتـراض ونـاهـض سياسـاتـه من النّـخب السّـياسيّـة العربيّـة فـتلـقّـى منه وجْـباتٍ متـعاقبـةً من العـقاب: تراوحـت بين العـقاب الاقـتصاديّ والحصار و(بيـن) الحـرب وتـدميـر الكيـان!
ولقـد كان فريـقٌ آخـر من النّخب الفـكريّـة والثّـقافيّـة العربيّـة يعـرف، على التّـحقيق، أنّ هـذه السّـيرة العـدائيّـة مع العـرب والمسلميـن هـي، إجـمالاً، سيـرةُ الغـرب خارج ديـاره مع الآخـر، وإنْ كـان حـظُّـنا نحـن منها أسـوأ من حظـوظ غيـرنا؛ وكان يعـرف أن لا سبيـل إلى ثـني هـذا الغـرب عـن السّـير فيها، مـن طـريق تـذكيـره الدّائـم بقـيـمه الحضـاريّـة الكـبرى؛ ذلك أنّـه غـربٌ لا يُـشـبـه نفسَـه خارج مـوطنـه، ولا شريعـة تحكُـمه (خارج ذلك المـوطـن) سـوى شريعـة القـوّة. وكَـمْ من مـرّة اصـطدم هـذا الفـريق من النّـخب بكـثيرين منّـا جـرّبـوا، عبـثـاً، أن لا يـروا في ذلك الغـرب وجهـه المظلِـم الكالـح فطـفِـقوا يلمّـعونـه أنحاءً مختـلفـةً من التّـلميـع متـوسّلين، في ذلك، منظـوماتـه الكبـرى التي صنعـتِ المدنيّـة الحديثة مستـشهـديـن بها، ولكـن ذاهـليـن - في الوقـت عيـنـه - عن حقيـقة تلك الازدواجيّـة الصّارخـة التي ظـلّ يـنـطوي عليها: غـرب العـقـل والحريّـة والـدّيمقـراطيّـة والأنـوار، من جهـة، وغـرب الهـيمنـة والتّـسلّـط والتّـمركـز الـذّاتـيّ والعنـصريّـة والاستعـمـار من جهـة ثانيـة. وما مـن شـكٍّ في أنّ الكـثير من سوء الفـهم والتّـقـدير للغـرب - إنْ سِـلْـبـاً أو إيـجـابـاً - إنّـما مَـأْتـاهُ، في المقـام الأوّل، من الذّهـول عن ذيّـاك الازدواج في شخـصيّـته وفي سلـوكـه السّـياسيّ. وكما سَـقَـط فيه مبجِّـلةُ الغـرب ممّـن دبّـجـوا أُمـدوحاتٍ فيـه، سـقـط فيـه القادحـون فيه من معارضيـه، خاصّـةً أولئـك الذين نـفـوا عنه أن يكـون صاحـب أيّ نصيـب في صنـع الحضـارة وأسباب التّـقـدّم، وما بارحـوا النّـظر إليه بِـما هو خطيـرٌ على الهـويّـة والأنـا الحضاريّـة؛ وأكـثـرُ القادحيـن فيه أُولاء من الأصاليّـيـن.
