ومع صيحة الذكاء الاصطناعي واستخدامه في برامج الزيف تلك، وإمكانية وصول أي شخص إلى تطبيقات مجانية تسهل عمليات تزييف الصوت والصورة، أصبح الزيف العميق مشكلة حقيقية تجعل مئات الملايين عرضة للتضليل والابتزاز والسرقة وغير ذلك.

يلقي البعض باللوم على التطور التكنولوجي وانتشار البرمجيات الرقمية التي تسمح لأي شخص بالقيام بذلك الزيف العميق. والآن، ربما نلوم الذكاء الاصطناعي أيضا على أنه يزيد من سهولة واتقان تلك العمليات بما قد يؤدي إلى فقدان البشر الثقة في أي شيء وكل شيء. وتلك كارثة حقيقية فعلا إن وصل المر إلى هذا الحد.

لكن، من قال إن هذا الزيف العميق بدأ مع برمجيات الكمبيوتر وانتشار الإنترنت واتساع نطاق وصول البشر إليها عبر الهواتف الذكية؟ وهل فعلا هذا الخطر داهم فعلا ويمكن أن يؤدي إلى انهيار المجتمعات؟

أتصور أن في ذلك مبالغة كبيرة. فالتزييف، العميق وغير العميق، سابق على أيامنا هذه وسابق على التطور التقني وحتى على الإنترنت. وهو موجود منذ وجدت وسائل الاتصال، من البدائية عبر خطابات الساحات والميادين إلى "المنادي" في الشوارع والأزقة ثم عبر الصحف وغيرها من وسائل الإعلام والاتصال.

منذ بدأ البشر التكاثر على الأرض والانقسام إلى مجموعات وتطورت نظم إدارة شؤونهم والزيف موجود، في أغلب الأحيان تحت أسماء براقة وأوصاف دخلت كتب التاريخ والاجتماع السياسي كمسميات حميدة ومقبولة. إذا ما راجعنا كثيرا من التاريخ القديم والأوسط، وحتى المعاصر، يمكن أن نكتشف عمليات تزييف بعضها واسع النطاق إلى الحد الذي يضاهي ما نسميه الآن بالتزييف العميق. بل إن ذلك كان أكثر خطورة، لأنه لم يسهل اكتشافه، وبالتالي شكل الرأي العام في وقته وصبغ الروايات التاريخية بتلفيق متقن نعتبره الآن تراثا نستلهمه.

من دعايات التعبئة لشحذ الروح المعنوية في صراعات القبائل البدائية وحروب ممالك المدن في أوروبا القرون الوسطى حتى عصرنا الحالي إلى حملات الدعاية السياسية والتجارية، كان هناك زيف هائل – سمه عميقا أو غير عميق، لكنه موجود.

صحيح أن العلم يساعد بتطوره على اكتنشاف بعض الزيف، حين تقارن الروايات وكتب التاريخ – الذي يمليه أصحاب الغلبة وليس دائما بصدق – مع الآثار المادية والوقائع الحقيقية التي قد تحفظها الطبيعة. لكن العلم لا يحيط بكل شيء، كما أن العلم ليس مطلقا في حياديته وموضوعيته، لأنه أحيانا ما يعمل لصالح السلطة الموجودة في وقته أو تحت تأثير المال والأعمال.

حتى الآن، ما زال المؤرخون يعيدون زيارة الكثير من الوقائع والروايات التي وثقنا فيها ونحن نتعلم دروس التاريخ في المدارس والجامعات. وبإعمال العقل النقدي، نكتشف أن كثيرا مما سلمنا به على أنه "حقيقة" كان زيفا، أو على الأقل ليس سردا لوقائع أكثر منه آراء يحكمها الهوى. وفي تلك الأوقات كانت هناك أيضا الأخبار الزائفة وأنصاف الحقائق التي تكتمل بالتلفيق لغرض ما.

حتى في القريب، نجد أن تاريخ الحربين العالميتين في القرن الماضي مليء بالتلفيق والتزييف على رغم الضحايا بالملايين – وهي الحقيقة الثابتة طبعا. بل لعل ما شهده جيلنا من وقائع بأم عينه على شاشات التلفزيون وقرأ أخباره مباشرة وسمع خطابات وتصريحات السياسين بشأنه كان به من الزيف أكثر من الحقيقة. فقبل عقدين فقط كانت حرب غزو واحتلال العراق التي بنيت على زيف عميق هو "أسلحة الدمار الشامل". والمثال الصارخ هو ذلك "الدوسيه" الشهير الذي قال رئيس وزراء بريطانيا وقتها إن مخابرات بلاده أعدته ويثبت أن العراق قادر على تطوير قنبلة دمار شامل في ساعة إلا ربع. ثم انكشف الأمر فيما بعد بأن كل ذلك تلفيق وتضليل، وقد كان حقا تزييفا عميقا. ومثله أيضا تلك الخرائط والرسومات التي عرضها وزير خارجية أميركا وقتها على العالم من خلال شاشات الأمم المتحدة، ثم اعتذر عنها بعد ذلك بسنوات أنها كانت تزييفا عميقا.

ربما الفارق بين الزيف، عميقا أو غير عميق، من قبل وحتى منذ بداية التاريخ والآن هو أنه كان في السابق حصريا للحكومات والسلطات وأصحاب القوة والنفوذ. من كانوا يستطيعون تزييف المعلومات لأغراض معينة، وفي مراحل متقدمة تزييف الصور وغيرها ولو بطرق بدائية. أما الآن، فالأمر متاح للجميع وكأننا وصلنا إلى مرحلة "ديموقراطية التزييف".

في السابق كان من الصعب اكتشاف التزييف، وحتى لو تشكك البعض فما كانوا يستطيعون مواجهة سلطة وسطوة المزيفين. أما الآن، فكلما تطور برنامج للتزييف تطور برنامج لكشفه في سباق منتجات رقمية استهلاكية أصبحت قطاعا يساوي مئات المليارات.

رغم كل ذلك، استمرت البشرية في مسار تطورها وإن تغيرت خريطة الدول والمجتمعات إلا أنها وجدت طريقها للبقاء رغم وجود الزيف. وربما لا تعدم البشرية أيضا ابتكار الطرق التي تجنبها الأضرار الكارثية للزيف العميق الحالي كما تجازوت مضار الزيف غير العميق في السابق.