تبدو القيم، في هذه العلاقة المركَّبة، حاملةً سِمتيْن لا تنفصلان فيها: المحدوديّة والدّيمومة؛ محدوديّة في الزّمن يفرضها انتماءُ القيم إلى حقبة زمنيّة بعينها (حقبة جِيليّة مثلاً)، وديمومة فيه - وإنْ كانت نسبيّة - يفرضها ما تُضْمِرُهُ القيمُ فيها من ثوابتَ تستمرّ مفاعيلُها الاجتماعيّة لآمادٍ من الزّمن ممتدّة لا تُقاس بأعمار الأجيال، بل بالمِئين والآلاف من السّنوات.

من الواضح أنّ الكلام على القيم، هنا، كلامٌ على القيم الاجتماعيّة والأخلاقيّة والثّقافيّة لا على القيم الماديّة التي ليس من امتدادٍ ملحوظ في زمنيّتها مثل الأولى. وحين تكون علاقة القيم بالزّمن على هذا النّحو من التّردُّد بين الزّمنيّة المحصورة والزّمنيّة الأفقيّة العابرة، فمعنى ذلك أنّ لها زمنَها الخاصّ الذي ليس هو الزّمن الوقائعيّ بإطلاق، أوْ قُلْ - للدّقة - لها زمنٌ هو مزيج من زمن الظّاهرة والزّمن الموضوعيّ للمجتمعات والنّاس. نعني بزمن الظّاهرة زمنَها الذّاتيّ الدّاخليّ الذي تتطوّر فيه لا زمنَها الموضوعيّ الخارجيّ. وليس المفهومُ من ذلك أنّ الظّاهرة الاجتماعيّة تنشأ وتنمو بمعزلٍ عن شروطها الموضوعيّة الخارجيّة. بل القصْدُ القول إنّ آلياتها الدّاخليّة هي التي تقرِّر وجهة تطوُّرها، بما في ذلك الزّمنَ الذي يقتضيه تطوُّرُها وبقاؤُها وتحوُّلُها، فيما قد تكون شروطُها الموضوعيّة من العوامل المساعِدة.

لنُبيِّن، إذن، هذه الماهية المزدوجة في القيم؛ الثّبات والتّحوّل:

حين نصف منظومةً مّا من القيم؛ أخلاقيّةً- اجتماعيّة كانت أو ثقافيّة أو جماليّة بأنّها تقليديّة أو حديثة أو تنتمي إلى حقبة زمنيّة بعينها، فنحن نشير، ابتداءً، إلى منظومة قيم جماعيّة تشترك فيها فئاتٌ اجتماعيّة عدّة داخل المجتمع المعْنيّ بحديثنا لا قيماً خاصّةً ببيئةٍ اجتماعيّة من دون سواها. لكنّنا، في الوقت عينِه، نشير إلى قيم عابرةٍ للزّمن؛ تتجاوز عمر الجِيل الواحد والجِيلين وأكثر وتمتدّ لمئات السّنين على نحوٍ يُعاد فيه إنتاجُها من المجتمعات نفسها التي تخضع لسلطان تلك القيم. في هذا المستوى الأفقيّ من تعبير القيم عن نفسها تبدو لنا تلك الزّمنيّةُ الخاصّةُ التي تتمتّع بها القيم؛ الزّمنيّةُ التي لا تتساوق وزمن أجيال المجتمع بل تفيض عنها كثيراً. وهي وحدها التي تسمح بقدرٍ مّا من الثّبات في منظومة قيم مجتمعٍ مّا بحيث تنتقل - بالتّربيّة والتّكوين - من الأجداد إلى الآباء إلى الأحفاد، وتسمح بمعرفة الأسباب التي أَمْكَن معها لتلك القيم أن تتعمّم في النّسيج الاجتماعيّ برمّته فتصير جماعيّة، مثلما تبرّر للباحث في الموضوع أن يتحدّث، بقدرٍ من الاطمئنان، عن وجود سِمات قيميّة خاصّة في هذا المجتمع أو ذاك من حيث هي محصَّلة تاريخٍ وتراكُمٍ ومواريث...

في مقابل هذا الثّبات، وفي صلةٍ به لا تنقطع، تبدو القيم متحوّلةً في مجرى التّحوُّلات الاجتماعيّة. حين نتحدّث، مثلاً عن قيم الجِيل السّابق أو قيم الجيل الحالي أو قيم سنوات السّبعينيّات.. فنحن نتحدّث عن منظومات قيم متبدّلة ومنتقلة من طورٍ إلى طور. قد لا يكون التّحوُّل فيها كاملاً وشاملاً، بل قد لا يجاوِز حدوداً بعينها (والأغلبُ عليه ذلك لأنّ آلية التّحوُّل في القيم أقلّ أثراً من آلية الثّبات)، ولكنّه التّحوُّل الذي يَنْقُل إلى منظومة القيم، بالتّدريج، عناصر أو موادّاً/قيماً جديدة لم تكن مألوفة. والغالب على هذا التّحوُّل الحاصل في القيم أنّه يحدُث بأثرٍ مباشر من قيمٍ وافدة من خارج المنظومة القيميّة المجتمعيّة. وكما يمكن لهذه القيم الواحدة أن تصطدم، في حالات، بمنظومة القيم السّائدة يمكن للمنظومة هذه، في حالات أخرى، أن تُكَيِّف الوافدَ عليها من خارجها من قيمٍ مع ما تنطوي عليه هي من قيمٍ قصد استيعاب الوافد ومنْعِ اصطدامه بنقيضه. وفي هذه العمليّة من إبطال المنظومة مفعول التّحوُّل في ثابتها، تكون هي قد أخضعت نفسها إلى قدْرٍ قليلٍ من التّحوُّل لمجرّد أنّها استقبلتِ الوافدَ عليها من خارج ولم تَنْبُذْهُ النّبذ كلَّه...

يمكننا أن نرى إلى القيم، إذن، من قناة جدليّةِ الثّبات والتّحوُّل. هاتان آليتان تعتملان على نحوٍ من التّناغم يجعل من عملهما ذاك عملاً جدليّأً، لذلك لا انفصال في حركتهما ولا تناقُض. وهكذا فما يُدْرَك فيها بوصفه ثابتاً هو، على الحقيقة، يشهد على تحوُّلاتٍ فيه - وإن بطيئة - تتكيّف فيها ثوابتُه مع المتغيّرات المنهمرة من العالم الخارجيّ؛ وما يُدْرَك فيها بوصفه متحوِّلاً هو، بالضّرورة، ما يتحوّل حاملاً في جوفه سَمْتَه الموروث المتكرَّر الذي يَدخُل في علاقة تكيُّفٍ مع جديدٍ وافدٍ من خارج. ومعنى ذلك، أنّ الآليتيْن تعملان بتساوُقٍ وتضافُرٍ وتفاعل، وفي ذلك ما يشهد لهما بالجدليّة.