ربما في ذلك تصرف يتسق مع من يحاولون دوما، نتيجة عقد الدونية والنقص، أن يكونوا ملكيين أكثر من الملك أو كاثوليكيين أكثر من البابا، لكن ما نشهده في السنوات الأخيرة خاصة في بلدان منطقتنا يتجاوز ذلك التفسير بمراحل. اتضح ذلك جليا بداية العقد الماضي مع الانتفاضات الشعبية في عدد من دوله، وإن كان موجودا من قبل لكن ليس بالشكل الذي انكشفنا عليه منذ 2011.

والفكرة ليست قاصرة على أصحاب أيديولوجية معينة، مثل الجماعات الخارجة من عباءة تنظيم يتسربل بالدين ولا يقيم وزنا أصلا لفكرة الوطن، إنما تشمل إلى حد كبير غيرهم من مختلف المناحي والمشارب، وهؤلاء لا يفتون فيما لا يخصهم أكثر من اصحاب الشأن، لكنهم يزايدون في علو الصوت وهم كما يقول المثل الشعبي "اللي إيده في الميه مش زي اللي إيده في النار".

بالطبع لعبت وسائل الاتصال الحديثة عبر الإنترنت دورا في ذلك الانكشاف، كما أنها غذت أيضا هذا الاتجاه الذي أفرز من يسمون "نشطاء" و"مؤثرون" وغير ذلك من التسميات، ومما عزز بروز دور هؤلاء الذي يزايدون على أهل البلاد، خاصة في الكوارث والأزمات وبشكل سلبي في أغلب الأحيان، تيار عالمي صاعد من الآراء السطحية والتحليلات التلفيقية والتشويه المعرفي.

ذلك التيار الذي لا يقتصر فقط على أصحاب نظريات المؤامرة من المضللين والمارقين، وإنما للأسف نجده أحيانا بقدر أو بآخر في تصريحات السياسيين والمسؤولين، خاصة في الغرب الذي يوصف بأنه "متقدم" و"متنور"، وفتح ذلك الباب أمام تغلب الأهواء في الآراء التي أحيانا تكون عكس الواقع الفعلي على الأرض.

ولأن منصات التواصل ملأت الفراغ الذي تركه تدهور التعليم وتراجع مهنية وسائل الاعلام والاتصال التقليدية، أصبحنا عرضة لسيل من "فتاوى" الآراء التي تدعي التنوير وتزعق في كل من يختلف معها بتهم من قبيل "الجهل"، و"التعلق بشعارات عفا عليها الزمن"، و"الظلامية ومعاندة التغيير"، إلى آخر تلك المقولات البراقة التي تغطي في الواقع خواء وعجزا لدى هؤلاء المتنورين الجدد.

أتاحت وسائل الاتصال الحديثة للجميع أن يصلوا للجميع، ولكل من رغب أن يكون "محللا" و"خبيرا" وصاحب رأي يفتي فيما يعرف وما لا يعرف، وأخطر تلك الفتاوى ما يتعلق بإدارة شؤون الناس وتحديد سياسات الدول وتقدير المصالح الوطنية والحفاظ عليها.

وهنا، مرة أخرى، تجد هؤلاء الذي يعيشون في بلد ما قدموا إليه من بلد آخر طوعا أو كرها، أكثر إفتاء من أهل البلد أنفسهم ويدعون "تقدمية" و"تنويرا" مريبا إلى حد كبير، البعض يفعل ذلك ركوبا لموجة أو مسايرة لما هو رائج ومثير، والبعض يفعله وهو يعي آثاره الكارثية على المجتمع الذي يعيش فيه لكنه يتوقع استفادة مما بعد الكوارث، وهذا النوع الأخير أشد خطرا وأكبر ضررا.

يلبي هؤلاء المتنورون الجدد حاجة لدى قطاع واسع من الناس يتصورون أن في الخروج على السائد العام إنجازا، هؤلاء المتنورون الجدد، مثلهم مثل كل "الجدد" من تيارات كالليبراليون الجدد والنازيون الجدد وغيرهم، يستفيدون من فقدان الجماهير ثقتها في السائد التقليدي وجريها وراء "المثير" على طريقة تطبيقات "تك توك" و"سناب تشات".

قد يبدو كل ذلك عاديا ومفهوما في سياق التغيير الدائم الذي تمر به البشرية في مراحل تطورها، وأن الانتقال من مرحلة إلى مرحلة شهد دوما توجهات وتيارات ممثلة بشكل أو بآخر. لكن يبقى السؤال: هل وصلنا فعلا إلى ظلامية وجهل بالقدر الذي يستدعي أن نسير وراء فئة من الملفقين والمضللين يدعون التنوير؟ إننا بذلك نسير على خطى ما أدى إلى بروز جماعات إرهابية بدعوى "الصحوة الاسلامية" في السبعينيات والثمانينيات.

قد يكون هذا المد من المتنورين الجدد رد فعل منطقي على تلك الجماعات من "الظلاميين الجدد"، لكن المشكلة أنهم "يلعبون على الأرضية ذاتها" ويقودون الناس -بقصد أو بدون- في اتجاه تطرف على الجهة الأخرى لن يكون تأثيره أقل سوءا من تأثير جماعات التشدد الأصولي.

ربما هي ظاهرة ليست قاصرة على منطقتنا وإنما يمر بها العالم كله، لكن مثل هذه التطورات تكون أكثر حدة في مجتمعات مثل مجتمعاتنا لم تمر بمراحل التطور التي مرت بها أوروبا أو غيرها.