الوعـيُ برسـوخ هـذه الازدواجيّـة في تكـوين الغـرب، والرّغبـةُ في الخـروج من النّـفـق المسـدود الذي دخـلـته فيه هـذه المضاربـة الإيـديولوجيّـة بين مبجَّـلةِ الغـرب والقادحيـن فيه، كـانـا في جملـة أسبـابٍ حَـمَلَـتْـنا - في أحـد كـتـبنا - إلى الـدَّعـوة إلى وجـوب التّمـييز بين الغـرب السّياسيّ والغـرب الثّـقافـيّ، سعـيـاً في عـدم تحميـل فـتوحاتـه الثّـقافـيّـة والمعـرفـيّـة أوزار سياساته الاستـعماريّـة والعنـصريّـة. ومع إدراكنا بنسبيّـة هـذا التّمييـز ونسبيّـةِ قـدراتـه على بيـان حـدود الاتّـصال والانـفـصال بين البُـعْـدين المتـقاطبيْـن في شخصيّـة الغـرب؛ ومع إدراكـنا بأنّ الانـقسامَ فيه ليس واقـعاً بين فُـسطاطـيْ السّياسـة والثّـقافة، بـل هـو معتـمـلٌ حتّـى داخل الفُسطـاط الواحـد على نحـوٍ يـوزِّعـه بين فريـقيـن ورؤيـتـيْـن ومسلـكـيْن، إلاّ أنّـا جـرّبـنا أن نـفـكّ الاشتـباك بذاك التّـمييز من باب الاحتفـاظ لكـلٍّ من السّـياسيّ والثّـقافـيّ بنـصابـه، ثمّ بغيـة حفـظ المسافة الموضوعيّـة بين الفـكـرة والممارسـة وعـدم محاكمـة الأولى بما فعلـتْـه الثّـانيـة (السّياسـة) أو أخْـذِهـا بجريرتـها. بالجملة، تَـغَـيَّـا التّـمييزُ الاحتـفاظَ للـثّـقافـيّ، في تاريخ الغـرب الحـديث والمعاصـر، بمقامـه البـهيّ في ذلك التّـاريخ والكـفّ عـن تلويـث صـورته وسيرته بما أَتَـتْـهُ أفعال السّـياسيّـيـن الأوروبـيّـيـن والأمريـكـيّـيـن من قبيح المنـكَـرات، والاحتـفاظ لهـذا الثّـقافـيّ - في الآن عيـنِـه - بسلطـةٍ معياريّـة تسمـح بـزِنـةِ السّـياسات الغـربيّـة بميـزان معاييـره.
اليـوم، لمناسبـة هـذا العـدوان الإسرائيـليّ المتـمادي على غـزّة منـذ أشهـرٍ ثلاثـةٍ ونصفِ الشّـهر؛ ولصمـتِ قبـورٍ ينـبعث من داخل بيئـات المجتمـع الثّـقافـيّ الغـربيّ أمام فاجعـة القـتـل اليـومـيّ للأطـفال والنّسـاء في غـزّة: صمتـاً يضع كـلّ المخـزون الثّـقافـيّ والفـكـريّ الغـربيّ موضـعَ امتـحانٍ عسيـر...، ما عُـدْت أجـد في التّميـيز ذاك ضالّـةً ولا وجْـهَ منفـعة؛ حيث الفُـتـوقُ رُتِـقَـتْ والمسافـاتُ ضُـيِّـقت بين حكـومات الغـرب ونخبـه الثّـقافـيّـة، وحيث حـركةُ بيـكـارِ الاِتّـهام والاِشتـباه بـات يسـعها أن تـذهب نحـو الاستـدارة الكاملـة! إنّـها، حـقّـاً، لفضيحـةٌ صارخـة للوعـي الغـربيّ النّـخـبـويّ؛ وعـي الفلاسفـة والمـفـكّـرين والأدباء والفـنّـانيـن... (مـا خلا القـليل القـليل منهم)، أن يقـف مشدوهـاً وقـد بَـلَـعَ لسانَـه أمام إرادة المـوت والقـتـل والإبـادة الجماعيّـة. هـذا، طبـعاً، عَـدَا عـن أنّ بَعـض مَـن مَـلَـك الجـرأةَ وتَـكلّـم، قـال باطـلاً بانت معـه الجـرأةُ تلك جـرأةً على الحـقّ لا غيـر، وجُـبـناً في قـوله أمام أهـل الباطـل!
أيُّ رِدّةٍ ثـقـافـيّـة هـذه التي يشـهـد عليها الغـرب المعـاصـر!